بعد نحو ثلاثة أعوام من التوتر والفتور في العلاقات الدبلوماسية، بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الإثنين زيارة إلى المغرب تستمر ثلاثة أيام، بدعوة من العاهل المغربي الملك محمد السادس.

وتعد الزيارة، وهي الأولى لماكرون إلى المغرب منذ عام 2018، خطوة لتعزيز الروابط بين باريس والرباط وتجاوز مرحلة الخلافات السابقة، كما يُجري ماكرون محادثات ثنائية مع الملك محمد السادس ورئيس الحكومة عزيز أخنوش ضمن جهود مشتركة لإعادة إحياء الشراكة الإستراتيجية بين البلدين.

وخلال هذه الزيارة ستتناول جميع القضايا الرئيسة الراهنة، بما في ذلك الاقتصاد والزراعة والبيئة والتعليم والثقافة والهجرة، وسيرافق ماكرون وزير الداخلية الفرنسي الجديد برونو روتايو، إضافة إلى ثمانية أعضاء آخرين من حكومة ميشال بارنييه.

تقارب على حساب الجزائر

ويبدو أن باريس والرباط تتشاركان الرغبة في طي صفحة الملفات الخلافية التي ظهرت أخيراً، مثل تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة وتصويت البرلمان الأوروبي على قانون يدين تدهور حرية الصحافة في المغرب، وكذلك توجه فرنسا نحو تعزيز علاقاتها مع الجزائر، ويضاف إلى ذلك مسألة المساعدة الفرنسية التي قدمت بعد زلزال سبتمبر (أيلول) 2023 ورفضها المغرب.

وواسهم قرار فرنسا دعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية في يوليو (تموز) الماضي على حساب الجزائر في طي صفحة تلك الفترة المتوترة، ومنذ اتخاذ القرار شهدت العلاقات الفرنسية – المغربية تقارباً ملاحظاً، فأُطلقت مشاريع مشتركة في جميع المجالات، إذ تضم البعثة الفرنسية وفداً كبيراً يتألف من وزراء وممثلين عن نحو 50 شركة.

وتتمثل الفكرة في جعل المملكة المغربية بوابة فرنسا إلى أفريقيا مع الاستفادة من المشاريع المستقبلية التي تخطط لها الرباط، وبخاصة تلك المتعلقة بكرة القدم، حيث سيستضيف المغرب كأس الأمم الأفريقية 2025 وجزءاً من كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال.

آفاق جديدة

الباحث المغربي في العلوم السياسية ونائب عمدة مدينة بانيو الفرنسية فريد حسني قال لـ “اندبندنت عربية” إن “هدف الزيارة هو فتح فصل جديد في تاريخ العلاقات المغربية – الفرنسية، مع السعي إلى إرساء عقود تعاون تمتد ل 30 عاماً مقبلة، وتشمل قضايا الهجرة والتعاون الاقتصادي وملف الصحراء المغربية.”

ويرى حسني أن المسار أصبح واضحاً، إذ لا مستقبل لهذا الإقليم إلا ضمن السيادة المغربية، واعتبر هذا التوجه خطوة مهمة وخصوصاً في ظل اعتراف دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة بسيادة المغرب على الإقليم، مشيراً إلى أن هذه الدول ستسعى بجدية إلى تصفية هذا الملف نهائياً.

 

 

أما في مجال التعاون الاقتصادي فأوضح الباحث المغربي أن الاتفاقات المشتركة التي تشمل مجالات عدة مثل الطاقة والسكك الحديد والبنية التحتية والصناعات الدفاعية، وكذلك الطاقة المتجددة والفلاحة والتعليم، والتي تُقدر بنحو 10 مليارات يورو (10.8 مليار دولار) سنوياً، ستسهم في تعزيز التنمية في كل من فرنسا والمغرب.

وأشار حسني إلى أهمية الدور المغربي المتنامي في القارة الأفريقية، فقد أصبحت الرباط المستثمر الثاني بعد جنوب أفريقيا، مشيراً إلى دورها المحوري في معالجة قضايا حساسة مثل الهجرة، والتي يجب أن تناقش بعمق أكبر عبر تبني برامج تنموية شاملة في القارة الأفريقية عموماً، وفي شمال أفريقيا بخاصة.

وحول سؤالنا عن مدى تأثير دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية على التقارب المغربي – الفرنسي وعلاقات باريس مع الجزائر، يجيب حسني قائلاً إن “إقرار فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء جاء متأخراً نسبياً، بخاصة وأن هذا الاعتراف سبقتها إليه الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا، وكان المغرب يتوقع من دولة تجمعها به علاقات تاريخية قوية مثل فرنسا أن تتخذ خطوة في هذا الاتجاه.”

ولفت حسني إلى أن المغرب تلقى صيف العام الماضي رسالة من إيمانويل ماكرون للعاهل المغربي، أكد فيها أن فرنسا ترى مستقبل الصحراء في إطار السيادة المغربية، واعتبر أن هذه الخطوة كانت مهمة لتجاوز الخلافات وفتح آفاق جديدة في العلاقات بين الرباط وباريس.

وفي ما يتعلق بتأثير التقارب المغربي – الفرنسي في العلاقات مع الجزائر، نوه حسني بأن المغرب يتمنى كل الخير للجزائر، معرباً عن اعتقاده أن فرنسا تسعى إلى لعب دور في تقريب وجهات النظر بين البلدين، وملمحاً إلى أن الجزائر، وبعد اعتراف دول عدة بسيادة المغرب على الصحراء، قد تعيد النظر في موقفها مما يمهد الطريق لإمكان جلوس الجانبين إلى طاولة الحوار وفتح آفاق جديدة بين الدولتين الشقيقتين.

تعاون مستقبلي

من جهته قال الخبير في الشؤون الدولية المعاصرة محمد بودن إنه “من الواضح أن الزيارة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدعوة من جلالة الملك محمد السادس ستتيح إطلاق العنان لتمكين العلاقات المغربية – الفرنسية، وتمنحها أقوى الدوافع لتحقيق أفضل النتائج في تاريخ العلاقات”.

ويرى بودن أن علاقات البلدين ستعطي محتوى إستراتيجياً وسياسياً واقتصادياً متجدداً من خلال الإعلان المتعلق بالشراكة الاستثنائية الوطيدة الذي وُقع عليه من قبل الملك محمد السادس وإيمانويل ماكرون، إضافة إلى الاتفاقات الـ 22 التي تخص ميادين الطاقة والنقل والاستثمار والحماية المدنية والتعليم والثقافة.”

ويؤكد بودن أن هذه الزيارة ستمنح مساراً جديداً لزخم هذه العلاقات، وستتيح إبراز المظاهر المتنوعة للصداقة الفريدة بين المغرب وفرنسا، وتعكس توالي اللحظات القوية والدالة في المرحلة الجديدة لعلاقات البلدين.

وأشار الخبير في الشؤون الدولية المعاصرة إلى أن الزيارة زيارة دولة، وقيمتها في تحقيق النتائج المرتقبة تأتي في توقيت حساس وبعد أقل من ثلاثة أشهر من إعلان فرنسا موقفها التاريخي حول سيادة المغرب على صحرائه، كما تتزامن مع الخطاب الملكي لمناسبة افتتاح الدورة التشريعية والذكرى الـ 49 للمسيرة الخضراء، وكذلك مناقشة مجلس الأمن لقرار أممي جديد في شأن ملف الصحراء، ومن هنا فإن هذه الزيارة تمثل نقطة تحول تاريخية في العلاقات بين البلدين، بخاصة في أفق الـ 30 عاماً المقبلة.”

شراكة معززة

وأكد بودن أن الشراكة الاستثنائية الوطيدة بين المغرب وفرنسا مسألة حيوية لكلا البلدين وتمتد لعقود من الزمن، ويرى أن هذه الشراكة تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف تتمثل في “تعزيز التقارب السياسي والإستراتيجي لمواجهة مختلف التحديات الراهنة، وتعميق الشراكة بين البلدين خدمة للتنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي واستقلاليتهما الإستراتيجية، إضافة إلى مواصلة تعاونهما المميز في مجال الروابط الإنسانية والرأسمال البشري والثقافة.”

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واعتبر بودن أن الزيارة تساعد في دفع مختلف القضايا الجوهرية في العلاقات المغربية – الفرنسية إلى الأمام، إذ جرب البلدان فوائد التعاون بينهما وقاما معاً بكسر الحواجز التي تعوق تقدم العلاقات نحو المستقبل، مما يمهد الطريق أمام مرحلة جديدة في علاقات البلدين التي تربطهما شراكة إستراتيجية صمدت أمام اختبار الزمن، ومن الرموز الدالة على هذه العلاقة الثنائية أن أول زيارة خارجية لجلالة الملك محمد السادس كانت إلى فرنسا في مارس (آذار) 2000.”

ونوه بودن بأن العلاقات بين البلدين بحاجة إلى نهج جديد وزيادة في التعاون والالتزامات الراسخة التي تفضي إلى نتائج ملموسة، مؤكداً أن الزيارة ستعكس نجاح البلدين في دخول مرحلة جديدة من تاريخ العلاقات الثنائية، وستعزز نموذجاً للتعاون خلال الأعوام المقبلة، كما ستسهم عبر الاتفاقات المزمع توقيعها والبيان المشترك الذي سيصدر بعد انتهائها في تعزيز ثلاثة جسور رئيسة، وهي التاريخ والقيم المشتركة، والعلاقات الاقتصادية، وأخيراً المستقبل.

وأضاف المتحدث أن “الرباط وباريس عازمان على التخطيط والبناء معاً وتحقيق المنفعة المتبادلة في القطاعات الواعدة، مثل الطاقة النظيفة والرقمنة والنقل والصناعة وغيرها، كما ستعزز التعاون في مختلف الاستحقاقات المقبلة، ولا سيما تنظيم المغرب مونديال 2030، فضلاً عن العمل المشترك في إطار المبادرات الإستراتيجية للملك المغربي المتعلقة بالأطلسي، وتعزيز حجم التبادلات التجارية، إذ تعتبر فرنسا المستثمر الأجنبي الأول في المغرب والشريك التجاري الثاني بقيمة تعاملات تصل إلى 16.3 مليار يورو (17.6 مليار دولار)”.

شريك إستراتيجي حاسم

وتعليقاً على هذه الزيارة يقول المحلل السياسي في الشأن الفرنسي نبيل شوفان إن الرئيس ماكرون يبرهن من خلال هذه الزيارة على أهمية العلاقة المتوازنة مع المغرب بالنسبة إلى فرنسا، ويؤكد الدور المركزي للمغرب كشريك دائم وراسخ، كما يبرز أهمية العلاقات بين باريس والرباط التي تنطوي على رهانات اقتصادية وإستراتيجية وثقافية رابحة، نظراً لموضوعيتها التاريخية والاقتصادية والجيوسياسية، وللاختلاط الحضاري والثقافي والسكاني الكبير.

وقال شوفان إن المراقبين يعتبرون أن تأييد فرنسا لموقف المغرب من قضية الصحراء في الـ 30 من يوليو الماضي خلال الاحتفالات التي أقيمت لمناسبة الذكرى الـ 25 لتولي الملك محمد السادس العرش، وهو تاريخ ذو دلالة رمزية كبيرة بالنسبة إلى المغرب والمغاربة، يمثل نقطة تحول أعادت خلط الأوراق الجيوسياسية في جنوب البحر الأبيض المتوسط.”

وأشار المحلل السياسي إلى أن الاعتراف الفرنسي جاء بعد إصلاحات مؤسسية غير مسبوقة نفذها المغرب منذ عام 2011، حين بدأ بمراجعة دستوره، كما أن المغرب لعب دوراً دبلوماسياً طور بدقة على مدى العقدين الماضيين، ولم يمنع خيار عدم الانحياز الرباط من نسج علاقات متينة وتعاون راسخ مع قوى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وإسبانيا، وكل ذلك فتح الباب لإطلاق العلاقات وخلق رغبة لدى البلدين في بناء شراكة إستراتيجية، وما زيارة الرئيس الفرنسي إلا تتويج لهذا التقارب على الجبهات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية.”

وأوضح شوفان أنه مع الحفاوة التي استقبل بها الملك محمد السادس الرئيس إيمانويل ماكرون في الديوان الملكي بالرباط، يمكن فهم أهمية إعلان “الشراكة الاستثنائية المعززة” بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية لتمكين البلدين من الاستجابة بصورة أفضل للتحديات التي تواجههما كافة، ويبدو أن باريس مستعدة في سبيل ذلك لضخ استثمارات ضخمة في هذا البلد الذي يتمتع بموارد هائلة من الصيد والطاقة الشمسية والرياح والفوسفات، مع توقيع عقود ضخمة.”

وأضاف المحلل السياسي أن الشركات الفرنسية المعروفة تستطيع بنشاطها الفائق لعب دور مهم على تراب المملكة في قطاعات البنى التحتية، مثل الموانئ والطرق وإدارة البيئة والطاقات المتجددة والانتقال الرقمي، فضلاً عن الثقافة والإبداع والهيدروجين الأخضر والتحول الطاقي ومكافحة تغير المناخ ونتائجه، كما يمكن لفرنسا المساعدة في دعم الزراعة المغربية نحو مزيد من الإنتاجية في ظل تغير المناخ، وفتح حوار حول قرار محكمة العدل الأوروبية بإلغاء اتفاقيتي الصيد البحري والزراعة، فضلاً عن التقارب العسكري الملاحظ بين البلدين في طلبات الأسلحة التي أبرمها البلدان.

 

 

وفي سياق حديثه يبرز شوفان أهمية دعم فرنسا والاتحاد الأوروبي للمغرب على الصعيد الاقتصادي، ويقول إنه “يمكن لفرنسا والاتحاد الأوروبي أن يسهما في تعزيز ديناميكية نمو الرباط من خلال دعمها في الاستثمار عبر مختلف البلدان الأفريقية، وبالتعاون مع المستثمرين الفرنسيين والأوروبيين”.

أما في المجال الرقمي فيمكن تعزيز وتيسير عملية دمج الشركات المغربية الناشئة ضمن النظام البيئي التكنولوجي الفرنسي والأوروبي، وفق ما ذكر شوفان، إذ “بدأ هذا التحرك بالفعل من خلال مجموعة من البرامج التي استطاعت التغلب على العقبات البيروقراطية عبر دمج الخبرات الفرنسية بتناغم كبير مع التراث المغربي المنفتح، مما أراح رواد الأعمال الشباب المغاربة وفتح آفاقاً جديدة لتعزيز هذا التعاون.”

تكامل إقليمي

وعن الأبعاد الجيوسياسية أضاف شوفان أن “فرنسا والاتحاد الأوروبي يستطيعان المساعدة في إعادة إطلاق مبادرة الأطلسي التي أطلقها العاهل المغربي لتمكين بناء تعاون إقليمي قاري بين أوروبا وبلدان البحر الأبيض المتوسط والساحل الأطلسي ودول الساحل، وهذا يشمل تجاوز السياق الجيوسياسي المتوتر مع جارته الجزائر، وإيجاد حلول تخفف التوترات وتعزز التكامل الإقليمي الحقيقي بدلاً من المواجهة المؤذية بينهما، مما سيوافر لدول الساحل فرصة الدخول في هذا الانفتاح الأطلسي المتوسطي، وسيسهم في أمن واستقرار هذه المناطق وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً.”

وفي ما يتعلق بالهجرة أشار شوفان إلى أن “المغرب يحمل جزءاً كبيراً من العبء المالي والبشري، مع مراعاة الجانب الإنساني، فقد بذلت الرباط جهوداً لدمج كثير من المهاجرين من جنوب الصحراء الراغبين في البقاء عبر توفير ظروف معيشية لائقة لهم، وتسهيل مغادرة من يتطلعون إلى آفاق أخرى، وأكد الزعيمان طموحهما في بناء أجندة عالمية تركز على تسهيل التنقل القانوني ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز التعاون بين بلدان المنشأ والعبور والمقصد”.

ولفت شوفان إلى أن توقيع “الشراكة الاستثنائية المعززة” بين المغرب وفرنسا يمثل بداية جديدة لتطبيق أوسع للاتفاقات المعلنة، إذ يعكس تفاهماً عميقاً وتناغماً كبيراً بين الملك والرئيس، وهذا التعاون يمكن البلدين من مواجهة التحديات العالمية المتعددة التي تمتد من أقصى الشرق إلى الشرق الأدنى والأوسط مروراً بأفريقيا وصولاً إلى الأميركيتين، مع التركيز على إخماد الأزمات وحماية المصالح وتعزيز سيادة القانون.

ولتأمين استدامة وفعالية الشراكة الاستثنائية المعززة فقد قرر زعيما البلدين أن يتولى كل منهما الإشراف الشخصي على إدارتها وتحديد أولوياتها وتوفير الزخم المطلوب لها، كما شُكلت لجنة إستراتيجية مشتركة ومحدودة تهدف إلى تطوير اقتراحات لتعميق هذا التعاون بصورة دائمة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية