تتحدث السيدة التركية “إيبرو. أ” وهي تذرف دموعها ولوعة الألم تحرقها عن فقدانها ابنتها الرضيعة في أحد مستشفيات إسطنبول.
تذكر إيبرو لـ”اندبندنت عربية”، “في تمام الساعة الرابعة عصر الأربعاء الـ21 من أغسطس (آب) 2023، ولدت في مستشفى (سيليفري الأناضول)، بعد أن ألقيت نظرتي الأولى على طفلتي أخذوها مني وقالوا إنه يجب وضعها في الحاضنة”.
وتضيف “تركوني من دون أي خبر عنها حتى الساعة الـ12 عند منتصف الليل، خرج زوجي ليسأل عن المولودة لكنهم لم يعطونا جواباً واضحاً وكانوا يقولون سنخبركم لاحقاً، وخلال الفترة التي تركوني فيها لم تأت أية ممرضة حتى لقياس ضغط الدم لدي، وفي اليوم التالي أخبروني أن صحتي جيدة ويمكنني مغادرة المشفى، لكن ابنتي…”.
هنا تعاود السيدة المكلومة البكاء بصمت ثم تتابع حديثها “لكن ابنتي قالوا إنه يجب أن تبقى في الحاضنة بسبب وزنها، وطلبوا مني أن أحضر لها حليباً كل يوم، وتكلفة البقاء في الحاضنة 7 آلاف ليرة لكل ليلة (نحو 210 دولارات)”.
وتتابع “جاء إليَّ أحد الأطباء وقال لي ’من الأفضل أن تأخذي طفلتك، لا داعي للحاضنة‘، إلا أن طبيب الأطفال في المستشفى كان يخيفني باستمرار ويصر على ضرورة بقاء الطفلة في الحاضنة، وبالفعل بقيت طفلتي في الحاضنة لمدة 15 يوماً وطوال هذه الفترة لم تكتسب أي وزن، بعد ذلك أخرجنا الطفلة من المستشفى وكانت هناك علامات مصاصة على خديها ولم تكن بحالة طبيعية، وبعد 48 يوماً أخذنا الطفلة بالإسعاف إلى غرفة الطوارئ، ودخلت الغرفة ولم تخرج”.
تواصل السيدة بكاءها ثم تقول “ماتت ابنتي بطريقة غير معروفة وبصورة غريبة، لقد ماتت بسبب المال والجشع. خلال ذلك الوقت شعرنا أن ما حصل ليس مجرد إهمال بل هناك جريمة قتل وقعت، حاولنا التحدث مع كبير الأطباء لكنه لم يقبل حتى لقاءنا، وفي ذلك الوقت كنت يئست وتدريجاً بدأت أنسى. واليوم بعد أن كُشفوا عرفت سبب إصرارهم على وضع ابنتي في الحاضنة. لقد قتلوها”، ولم تستطع إيبرو مواصلة الحديث، فسكتت.
ويقول الفيلسوف الطبيب سقراط إنه “إذا تغلبت الشهوة على الروح أصبح الإنسان شهواني الطبع، وإذا تغلب العقل على الروح أصبح الإنسان عقلانياً. فضيلة العقل هي الحكمة وفضيلة النفس هي الشجاعة وفضيلة الشهوة هي الاعتدال”.
سقراط أو الطبيب الأول كما يسمى ربما لم يكن ليوافق على امتهان الطب لو علم أنه سيأتي بعده بقرون أطباء يبيعون أرواح مرضاهم بدراهم معدودة، هذا ما حدث بالفعل في الفضيحة المدوية التي هزت تركيا وأشغلت الرأي العام وأجندة السياسيين في البلاد منذ أيام.
بداية النهاية
بدأ التحقيق الأولي في قضية عصابة “المواليد الجدد” عندما شكت إحدى السيدات في سبب وفاة رضيعها، مما دفعها لرفع قضية جنائية ضد المستشفى الذي وضع الطفل في الحاضنة دون الحاجة إلى ذلك، مما أدى إلى وفاته وتنصل المستشفى من المسؤولية.
وقال وزير الصحة التركي كمال ميميش أوغلو إن الوزارة لا تزال تواصل عمليات التفتيش في المستشفيات الخاصة على خلفية كشف قضية عصابة “المواليد الجدد”، فيما تم إغلاق تسعة مستشفيات وإلغاء تصريحها.
وكانت النيابة العامة في محكمة “بيوك تشكمجة” بإسطنبول طالبت بعقوبات تزيد على 500 عام بالسجن بحق الطبيب فرات ساري زعيم العصابة التي تسببت في وفاة 12 رضيعاً بمختلف المستشفيات التركية، فضلاً عن التسبب في عاهات دائمة لبعض الرضع بعد وضعهم في حاضنات دون الحاجة إليها، بهدف الحصول على أموال التأمين الاجتماعي.
وبحسب التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة، اختارت العصابة المستشفيات التي تتعاون معها بعناية، وتعاونت مع بعض العاملين في خدمة الطوارئ (الاستجابة لطلبات الإسعاف بالاتصال على الرقم الساخن 112)، إذ كانت خدمة الطوارئ بالتنسيق مع العصابة توجه أهالي الأطفال إلى مستشفيات بعينها بغرض زيادة الإيرادات وليس بهدف توفير العلاج المناسب، وبدلاً من التركيز على تعافي الأطفال كان الهدف الرئيس هو تحقيق مكاسب مالية كبيرة عبر فرض علاجات مكلفة مثل العناية المركزة، واستغلال ذلك لزيادة الفواتير المفروضة على مؤسسة الضمان الاجتماعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالفعل تمكنت العصابة من تحصيل أرباح مضاعفة وتقسيم هذه الأرباح على أفراد العصابة الذين يعمل غالبيتهم في القطاع الصحي، وفق ما ورد في لائحة الاتهام المكونة من 1399 صفحة، اطلعنا على محتواها، وتتضمن أيضاً سجلاً للمكالمات الهاتفية بين أفراد العصابة تظهر مدى الاستهتار بصحة الأطفال، والاستهزاء في موت بعضهم.
كان يبكي كالحيوان
وفيما يلي تفريغ لإحدى المكالمات بين أفراد العصابة وحصلت “اندبندنت عربية” عليها من تقرير لائحة الاتهام، المحادثة الهاتفية بين الطبيبين المشتبه فيهما تشاغلا دورموش وإيلكر غونين:
دورموش: معدل ضربات القلب 80 وهذا مع الأدرينالين.
غونين: إذا كان كذلك مع الأدرينالين، فليس بوسعنا فعل شيء.
دورموش: بالضبط تظهر عليه كدمات الموت، أبلغنا العائلة أن الأمر أصبح أسوأ والآن قمت بإيقاف تشغيل الحاضنة حتى يختفي تأثير الأدرينالين، وسوف يتقبلون الأمر الواقع.
غونين: هاهاها، كنت سأقول شيئاً.. الطفل مات من الطموح هاهاها.
دورموش: منذ الصباح كان لونه غير جيد، كان من الواضح أنه سيموت لقد كان يتطلع إلى الموت.
غونين: رأيناه في الصباح وكان يبكي كالحيوان، وبالفعل كان لونه سيئاً.
وفي مكالمة هاتفية أخرى تتعلق بالتسبب في وفاة رضيعة اسمها “حليمة”، المكالمة بين الطبيب فرات ساري والممرضة بهار كانيك، ومما ورد فيها:
كانيك: دكتور يبدو أن قلب حليمة لا ينبض، هل نقوم بالإنعاش القلبي الرئوي؟
ساري: نعم أنعشه مرات عدة، أريده يعيش قليلاً حتى آتي.
كانيك: حسنا، حتى تأتي.
ساري: لا تدعه يموت.
كانيك: سأقوم بفصل المقبض إذا لم تأت.
فرات: هاهاها.
كانيك: سأفصل المقبض هاهاها.
ساري: هل مات؟
كانيك: تعازينا.
لجنة تحقيق برلمانية
على غرار التحقيقات الجنائية في القضية، شكل البرلمان التركي لجنة تحقيق نيابية مكلفة التحقيق في جميع جوانب وفيات الأطفال في بعض المؤسسات الصحية الخاصة.
وتقول القيادية في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا آليكون تكين في حديث خاص إن “اللجنة البرلمانية تشكلت بعد اجتماع في حزب العدالة والتنمية بمشاركة وزير الصحة والنواب الأطباء، ومع الاقتراح المشترك للمجموعات الحزبية السياسية في الجمعية العامة تمت الموافقة على إنشاء لجنة تحقيق برلمانية من أجل التحقيق في جميع جوانب وفيات الرضع في بعض المؤسسات الصحية الخاصة”.
وأضافت تكين “الرئيس أردوغان يتابع القضية بصورة شخصية، هذه القضية تسببت في أن يخيم الحزن على إسطنبول. إن شبكة القتل هذه وحوارات هذه العصابة وتصرفاتها جعلتنا مستيقظين لأيام، نحن آسفون لجميع أطفالنا وأهالي أطفالنا”.
أما حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية فقدم شكوى جنائية ضد وزيري الصحة السابقين محمد مؤذن أوغلو وفخر الدين كوجة ومدير صحة إسطنبول رجب أكداغ، ووزير الصحة الحالي كمال ميميش أوغلو بتهمة إساءة استخدام المنصب.
وبحسب وزير الصحة التركية فإنه اعتقل حتى الآن 22 شخصاً من أصل 48 متهماً بالتورط في القضية، وبين المعتقلين رئيس العصابة الدكتور فرات ساري فيما عرض بعض المتهمين التعاون مع السلطات مقابل تخفيف العقوبة عنهم.
100 ألف دولار مقابل قتل المدعي العام
على رغم أن العصابة بدأت تنكشف منذ مايو (أيار) 2023 فإنها لم تنكشف للجمهور وتتحول إلى قضية رأي عام إلا خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك بعد تسريب ونشر تسجيل مصور يظهر فيه رئيس العصابة الدكتور فرات ساري، وهو يوجه تهديدات للمدعي العام المسؤول عن التحقيق في القضية، مطالباً إياه بالتراجع والتستر على الملف وطيه.
وبعد إصرار المدعي العام في إسطنبول على استمرار التحقيق ومحاسبة المتهمين قررت العصابة التخلص منه، وعرضت مبلغ 100 ألف دولار مقابل قتله، إلا أن السلطات اعتقلت أفراد العصابة قبل تنفيذ عملية الاغتيال.
وفاة 73 رضيعاً في مدينة واحدة خلال شهر
تزامناً مع انتشار قضية عصابة المواليد الجدد، نشرت صحيفة “تيليغراف نت التركية” تقريراً جاء فيه إن شهر سبتمبر (أيلول) الماضي شهد وفاة 73 رضيعاً، 41 منهم تركياً و32 رضيعاً سورياً، مما يلفت الانتباه إلى أن أكثر من 40 في المئة من الوفيات هم من اللاجئين على رغم أن نسبة اللاجئين في الولاية لا تتجاوز خمسة في المئة من سكانها، وسط مطالبات بفتح تحقيق في القضية.
أهم المستشفيات المغلقة
وفي إطار التدابير الاحترازية التي اتخذتها السلطات التركية، أعلن وزير الصحة إلغاء ترخيص تسعة مستشفيات خاصة في إسطنبول لتورطها في التعاون مع العصابة، ومن هذه المستشفيات رياب وميدي لايف بيليك دوز وشفق باغجلار ودوغا والطب باغجلار ودويغو إسطنبول.
وتعد مستشفى الطب باغجلار أحد المستشفيات المتورطة بالتعاون الوثيق مع العصابة، ورفضت إدارة المستشفى الرد على اتصال “اندبندنت عربية” للتعليق على القضية.
وبحسب مصادر تحدثت إلينا فإن رئيس العصابة الدكتور فرات ساري يملك شركة “ميديسينس” للخدمات الصحية، ولا يعاني أية مشكلات مادية، على رغم تسببه في موت 12 طفلاً مقابل الحصول على نحو 100 دولار في الليلة الواحدة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية