برفقة القوات الأوكرانية في عمق الأراضي الروسية

فيما ارتفع هدير العربة الأوكرانية المدرعة وهي تعبر الحدود متجهة إلى منطقة كورسك الروسية، التفت أحد أعضاء طاقمها إلى الوراء وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة. وقال ضابط آخر “عبرت الحدود مرات كثيرة منذ انطلاق عمليتنا في روسيا وكل مرة ينتابني شعور مذهل. ربما كان علينا أن نفعل هذا منذ وقت طويل”.

“اندبندنت” رافقت الجيش الأوكراني في جولة عبر أجزاء من مئات الأميال المربعة من الأراضي التي استولت عليها كييف عندما شنت هجومها المفاجئ عبر الحدود، الذي دخل الآن أسبوعه الثالث. كل قطعة أرض تم الاستيلاء عليها تمثل إذلالاً آخر لفلاديمير بوتين.

قطعت ناقلة الجنود المدرعة التي حملتنا الطريق الرئيس من مدينة سومي عاصمة المنطقة الأوكرانية المحاذية لكورسك، والتي تحمل الاسم نفسه. وتمايلت الناقلة واهتزت فيما كنا نتقدم بسرعة على طرقات مليئة بالحفر التي خلفتها المدفعية والصواريخ والقنابل الانزلاقية الروسية عند محاولتها استهداف مئات المركبات العسكرية الأوكرانية التي تسافر في كلا الاتجاهين.

تضمنت القافلة دبابات وناقلات جنود مدرعة ومركبات مدرعة خفيفة وصغيرة الحجم مثل سيارات “همفي” وشاحنات المؤن وناقلات الوقود والشاحنات الصغيرة وسيارات الدفع الرباعي التي طُليت باللون الأخضر الزيتوني- ولا تزال كثير منها تحمل لوحات ترخيص بريطانية بقيت على حالها عند وصولها إلى البلاد بعدما تبرع بها بريطانيون مؤيدون لأوكرانيا. وقد حملت بعض المركبات الأثقل، مثل دبابات تشالنجر البريطانية ومركبات القتال المدرعة الأميركية سترايكر وبرادلي، ودبابات ليوبارد الألمانية وناقلات الجند المدرعة ماردر، على متن ناقلات ضخمة أدخلتها إلى الأراضي الروسية.

حولت أولى المباني في الجانب الروسي، التي كان يشغلها سابقاً مسؤولو جوازات السفر والجمارك، إلى ثكنات لحرس الحدود والمجندين غير المدربين الذين فروا أو استسلموا في الغالب عندما شنت القوات الأوكرانية الرئيسة هجومها في السادس من أغسطس (آب). كما تحطمت جدران المباني الهشة المؤلفة من صفائح حديدية وسقطت أسقف الصفيح على وقع انفجارات القذائف، وامتلأت بالثقوب من رصاص الرشاشات فيما اجتاحت القوات الأوكرانية المنطقة بسرعة. 

كانت البلدة الأولى سودجا التي تبعد بضعة أميال فقط عن الحدود الأوكرانية وتعد مركزاً مهماً للطرقات وسكك الحديد، تستخدمه موسكو في تزويد قواتها المنتشرة في المنطقة كاملة بالمؤن بالإمدادات. ويشمل ذلك مدينة بيلغورود في الجنوب الشرقي، وهي منطقة محورية في محاولات روسيا دك خاركيف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، ودفعها للاستسلام.

 

وتحتوي محطة القطار في سودجا على نقطة دخول تسمح بمراقبة إدارة حركة السكك الحديد الضخمة في روسيا، ويجمع الأوكرانيون معلومات مهمة جداً هناك إذ يبدو بأن موسكو عاجزة عن قطع هذه الوصلة. كما تقول التقارير إن أوكرانيا قادرة على استخدام هذه النقطة للتشويش على حركة شبكة سكك الحديد الضخمة في روسيا. كما تسيطر أوكرانيا الآن على منشأة مهمة في سودجا، تراقب منها تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية من خلال أنبوب غاز يعبر الأراضي الأوكرانية.  

حملت مبان عديدة في سودجا آثار المعارك، وبدا بعضها مدمراً كلياً. وقال الجنود إن القذائف تنهمر يومياً على المدينة التي يسمع فيها دوي أصوات الانفجارات بشكل متواصل، في إشارة إلى تواصل احتدام المعارك مع محاولة القوات الأوكرانية التقدم أكثر.

أمام مبنى بلدية سودجا المتهالك، انتصب تمثال مهشم الرأس للينين، وانهمك المصور في الجيش أوليكسي دميتراشكيفسكي، بتعليق صور التقطها شخصياً على قاعدة التمثال تظهر الدمار والفظائع التي ارتكبها الجنود الروس بعد احتلالهم بلدات بوتشا وإيربين قرب كييف، في أول أيام الحرب في عام 2022.

وأوضح أن صوره عرضت في الكونغرس الأميركي وفي 10 دول، قائلاً “أنا أعلقها في أماكن بارزة داخل المناطق التي نسيطر عليها في كورسك لكي يرى الروس العاديون ما الذي فعله جنودهم في بلدنا. يزعم كثير من بينهم أنهم لا يمتلكون المعلومات ولا يعرفون ما حصل. وقد تذمر بعضهم من الدمار الذي وقع هنا. لكن ما حصل هنا لا يقارن بما فعلوه ويفعلونه إلى الآن في أوكرانيا، وأريدهم أن يتمكنوا من رؤية الصور وأن يفهموا ما الذي حصل باسمهم”.

وأضاف دميتراشكيفسكي “آمل أن يروا الفرق بين معاملتنا لهم من جهة وجرائم القتل والاغتصاب والتعذيب التي ارتكبها جنودهم في أوكرانيا من جهة ثانية”.

 

لاذ معظم الشباب الروس بالفرار من المنطقة فور تدفق القوات الأوكرانية عبر الحدود، فيما لم يبرح كثير من المسنين مكانهم، إما لأنهم لا يملكون القدرة على الرحيل أو لأنهم اختاروا البقاء. يخشى معظمهم القصف ويقضون أيامهم مختبئين في الأقبية. ويجلس آخرون خارج المباني السكنية أو ينتظرون عند نقاط توزيع المساعدات الإنسانية التي وضعها الأوكرانيون.

وقالت أولغا، البالغة من العمر 80 سنة، التي عاشت الجزء الأكبر من حياتها في سودجا، إنها وحيدة بعد أن فقدت زوجها وابنيها بسبب المرض على مر السنين. ومع أنها روسية الأصل، فهي تتحدث الأوكرانية بطلاقة لأنها قضت فترة طويلة عبر الحدود وتعرفت إلى أشخاص كثر هناك.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشرحت بأن التوغل الأوكراني حدث من دون سابق إنذار. وعندما حصل، حثت السلطات المحلية السكان على الرحيل من دون أن تقدم لهم أي مساعدة عملية تذكر. “لم يعرض علي أحد إخراجي من هنا عندما وصل الجنود الأوكرانيون، لكن أين عساي أذهب في كل الأحوال؟”.

ومثل غيرها من المدنيين الروس الذين ظلوا في البلدة ممن تحدثت إليهم “اندبندنت” وصحافيون آخرون، قالت أولغا إن معاملة الأوكرانيين لها حسنة، وإنهم يوزعون الطعام والمياه والأدوية على الناس.

وأضافت، “تصرف الأوكرانيون بشكل محترم ولم يتعرض أي مدني للأذى حسب علمي. قطعت عنا الكهرباء والغاز والمياه منذ أيام القتال الأولى ونحن نعتمد على الأوكرانيين للحصول على كل شيء”.

لكن عند سؤالها عن رأيها في الفظائع التي ارتكبها الجنود الروس في أوكرانيا، أجابت أولغا بطريقة بدت كأنها الإجابة المعتادة التي تقدم للجيش الأوكراني أو للإعلام وقالت، “لا نملك أي معلومات عما كان يدور في أوكرانيا لذلك لا نعرف ما الذي حصل هناك. نحن أشخاص بلا أهمية ولا أحد يكترث لرأينا. لم يرغب أي منا بنشوب الحرب”.

 

زعمت أولغا بأنها لم تصوت لصالح فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الروسية لأنها اعتقدت بأنه لا يمكن لأمثالها التأثير في نتيجة الانتخابات. وبعد سؤالها عن رأيها في الطريقة التي قد يستقبلها بها الناس في أوكرانيا إن زارت المكان مجدداً، ظهر القلق على ملامحها وشرعت بالقول، “آمل أن يحل التسامح والسلام….” قبل أن تتوقف، وكأنها قلقة من أن كلماتها قد تسبب لها مشكلات في وقت لاحق.

رافقت “اندبندنت” وصحافيون آخرون الجيش الأوكراني إلى بلدتين أخريين على بعد 12 ميلاً تقريباً من سودجا. وعندما عبرنا أحد الأنهار فوق جسر عائم يعج بالشاحنات وناقلات الجند المدرعة التي تحمل الرجال والإمدادات، ارتفع صوت الانفجارات في الاتجاه الذي كانت القوات الأوكرانية تتقدم فيه، وإن كان بوتيرة أبطأ مما كانت عليه في الأيام الأولى من التوغل.

ووراء الجسر، لاح الجنود من نوافذ ناقلة الجند الصغيرة وهم يشيدون التعزيزات- في مؤشر إلى عدم نية الجيش الأوكراني الانسحاب قريباً، حتى لو قال المسؤولون في كييف إنهم لا يريدون الاحتفاظ بهذه الأراضي التي استولوا عليها بصورة دائمة.

وفي إحدى البلدات، جلس السكان على المقاعد، محاولين الاحتماء من لهيب الشمس في ظل الأشجار، أثناء انتظارهم داخل مبنى مدرسة للحصول على الطعام والمياه.

كان أوليغ، 38 عاماً، من بين القلائل من الشباب الذين قرروا البقاء. وأوضح “طلب مني المسؤولون والأصدقاء الرحيل، وقالوا إن الأوكرانيين سيسيئون معاملتي، لكنني بقيت لأنني لم أرغب بالتخلي عن والدتي الطاعنة في السن ولا يمكنها السفر وكانت قلقة للغاية. رأيت أن واجبي العناية بها وبغيرها من المسنين”.

“لم يحل بي أي شيء، وقد تصرف الجنود الأوكرانيون بكل تهذيب معي. حتى إنهم جلبوا أطباء لمعاينة بعض المرضى”.

 

بعد الإلحاح في سؤاله عن رأيه في الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وفي الفظائع الموثقة التي ارتكبها الجنود الروس، ادعى أوليغ بدوره الجهل. وقال، “لا نملك أي معلومات عن الأحداث التي وقعت. وجميعنا نتمنى أن تتوقف الحرب. لم نرغب بوقوعها”. ربما يخشى الرجل، كغيره من الروس، أن يراقب الكرملين أي كلام يدلي به للصحافة.

كان أحد أهم أهداف التوغل الأوكراني في كورسك إرغام الروس على إعادة نشر قواتهم، ونقلها من شرق وجنوب شرقي أوكرانيا لتغيير وضع ميدان المعركة الصعب بالنسبة إلى كييف هناك. ومع ذلك، لم يكن هناك سوى قليل من الأدلة على إعادة الانتشار على نطاق واسع، على رغم أن المسؤولين الأوكرانيين صرحوا بأن الآلاف من القوات الروسية قد نُقلوا.

وعبر جنود أوكرانيون لـ”اندبندنت” عن رضاهم عن العملية. وقال إيغور، 38 سنة، وهو من زيتومير ويقود ناقلة جند مدرعة، إن وحدته تقاتل على الجبهة الشرقية منذ بداية الحرب في 2022.

وشرح إيغور، “لم نعلم بوجود أي مخططات من هذا النوع لكن قبل أيام قليلة من انطلاق العملية، خاطب قائدنا الجميع وقال لنا إن وحدتنا ستذهب إلى روسيا، من دون أن يحدد لنا الموقع، لكنه أخبرنا بأنه في حال رغب أي منا بعدم الذهاب، يستطيع أن يقول إنه مريض أو يقدم أسباباً عائلية طارئة ليأخذ إجازة”.

“وقال إنه لن يلوم أي أحد على عدم رغبته بالمجيء لكنه أراد الحرص على أن كل من سيرافقونه يريدون ذلك، وأنهم سيطيعون أوامره من دون أي تشكيك أو سؤال لأنها ستكون مهمة شاقة للغاية”.

واستطرد إيغور، “لم يرفض أي منا، نحن جميعاً فخورون بأن نكون جزءاً من هذه العملية. لقد عززت معنوياتنا، ونعتقد أنها ستحسن فرصنا في النجاح في الحرب”.

تقول كييف، إن عملية كورسك أجبرت الروس على التراجع وخففت الهجمات على منطقة سومي الأوكرانية الواقعة على الحدود مع كورسك لأنه من الأصعب على الأسلحة الروسية أن تتمركز ضمن المدى المناسب للقصف.  

 

ربما يصح ذلك بالنسبة إلى “المدفعية الأنبوبية” على غرار مدافع 122 و152 ملم من العصر السوفياتي، التي يصل مداها إلى نحو 18 ميلاً. لكن فيما قد تكون بعض أجزاء سومي خارج مرمى المدافع الآن، لم تظهر أي دلالات فعلية على تخفيض حدة الهجمات طوال الـ12 يوماً الماضية التي قضتها “اندبندنت” في المنطقة.

شكل التوغل الأوكراني في كورسك إذلالاً شديداً لبوتين لأنه حطم الفكرة القائلة بأنه الوحيد القادر على حماية روسيا. وفي كل يوم تفشل فيه قوات موسكو بإخراج الأوكرانيين من كورسك يزيد إذلال بوتين. ويبدو غضبه واضحاً. فهذا الأسبوع، تعرضت أوكرانيا إلى بعض أكبر الهجمات الصاروخية منذ بداية الحرب الشاملة.

لكن إحدى النجاحات المؤكدة التي حققتها العملية هي إلقاء قوات كييف القبض على عدد كبير من الجنود الروس- ويقولون إنه أصبح بالإمكان مبادلة أكثر من 3 آلاف أسير حرب روسي بأسرى أوكرانيين كثر. خلال عطلة نهاية الأسبوع، بادلت أوكرانيا 115 أسير حرب روسياً بـ115 أسيراً أوكرانياً.

ويرى ستيفكو، 42 سنة، وهو سائق ناقلة جند آخر، أن فوائد هجوم كورسك واضحة للعيان. وقال الرجل، إن ابنه البالغ من العمر 20 سنة قتل العام الماضي أثناء تأديته الخدمة مع القوات الأوكرانية المسلحة، مضيفاً “تحدثت إليه قبل أيام قليلة من مقتله… كنت عندها أخدم في الجيش وسوف أستمر بالخدمة إلى أن أموت أو ننتصر. كان علينا أن نشن عملية مشابهة منذ فترة طويلة ونأخذ الحرب إلى (الروس). يا ليت ابني رأى ذلك”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية