لا تزال عملية تدريس الفنون في الجزائر تواجه تحديات عدة تتعلق بالبنية التحتية والموارد البشرية والسياسات التعليمية، إضافة إلى تأثيرات التحولات الاجتماعية والاقتصادية، على رغم أن الفنون تمثل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية والتاريخية للشعب وتعد أحد ألوان التعبير الثقافي التي تمثل الهوية الوطنية والشعبية للأمم.

ومنذ الاستقلال، شهدت الجزائر اهتماماً متزايداً بالفنون باعتبارها أداة للتعبير عن الهوية الوطنية التي طمست خلال الحقبة الاستعمارية، وفي هذه الفترة، أُسست مدارس ومعاهد متخصصة في تعليم الفنون بمختلف مجالاتها من الرسم والموسيقى والمسرح، وكذلك الرقص والفن التشكيلي.

تحديات وتقلبات

ومع مرور الوقت، تطورت هذه المؤسسات ولكنها ظلت تواجه تحديات عدة، وبخاصة في ظل تقلبات السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

وتواجه عملية تدريس الفنون في الجزائر مشكلة التمويل وهي أحد أبرز التحديات، فعلى رغم وجود عدد من المدارس والمعاهد التي تختص بتعليم الفنون، فإن هذه المؤسسات غالباً ما تعاني نقصاً في الموازنات المخصصة لها، ويترتب على ذلك نقص في التجهيزات الفنية مثل الآلات الموسيقية وأدوات الرسم والمرافق الحديثة، كما أن عدداً من المعاهد لا تتوفر فيها تقنيات حديثة في تدريس الفنون الرقمية، وهي من المجالات التي تشهد نمواً عالمياً متسارعاً.

 

وتتسم المناهج الدراسية الخاصة بتعليم الفنون في الجزائر أحياناً بالقصور في التطور والحداثة، ففي بعض الأحيان تركز المناهج على الجانب النظري بصورة أكبر من التطبيق العملي، وهو ما يحد من قدرة الطلاب على اكتساب المهارات اللازمة في المجالات الفنية، كما أن هناك غياباً للربط بين الفنون والحياة اليومية، مما يقلل من قيمة الفنون في المجتمع بصورة عامة.

وعلى رغم أن البلاد تضم عدداً من الأساتذة المتخصصين في الفنون، فإن هناك نقصاً في الكوادر المدربة على التدريس في بعض المجالات الفنية الحديثة مثل الفنون الرقمية والتصميم الجرافيكي، كما أن وجود بعض الأساتذة في المدارس الفنية من دون تخصص أكاديمي في الفنون يؤثر بصورة واضحة في نوعية التعليم.

ولعل أبرز تحدّ يقوّض الجهود التي تبذلها الدولة في تعزيز تعليم الفنون، هو نقص في الوعي العام حول أهمية الفنون في بناء المجتمع، وفي كثير من الأحيان، يظل تدريس الفنون في المدارس الثانوية والجامعات في الجزائر محدوداً مقارنة بالتخصصات العلمية أو التقنية.

وبذلك، يُنظر إلى الفنون في بعض الأوساط على أنها مجال “للترف” أو “الهوى”، في حين أن قيمتها التربوية والاجتماعية والثقافية أكبر بكثير من ذلك، وينظر الكثير إلى الفن بصورة عامة على أنه ليس مصدراً للرزق.

غياب طويل

وغابت الفنون عن المنظومة التربوية في الجزائر طيلة عقود، واقتصرت المناهج على تدريس الموسيقى والرسم فقط في المرحلتين المتوسطة والثانوية، لكن يُعفى التلاميذ غالباً من دراسة المادتين لغياب المعلمين المتخصصين، فيما يعد تدريس المسرح غير ممكن.

وتأثر قطاع الفن بصورة كبيرة خلال ما يعرف بالعشرية السوداء (1990-2000)، حين استهدف متطرفون عدداً من المطربين والممثلين أبرزهم مغني الراي الأشهر حينها الشاب حسني والممثلان المسرحيان عبدالقادر علولة وعز الدين مجوبي، وكلهم من أعمدة الفن في الجزائر، كما اغتيل طلبة جامعيون يدرسون الفنون.

 

 

يرى الإعلامي الجزائري المهتم بالشأن الثقافي والفني صالح عزوز أن “السبب يرجع في الأساس إلى ثقافة المجتمع، فتدريس الفن بالنسبة إلى الكثير يعد مضيعة للوقت”. ويقول عزوز لـ”اندبندنت عربية” إن “الفن يمكن أن يكون موهبة تحتاج إلى التمرس وليس إلى تدريس، والدليل أننا لا نجد في مدارسنا اليوم، برنامجاً خاصاً بهذا المجال، أي مواد تدرس الفن في كل مجالاته، وإن وجدت فهي قليلة تعد على الأصابع، ولا تلبي طلبات من يريدون هذا التخصص”. ويستدرك المتحدث قائلاً “لكن أخيراً توجهت السياسة الجديدة في هذا المجال، لإدخال الكثير من المواد في البرنامج الدراسي ليكون لها كم مناسب كغيرها من المواد”.

ويؤكد عزوز أن معظم الفنانين زاولوا دراساتهم الأكاديمية ولا يمكن بكل حال من الأحوال أن ينجحوا في ميدانهم دون تلقي التعليم الأكاديمي العادي إلا في حالات نادرة، مضيفاً “يمكن لك أن تفرق بينهما في الميدان، بين من تابع الدراسة الأكاديمية ومن يمارس الفن اعتماداً على الموهبة والتمرس فقط”.

التحصيل المالي

من جهته، يقول الناقد السينمائي السوري المقيم في الجزائر محمد عبيدو “بداية لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة إحياء رغبة التفاعل مع الفنون عامة، ولن يحدث ذلك إلا بغرس هذا الحب في الصغر، في طور الدراسة تحديداً”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يضيف عبيدو أن “الأمر يتعلق بالحديث عن حضور أوسع وأكثر ترتيباً للسينما والمسرح والموسيقى في المدارس، بدءاً من الابتدائي وصولاً إلى المرحلة الجامعية، أي أن تكون الرؤية الفنية سواء منها البصرية والسينمائية أو السمعية في خضم التكوين التربوي”.

وبخصوص عدم وجود اهتمام أوسع لدى القائمين على المنظومة التربوية بالجزائر بتدريس الفنون، أرجع المتحدث ذلك إلى أسباب عدة منها “رؤية القائمين على إعداد المناهج التعليمية الخاصة بالفنون وتأثيرها في تنمية الشخصية وأهميتها كفرع مهم من فروع الدراسة أسوة ببقية الفروع كالعلوم واللغات وغيرها”.

ويتابع الناقد السينمائي “تدخل هنا أهمية الفن في بنية المجتمع ومدى تقدمه وحضوره أو تراجعه، وطبعاً تحضر النظرة إلى التحصيل المالي بالنسبة إلى دارسي وخريجي الفنون مقارنة مع ما يجنيه الطالب بعد تخرجه من الفروع الأخرى كالهندسة والطب والتجارة والأتمتة”. ويقول أيضاً “أعتقد أن فكرة تدريس الفنون تعد الحلقة الأضعف مقارنة بالمواد العلمية والأدبية واعتبارها مواد ثانوية بالنسبة إلى الطالب، نتج منها عدم الوعي بأن الإبداع الفني وإتقان المهارات الفنية، لهما انعكاسهما على الأداء الدراسي وتنشيط الذهن والتركيز، ما يضيف إلى المتلقي أثراً في التراكم العام الذي يحصل لدى الفرد في مشوار حياته”.

 

 

ويشير المتحدث نفسه إلى أنه “هنا يمكن التوجه لوزارة التربية في شأن اقتراح فروع للتربية الفنية بأنواعها وتعليمها كاختصاص بالمدارس لتكون التجربة الأولى من نوعها في تاريخ المدارس الجزائرية كي يتم توظيف الفنون في مجال التعليم بصورة فعالة وجعلها تأخذ موقعها في الخطاب التربوي”. ويجزم محمد عبيدو أن التعليم بالفن يساعد طلبة المدارس على بناء شخصيتهم عبر طرق إبداعية فنية مبتكرة وتنمية خيالهم وتقريبهم من أدوات الإبداع الفني كالآلات الموسيقية والألوان والصور السينمائية والركح المسرحي ما يكسر حاجز الرهبة لديهم تجاه الممارسة الفنية التي تتطور بالدراسة المعمقة والموهبة”.

عودة تدرجية

ومع بداية الألفية، عاد نشاط تدريس الفنون تدرجاً في الجزائر، ولو باحتشام، وأصبحت تضم مدرسة وطنية للفنون الجميلة ومعهداً عالياً لمهن فنون العرض والسمعي البصري وآخر للموسيقى يتخرج فيه متخصصون في هذه الأنواع الفنية كل عام.

وفي سبتمبر (أيلول) 2021، أعلنت وزارة الثقافة والفنون في الجزائر افتتاح مدرسة ثانوية متخصصة في الفنون تعد الأولى من نوعها في البلاد منذ استقلالها عام 1962، في مبادرة ترمي إلى تعزيز دور الثقافة والفنون والإسهام في تنويع اقتصاد البلاد.

وقالت وزيرة الثقافة، وقتها، صورية مولوجي، في تصريح صحافي، إن افتتاح ثانوية خاصة بالفنون “يرمي إلى تكوين جيل قادر على الإسهام في التنمية الوطنية، وإبراز دور قطاع الثقافة والفنون في تجسيد مشروع التغيير المنشود قصد الإسهام في تنويع الاقتصاد الوطني من خلال ترقية التربية الفنية في الوسط المدرسي وجعلها مشتلاً لتربية المواهب وتنميتها وطنياً في مختلف التخصصات والهدف سيكون الوصول إلى مدرسة نخبوية”.

 

تبعاً لذلك “تم تنصيب لجان الانتقاء المشتركة من أساتذة في تخصصات فنية تابعة لمؤسسات التكوين العالي تحت وصاية وزارة الثقافة والفنون، وزارت اللجان 50 ولاية لإجراء عملية الانتقاء، التي ترشح لها أكثر من 1000 مشارك وتم انتقاء 168 تلميذاً، بناء على سلم معايير جرى على ضوئها انتقائهم، كما تم اختيار مؤطرين لإخضاعهم إلى برنامج تكويني مكثف”.

وسرعان ما اشتعل سجال واسع، واحتدم الخلاف في مواقع التواصل الاجتماعي بين مرحب بقرار الحكومة يرى أنه يهدف إلى نشر الروح الفنية في أوساط المجتمع، وساخط يعتقد أن القرار ارتجالي وغير مدروس، فيما يرى الأكثر تشدداً منهم أن الأمر يتنافى والقيم الدينية للجزائريين ويستهدف تقليص تدريس مادة الشريعة الإسلامية.

وجاء استحداث ثانوية الفنون تنفيذاً لقرارات الرئيس عبدالمجيد تبون، القاضية بوجوب استحداث بكالوريا (ثانوية) فنية، ومن أجل ذلك تم إدراج شعبة الفنون هذا العام لتضاف إلى الشعب الست الأخرى في التعليم الثانوي.

وتم تفعيل بكالوريا الفنون بأربعة خيارات تتمثل في الموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح والسمعي البصري، وجرى انتقاء 157 تلميذاً بإحكام من ذوي المواهب من 52 ولاية، لمتابعة الدراسة فيها.

وبعد ثلاثة أعوام من افتتاح ثانوية الفنون في الجزائر، جاءت نتائج أولى اختبارات البكالوريا في تاريخها، مفاجئة للجميع، بإحراز نسبة نجاح باهرة بلغت 79.45 في المئة.

ويبقى تدريس الفنون في الجزائر مجالاً مليئاً بالتحديات والفرص، وعلى رغم التقدم الذي شهدته المؤسسات التعليمية في الأعوام الأخيرة، فإن هناك حاجة إلى إستراتيجيات جديدة تضمن تعزيز هذا المجال المهم، من خلال تحسين المناهج الدراسية والاستثمار في التكنولوجيا، وتوفير مزيد من الدعم الحكومي والفني.

نقلاً عن : اندبندنت عربية