تكاد تكون مساعي إصلاح الأمم المتحدة قديمة قِدم المنظمة نفسها. فقبل 80 عاماً، تصوّر قادة الحلفاء نظاماً لما بعد الحرب تتعاون فيه القوى العظمى معاً لضمان السلام الدائم. كان مجلس الأمن الذي يهيمن عليه أعضاؤه الخمسة المتمتعين بحق النقض، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، يعبر عن واقع النظام العالمي في تلك الحقبة. وكانت الأجزاء الأخرى الأقل هرمية في نظام الأمم المتحدة الجديد تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي في مجموعة من القضايا، على غرار الاقتصاد العالمي والصحة العامة والزراعة والتعليم. وكانت بوادر تشكيل حكومة عالمية مستقبلية واضحة منذ البداية.

أنشئت منظمة الأمم المتحدة في الأصل كتحالف عسكري، لكن هذا الهدف أصبح مستحيلاً مع اندلاع الحرب الباردة. وفي الواقع، توقع كثير من المراقبين نهاية مبكرة للأمم المتحدة، لكنها صمدت وسرعان ما تجددت طاقتها، فصاغت أهدافاً لم يتخيلها مؤسسوها، مثل عمليات حفظ السلام. وبزغ نجم الأمين العام للأمم المتحدة على الساحة الدولية باعتباره أبرز دبلوماسي في العالم، يتنقل إلى مناطق النزاعات في سبيل التفاوض على وقف إطلاق النار. علاوة على ذلك، عملت الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو)، وبرامج المساعدة التقنية الجديدة على توسيع آفاقها وبسط جناحيها. وبالنسبة إلى بعض المسؤولين والعلماء والناشطين داخل الأمم المتحدة وخارجها، ظلت الرؤية المتفائلة للحكومة العالمية قائمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الواضح أن الباحث القانوني الأميركي ريتشارد فولك والدبلوماسي الألماني السابق هانز فون سبونيك ينتميان إلى المعسكر الذي يرغب في رؤية الأمم المتحدة أكثر قوة. في كتابهما “تحرير الأمم المتحدة”، يشدّدان على الحاجة إلى منظمة قادرة على التعامل بفاعلية مع التحديات الكثيرة التي يواجهها العالم اليوم، من تغير المناخ إلى انتشار الأسلحة النووية. وهما لا يريان أي بديل. في الوقت نفسه، يعربان عن أسفهما لحال الاختلال الوظيفي التي وصلت إليها الأمم المتحدة حالياً وتزايد عزلتها وابتعادها من القضايا الرئيسة في الوقت الراهن. ويؤكدان أن المنظمة العالمية “ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلا أن دورها السياسي أصبح أقل أهمية مما كان عليه مقارنة بأي وقت منذ تأسيسها عام 1945.”

يقدم المؤلفان نظرة شاملة حول الهياكل المعقدة في الأمم المتحدة ومهماتها المتعددة الجوانب، ويبذلان جهداً حثيثاً في سبيل إقناع القراء بأن الاستثمار المتجدد في المنظمة هو أفضل مسار ممكن لمستقبل أكثر إشراقاً. هما يعرضان تصوراً جديراً بالاهتمام عن هيئة عالمية مثالية، يتخيلان فيه مجلس أمن أعيد تشكيله وإصلاحه ويرتبط بمنظمات المجتمع المدني من جميع أنحاء العالم. بيد أن توجيهاتهما وحلولهما المقترحة لا تأخذ في الاعتبار بصورة كاملة التحديات المتعلقة بشرعية الأمم المتحدة ومكانتها. وبالنظر إلى واقع اليوم، يجب على أولئك الذين يؤمنون بالأهمية الدائمة للأمم المتحدة ألا يسعوا إلى جعل المؤسسة شاملة تلبي كل الحاجات للناس كافة، بل ينبغي عليهم التركيز بصورة دقيقة على تعزيز أهم وظائفها الأساسية، وهي منع اندلاع الحروب.

الماضي الجميل

في رواية فولك وفون سبونيك، أظهرت الأمم المتحدة درجة كبيرة من الإبداع، حتى خلال الحرب الباردة، على رغم القيود التي فرضتها المنافسة بين القوى العظمى في تلك الحقبة. وكان هذا صحيحاً، خصوصاً في عهد داغ همرشولد الذي شغل منصب الأمين العام من عام 1953 حتى وفاته عام 1961، إذ ابتكر أنواعاً جديدة من الدبلوماسية الوقائية. وكان النشر السريع لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “الخوذ الزرقاء” أثناء أزمة السويس عام 1956 مثالاً بارزاً على هذا الإبداع المبكر.

وبحلول تسعينيات القرن الـ20، ومع انتهاء الحرب الباردة وزوال الفيتو الروسي الذي كان يشكل عائقاً أمام الهيمنة الأميركية، وسّعت الأمم المتحدة نطاق عمليات حفظ السلام الخاصة بها التي أثبتت نجاحها في أماكن بعيدة من مراكز القوى مثل السلفادور وتيمور الشرقية. وأصبحت المنظمة رائدة فكرياً، فعوضاً عن التركيز فحسب على نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي من أجل تقييم التقدم، صاغت على سبيل المثال، مفهوم التنمية البشرية.

وبالنسبة إلى فولك وفون سبونيك، كانت هذه أيضاً فترة من الفرص الضائعة، إذ ركزت الولايات المتحدة طاقاتها على ترسيخ نظام دولي جديد يفضي إلى الرأسمالية العالمية بدلاً من بناء الأساس لحكومة عالمية تتمحور حول الأمم المتحدة. وحدثت سلسلة من الإخفاقات في حفظ السلام، من البوسنة إلى رواندا، ألقت بظلالها على الفترة التي سبقت نهاية القرن، وفي ذلك الوقت كانت الحماسة التي أبداها العالم إزاء الأمم المتحدة بعد الحرب الباردة تلاشت إلى حد كبير. وكان الغزو الأميركي للعراق من دون موافقة الأمم المتحدة بمثابة نقطة انحدار جديدة للمنظمة، مما أظهر عجزها في مواجهة عدوان القوى العظمى. واليوم، يقول فولك وفون سبونيك إن المنظمة في مواجهة “رد فعل قومي متطرف وغير فاعل”، أصبحت مقيَّدة أكثر من أي وقت مضى ولا تحظى بدعم سياسي يذكر لإجراء التعديلات اللازمة على ميثاق الأمم المتحدة، على غرار إصلاح بنية مجلس الأمن.

تكاد تكون مساعي إصلاح الأمم المتحدة قديمة قِدم المنظمة نفسها

ولكن هناك مشكلات في سرد الأحداث التاريخية في الكتاب. على سبيل المثال، يصف المؤلفان بصورة خاطئة الأزمة في جمهورية الكونغو التي تدخلت فيها الأمم المتحدة عام 1960، على أنها ناجمة بشكل أساسي عن “الصراعات القبلية والإقليمية العرقية”، بينما كانت في الواقع تتعلق بمحاولات العنصريين البيض الحفاظ على هيمنتهم على الكونغو، بخاصة ثرواتها المعدنية الهائلة، بعد أن نالت البلاد استقلالها عن بلجيكا. ويخطئ المؤلفان أيضاً في الإشارة إلى أن همرشولد كان يؤيد ما يصفانه بصورة غريبة بأنه “القومية الاقتصادية الراديكالية” التي تبنّاها رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا. ففي الحقيقة، كان الرجلان على خلاف واضح، وكان بعض من مساعدي همرشولد في الأقل، إن لم يكُن الأمين العام نفسه، متواطئين في الإطاحة بلومومبا عام 1960.

لكن الأهم بكثير، هو ما يغيب عن رواية المؤلفين. فبالنسبة إلى معظم شعوب أفريقيا وآسيا تقريباً، كان تاريخ القرن الـ20 في المقام الأول تاريخاً للإمبراطورية ولنضالاتهم الطويلة من أجل الحرية. ففي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، عمل ممثلو الدول المستقلة حديثاً الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية “الأفارقة- الآسيويين”، على تحويل الأمم المتحدة، وإيصالها إلى ذروة طموحها وقوتها. وكانت الأمم المتحدة تشكل الآلية التي أكدوا من خلالها نيل استقلال ناضلوا كثيراً من أجل تحقيقه، ورسّخوا سيادتهم وحافظوا عليها. وبالنسبة إليهم، كانت الكونغو اختباراً يوضح لهم ما إذا كان تفوق العرق الأبيض سيظل ثابتاً في عالم ما بعد الاستعمار.

إن فولك وفون سبونيك يشيران بصورة صحيحة إلى الدور الحاسم الذي قامت به الأمم المتحدة منذ بدايتها في النضال ضد العنصرية على مستوى العالم وضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خصوصاً. لكنهما مخطئان في الإشارة إلى أن الحكومات غير الغربية كانت تركز على تطوير اقتصاد عالمي عادل أكثر من اهتمامها بمنع الحرب. فبالنسبة إلى الأفارقة- الآسيويين، كان السلام والتنمية وتطبيق حقوق الإنسان أجزاء مترابطة من مشروع أكبر يتعلق بالمساواة في مرحلة ما بعد الإمبراطورية.

لقد احتضن الأفارقة- الآسيويون الأمم المتحدة وناصروها. وعام 1961، اضطلعوا بدور فاعل في تعيين واحد منهم أميناً عاماً، وهو الدبلوماسي البورمي يو ثانت (جد كاتب هذه المقالة). وفي 1962، بالتعاون الوثيق مع زعماء أفارقة- آسيويين آخرين، كان لثانت دور هائل ومحوري في خفض التصعيد خلال أزمة الصواريخ الكوبية (وهو دور لا يذكر في معظم الروايات). وكانت جهوده في الوساطة بين الرئيس الأميركي جون كينيدي ورئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف والثوري الكوبي فيديل كاسترو بمثابة ذروة عمل المنظمة في منع اندلاع الحرب. وفي حين كان مجلس الأمن غالباً ما يشهد حالاً من الجمود، كان الأمين العام وفريقه من الوسطاء أكثر نشاطاً من أي وقت مضى في مجموعة متنوعة من النزاعات، من قبرص والهند إلى باكستان وفيتنام. ويُذكر أن سجل الأمم المتحدة في جهود صنع السلام التي كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصعود ما كان يسمى آنذاك غالبية “العالم الثالث”، غائب عن الكتاب.

الإصلاح والواقع

إن كتاب “تحرير الأمم المتحدة” يتناول بعمق تجارب المؤلفين داخل المنظمة. ففولك الذي عمل طوال عقود أستاذاً للقانون الدولي في جامعة برينستون، أصبح في أوائل العقد الثاني من القرن الـ21، المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حال حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. أما فون سبونيك، وهو موظف دولي محترف، فكان منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في العراق في أواخر تسعينيات القرن الـ20؛ واستقال احتجاجاً على الأذى الذي ألحقته العقوبات بالمدنيين العراقيين. وكلاهما يُظهران الطرق المتعددة التي أُحبطت بها جهودهما بسبب الجغرافيا السياسية، أي مصالح الولايات المتحدة وحكومات أخرى قوية. ووراء رواياتهما تكمن التوترات المركزية التي يدور حولها الكتاب: من جهة، رغبة المؤلفين في رؤية الأمم المتحدة تتحول إلى نوع من الحكومة العالمية، ومن جهة أخرى، التيارات السياسية التي تعرقل تحقيق هذا الهدف.

يُعبّر فولك وفون سبونيك عن “حيرتهما” إزاء عدم قدرة الأمم المتحدة على “كسب الزخم السياسي اللازم” لجعل نفسها الأداة الفاعلة المنشودة لإرساء السلام. ويؤكدان أنه على مرّ العقود، على رغم العقبات الهائلة، أثبتت الأمم المتحدة أنها “عنصر لا غنى عنه في نظام عالمي مستدام وإيجابي”. ومع مزيد من التمويل، “ومزيد من ضبط النفس من الفاعلين الجغرافيين السياسيين ومزيد من التقدير من الحكومات الأعضاء والمجتمعات المدنية ووسائل الإعلام”، يمكن أن تحقق الهيئة العالمية إنجازات جديدة مرة أخرى.

لكن العائق، كما يراه المؤلفان، هو “شكل من أشكال ‘الواقعية السياسية’ عفا عليه الزمن، وسيتطلب التغلب عليه نضالاً أيديولوجياً”. فالحكومات محاصرة في حساباتها الجغرافية السياسية ولا تدرك أن الحل الوحيد للتحديات العالمية اليوم هو الأمم المتحدة المعاد تشكيلها وإصلاحها في صميم التعاون العالمي النشط. ومن أجل تحقيق ذلك، يدعوان إلى “حركة تقدمية للشعوب تتجاوز الحدود الوطنية”، وتكون “قوية بما يكفي للتأثير بصورة إيجابية في الممارسات الحكومية والمؤسسات الدولية”. ولن تكون الأمم المتحدة قادرة على معالجة “مشكلات هيكلية أساسية مثل الرأسمالية المفترسة والعسكرة العالمية وعدم الاستدامة البيئية” إلا من خلال هذا النوع من الزخم الشعبي الواسع النطاق.

لا شك في أن المؤلفين محقّان بأن الأمم المتحدة لم تنجُ فحسب، بل نجحت كذلك في عدد من المجالات والسياقات. فلقد أنتجت مجموعة من القوانين الدولية غير المسبوقة في التاريخ. وستكون وكالاتها الإنسانية صعبة الاستبدال. وفي حال حدوث جائحة أخرى، ستكون منظمة الصحة العالمية، بكل ما فيها من عيوب، هي الوحيدة القادرة على تنسيق استجابة عالمية حقاً.

مع مزيد من التمويل يمكن أن تحقق الأمم المتحدة إنجازات جديدة مرة أخرى

يضع فولك وفون سبونيك على رأس أولوياتهما الحاجة إلى تحديث تركيبة مجلس الأمن الذي لا يزال عالقاً في تشكيلة تعود لحقبة الحرب العالمية الثانية. وهناك عدد قليل من الحجج الجيدة، إن وُجدت التي تبرر حرمان دول مثل الهند من مكانة تضاهي في الأقل مكانة المملكة المتحدة أو حرمان الدول غير الغربية من تمثيل أكبر بصورة عامة. وخلال العقود الأخيرة، كانت قصة مجلس الأمن تدور حول هيئة تهيمن عليها خمس دول غنية تتشاور حول النزاعات في الدول ذات الدخل المنخفض. هذا الطابع غير التمثيلي للأعضاء الدائمين الخمسة يقود إلى مجموعة من أوجه عدم المساواة، مثل التعيينات المنحازة إلى المسؤولين الكبار التي تتغلغل في نظام الأمم المتحدة. ومن السهل أن نفهم لماذا تراجعت الحماسة تجاه الأمم المتحدة بصورة مطّردة في معظم أنحاء العالم.

ولكن أي محاولة لإصلاح الأمم المتحدة اليوم ستواجه رياحاً سياسية عاتية. فمن الصعب تخيل حزمة من التغييرات في عضوية مجلس الأمن يمكن أن تحظى بدعم الأعضاء الدائمين الحاليين. وليس من الواضح أن أي تغيير في تركيبة مجلس الأمن، مهما كان مفيداً لشرعية الأمم المتحدة، سيحسن من فاعلية المنظمة. وقد تكون النتيجة الوحيدة هي ظهور أنواع جديدة من الجمود (وإن كانت مع نقاشات أكثر إثارة للاهتمام ربما).

هناك أيضاً تحدٍ أكثر جوهرية وهو تعدد القنوات البديلة المتاحة أمام الحكومات لتحقيق مصالحها، بما في ذلك الاتفاقات الثنائية والمنظمات الإقليمية مثل “الناتو” والمنتديات مثل “مجموعة الـ20”. وكان مقر الأمم المتحدة في نيويورك يوماً ما المكان الوحيد في العالم حيث يمكن أن يجتمع ممثلون من مختلف الدول. كانت هناك قلة من القمم الأخرى. وخلال أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الـ20، كانت الاجتماعات السنوية للجمعية العامة في صميم السياسة العالمية، وكان كل من كينيدي وخروتشوف وثوار مناهضة الاستعمار، من بينهم رئيس غانا كوامي نكروما والرئيس المصري جمال عبدالناصر، يقومون بأدوارهم البطولية في مسرح درامي جذبَ انتباه العالم.

يختتم فولك وفون سبونك بالقول إن الأحادية الأميركية هي التي تقيد الأمم المتحدة، إذ إن واشنطن لا ترغب في الاستثمار في تجديد المنظمة. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة ليست الوحيدة التي تسعى إلى العمل خارج نطاق الأمم المتحدة. وبالنسبة إلى الدول الصغيرة، قد تكون الأمم المتحدة الساحة الوحيدة التي تمنحها فرصة الجلوس على قدم المساواة مع الدول الأخرى. لكن بالنسبة إلى الدول الأخرى، مثل القوى الصاعدة المتوسطة في العالم، هناك قائمة متزايدة من الخيارات المتاحة.

المهمة ممكنة

هناك تحدٍّ أعمق يتمثل في طبيعة الأمم المتحدة نفسها. فعلى مر العقود، طوّرت الأمم المتحدة ثقافتها الخاصة ولغتها وأساليب عملها، وهي إنجازات قيّمة ناتجة من المحاولة الوحيدة لبناء مؤسسة تشمل البشرية جمعاء. ولكنها طورت أيضاً اعتماداً مفرطاً على الإجراءات بدلاً من النتائج. إن الرغبة الفطرية والمتأصلة لدى المنظمة في أن تعبّر عن آراء الجميع، في كل فقرة من كل نص، سواء في تعميم إداري أو في قرار للجمعية العامة، غالباً ما تسلب الجهود ذات النوايا الحسنة معانيها وقيمتها.

في المقابل، إن الطريقة التي تدير بها الأمم المتحدة كوادرها هي قضية شائكة أخرى. تضم المنظمة جحافل من الموظفين العموميين، بمن في ذلك العاملون في مجال الإغاثة وقوات حفظ السلام الذين يلتزمون مبادئها السامية ويؤدون واجباتهم بشجاعة في غالبية الأحيان في أصعب الظروف. لكن قلة منهم استفادوا من الإدارة الجيدة. ونادراً ما يحظى الأكثر كفاءة بالتقدير اللازم لمهاراتهم وتضحياتهم. في الواقع، تصر الحكومات، بخاصة القوى العظمى، على تعيين مرشحيها (غالباً غير المؤهلين) في المناصب العليا، مما يخلق خللاً في قلب النظام يؤثر سلباً في المعنويات والكفاءة. ولكي تكون الأمم المتحدة فاعلة، تحتاج في جوهرها إلى خدمة مدنية متحمسة ومحفزة تضم النساء والرجال الأكثر كفاءة من مختلف أنحاء العالم. إنه مجال إصلاح يكاد لا يحظى بأي اهتمام.

والسيناريو الافتراضي هو أن تستمر الأمم المتحدة المفتقرة إلى الإصلاحات أو التي شهدت إصلاحات طفيفة في تطوير مجموعة متنوعة من المهمات (مثل حماية اللاجئين وتسهيل مفاوضات تغير المناخ وتقديم المساعدة الإنمائية) تتقنها بصورة جيدة في بعض المجالات، بينما تتعثر في مجالات أخرى. إن مؤتمراتها تُبقي الحوار حول القضايا العالمية حيّاً، حتى لو لم تحلّ بالضرورة المشكلات العالمية، وفي بعض الأحيان توفّر منصة لمنظمات المجتمع المدني الدولية المختلفة. لكن المشكلة في هذا السيناريو الراهن هي أن المنظمة، من خلال تشتيت جهودها، تُبعد نفسها من الغاية الأساسية المتمثلة في منع الحرب.

في المستقبل المنظور، من المرجح أن يظل مجلس الأمن، وهو الهيئة الرئيسة المسؤولة عن السلام والأمن الدوليين، غير قادر على معالجة التهديدات الأساسية في الوقت الراهن، بما في ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا والنزاعات في الشرق الأوسط والنزاعات حول تايوان والأراضي في بحر الصين الجنوبي. ويُذكر أن التوترات بين القوى العظمى داخل مجلس الأمن ليست جديدة، لكن ينبغي ألا تعرقل الدبلوماسية الوقائية والوساطة. ولقد حقق كل من همرشولد وثانت أهم إنجازاتهما في صنع السلام خلال الحرب الباردة، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الـ20. وفي أواخر الثمانينيات، أتاحت الوساطة الهادئة التي قام بها الأمين العام خافيير بيريز دي كوييار إمكان التوصل إلى اتفاقات سلام عدة مهدت الطريق لإنهاء الحرب الباردة نفسها.

من خلال تشتيت جهودها، تُبعد الأمم المتحدة نفسها من غايتها الأساسية المتمثلة في منع الحرب

في غياب مجلس أمن ديناميكي وخاضع للإصلاح، يكمن مفتاح نجاح الأمم المتحدة في المستقبل في دور الأمين العام باعتباره أبرز دبلوماسي في العالم. إن السلام هو المهمة الأساسية للأمم المتحدة. وهناك نزاعات كثيرة يمكن حلها من دون أي تدخل للأمم المتحدة. لكن الأعوام الـ80 الماضية، أثبتت أن الأمين العام، باعتباره وسيطاً محايداً يمثل هيئة عالمية، يمكن أن يكون في بعض الأحيان لا غنى عنه. وإذا نُحّي الأمين العام جانباً في قضايا الحرب والسلام فسيكون نفوذه محدوداً للغاية في قيادة التحديات العالمية الأخرى مثل تغير المناخ والتنمية.

ويتوقع الناس من الأمم المتحدة قيادة الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب. وفي الوقت الحاضر، تدمر حروب جديدة فظيعة حياة الملايين وتزيد خطر المواجهة النووية. إنها فترة مختلفة تماماً عن تسعينيات القرن الـ20، حينما كانت جميع القوى العظمى راضية عن إرسال عمليات حفظ السلام لإنهاء النزاعات الداخلية. لقد عاد العالم لفترة من الحروب بين الدول، وإن ذلك بالضبط ما كانت الأمم المتحدة تهدف إلى منعه.

نظراً إلى أن فرص إصلاح الأمم المتحدة محدودة، فإن أي فرصة متاحة يجب أن تُستغل بكفاءة من أجل إعادة إحياء وتعزيز دور الأمين العام في صنع السلام، ليشمل التعامل مع النزاعات الداخلية وكذلك الحروب بين الدول. وسيستلزم هذا الأمر بناء فريق من الوسطاء الداخليين ذوي الخبرة الذين لديهم معرفة عميقة بقدرات المنظمة وحدود إمكاناتها. في الماضي، حققت الأمم المتحدة نجاحات كبيرة بفضل قيادة شخصيات مثل الحائز جائزة نوبل رالف بانش الذي خدم تحت إدارة كل من همرشولد وثانت وكان له دور حاسم في عشرات الجهود الرامية إلى تحقيق السلام حول العالم.

في هذه اللحظة الخطرة والملتبسة، يمكن للأمين العام للأمم المتحدة أن يستكشف ويخلق فرصاً لحل النزاعات. وفي الواقع، لا تملك أي هيئة أخرى السلطة والمصداقية للاضطلاع بهذا الدور. وعلى مدى الأعوام المقبلة، قد يكون هو العنصر الذي يحدد مصير العالم بين الحرب والسلام العالميين.

 

ثانت مينت-يو مؤرخ ومؤلف كتاب “تاريخ بورما الخفي: العِرقية والرأسمالية وأزمة الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين” والكتاب الذي سيصدر قريباً “صانع السلام: يو ثانت والسعي المنسي نحو عالم عادل”. بين عام 2000 وعام 2006، عمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقبل ذلك، شارك في بعثات حفظ السلام في كمبوديا ويوغوسلافيا السابقة.

مترجم عن “فورين أفيرز”، 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2024

نقلاً عن : اندبندنت عربية