ستستخدم رايتشل ريفز هذا الأسبوع خطابها السنوي في مانشن هاوس الواقع في القلب التجاري لمدينة لندن “للترويج للتجارة الحرة والمفتوحة بين البلدان”. ويُقال إن وزيرة الخزانة تخطط “للتأكيد على التزامها بالدفاع عن التجارة الحرة، حتى لو كان ذلك يعني تحدي واشنطن”.

مع إلحاق دونالد ترمب هزيمة للتو بإحدى السياسيات التقدميات، فإن عزم ريفز على الوقوف في وجه إدارة حركة “جعل أميركا عظيمة مجدداً” جدير بالملاحظة. ربما، كما يقترح البعض، على غرار زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوك، وبدلاً من المواجهة، ينبغي لريفز أن تغتنم فرص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال حث الرئيس المنتخب ترمب على إبرام اتفاق تجارة حرة بين بريطانيا والولايات المتحدة الذي كنا نتوق إليه منذ ذلك الاستفتاء المصيري على بريكست قبل ثماني سنوات ونصف.

ولكن السؤال الحقيقي هو: هل سيتفاوض دونالد ترمب معنا على صفقة قد تكون مفيدة للمملكة المتحدة؟ هناك أسباب قوية تدفع للاعتقاد بأنه لن يفعل ذلك، مع أسوأ السيناريوهات التي تشير إلى أنه قد يفرض صفقة على بريطانيا تتركنا في وضع أسوأ بكثير.

على غرار كثير مما سيحدث في ولاية ترمب الثانية، يمكننا أن نعد ولاية ترمب الأولى بروفة فوضوية للولاية الثانية التي ستكون أكثر تنظيماً وتصميماً. حينها، وفي استجابة لنداءات ملحة ومتزايدة لرئيسي الوزراء المتعاقبين، تيريزا ماي وبوريس جونسون، بعد الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، وافق الأميركيون في النهاية على بدء محادثات تجارية.

وبحلول عام 2019، ظهرت مسودة اتفاق، فقط ليستخدمها زعيم حزب العمال آنذاك جيريمي كوربين لتحدي “المحافظين”. وقد تردد صدى شعار كوربين “خدماتنا الصحية الوطنية ليست للبيع” في ذلك العام الانتخابي، وللمرة الأولى، كان لديه دليل لتغذية مزاعمه.

بحلول عام 2019، اتضحت أكثر الخطوط العريضة للاتفاق. في الواقع، سُربت مسودة لاتفاقية كهذه، وانتهى الأمر باستخدامها من قبل زعيم حزب العمال آنذاك، جيريمي كوربين، من ضمن واحدة من هجماته القليلة الناجحة على حزب المحافظين في الانتخابات العامة ذلك العام إذ تردد صدى شعاره “خدماتنا الصحية الوطنية ليست للبيع”. وللمرة الأولى، كان لديه دليل لتغذية مزاعمه.

كان هناك خطر أن تتنازل المملكة المتحدة أمام مطالب شركات الأدوية الأميركية القديمة بحماية براءات الاختراع لفترة أطول وبفرض أسعار أعلى لعقاقيرها، مما سيؤدي إلى فواتير أدوية أعلى بكثير على الخدمات الصحية التي تعاني من ضغوط كبيرة. ربما كانت المطالب الأميركية في شأن تولي الشركات الصحية الأميركية إدارة خدمات ومؤسسات الهيئة الصحية الوطنية (NHS) مقابل عائد مالي مناسب أقل إثارة للقلق، لكن مهما كان مدى واقعية هذه المناقشات، كان على جونسون ووزيرة تجارته ليز تراس التنصل منها فوراً واعتبارها غير مقبولة.

كان هناك خطر أن تتنازل المملكة المتحدة عن المطالب الطويلة الأمد لشركات الأدوية الأميركية بتمديد فترات حماية براءات الاختراع ورفع أسعار الأدوية، مما سيؤدي إلى فواتير أدوية أعلى بكثير على الخدمة الصحية التي تعاني من ضغوط كبيرة. ربما كانت المطالب الأمريكية في شأن تولي الشركات الصحية الأمريكية إدارة خدمات وهيئات هيئة الصحة الوطنية (NHS) مقابل عائد مالي مناسب أقل إثارة للقلق، لكن مهما كان مدى واقعية هذه المناقشات، كان على جونسون ووزيرة تجارته ليز تراس التنصل منها فوراً واعتبارها غير مقبولة.

 

ينطبق الشيء نفسه تقريباً على إصرار الأميركيين على معايير مختلفة، وغالباً ما توصف بأنها أقل، في سلامة وإنتاج الأغذية. وهذا يعني تخفيف الضوابط البريطانية المتعلقة بالأغذية والمشروبات والمنتجات الجاهزة، بما في ذلك متطلبات المبيدات الحشرية، والمواد المعدلة وراثياً (GMO)، وتربية الحيوانات والدواجن المعالجة بالهرمونات. وهناك أيضاً قضية المواد الملونة والنكهات الاصطناعية، والمعايير الصحية ورفاهية الحيوانات، إضافة إلى وضع ملصقات غذائية غير تمييزية (فلا تعود العلامة “صُنع في الولايات المتحدة” والعلامة “يحتوي على كائنات معدلة وراثياً” من المؤشرات التي تجعل المشتري يحجم عن الشراء).

قد تتذكرون مسألة الدجاج المعالج بالكلور المألوفة. على عكس المملكة المتحدة وبقية أوروبا، قد تُربى الدواجن في الولايات المتحدة في بيئات غير مثلى وغير طبيعية فتتطلب لحومها غسيلاً بماء معالج بالكلور لتجهز للاستهلاك البشري. لا يبدو أن الأميركيين يمانعون ذلك، ويأكلون كثيراً من منتجات “كنتاكي فرايد تشيكن” KFC من دون أن يمرضوا، لكن على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، أصبح الدجاج المكلور رمزاً للسلبيات كلها التي تحيط بإنتاج الأغذية الصناعية الأميركية.

من المنتجات التي تفتقر أيضاً إلى الشعبية في المملكة المتحدة لحوم البقر المعالجة بالهرمونات والقمح والذرة المعدَلين وراثياً التي ستجد طريقها إلى كل جانب من جوانب السلسلة الغذائية، والتلوين شبه المشع للمشروبات الغازية [الذي يمنح المشروب مظهراً متوهجاً خصوصاً في ظل ظروف إضاءة معينة. وعادة ما يكون نتيجة لتلوين الطعام]، وهو منتج ثانوي لتكرير البتروكيماويات. يا للقرف!

لذلك قال البريطانيون، “لا شكراً” لذلك كله، وساءت الأمور بعض الشيء عندما فرضت إدارة ترمب، في خلاف آخر يتعلق بالسياسات الحمائية دب بينها وبين أوروبا، رسوماً جمركية على صادرات الصلب والألمنيوم البريطانية إلى الولايات المتحدة. ورد البريطانيون بفرض ضرائب استيراد على مشروب البوربون ودراجات “هارلي ديفيدسون” النارية (ما لبثت أن خُففت خلال عهد إدارة بايدن).

لذلك، نعم، يمكننا في الواقع إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع الأميركيين، بشرط أن تكون وفق شروطهم إلى حد كبير. وهذه الشروط تزداد سوءاً…

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في العالم الجديد لولاية ترمب الثانية، نجد نائب الرئيس المنتخب جي دي فانس يقترح أن يتخلى الأميركيون عن دعمهم حلف شمال الأطلسي إذا حاول الأوروبيون (وربما البريطانيون أيضاً) وضع القوانين على شبكة “إكس” الخاصة بإيلون ماسك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، وهو شرط في حال الرضوخ له قد يتطلب تغييرات في قوانين بريطانيا التي تكافح خطاب الكراهية والإضرار عبر الإنترنت والتدخل في الانتخابات. كذلك ستتعرض المملكة المتحدة إلى ضغوط لتسريع اعتماد سيارات ماسك الكهربائية ذاتية القيادة، في حين أن البيت الأبيض قد يعجبه أيضاً انضمامنا إليه في فرض أي رسوم جمركية وحصص تصديرية عقابية على الصين (في خطوة ستؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم في بريطانيا).

يتلخص ضغط آخر في وقف التعاون الاستخباراتي، تشارك الأسرار، وتكنولوجيا الدفاع النووي مع المملكة المتحدة. لا يتورع ترمب عن الخلط بين السياسات الخارجية والدفاعية والتجارية. هو في نهاية المطاف رجل لا يقدم شيئاً من دون مقابل، وعلى رغم عاطفته كلها المحيطة بجذوره الاسكتلندية والعائلة المالكة، يُعد إبرام الصفقات مجاله المفضل. وبالطبع، سيصر الأميركيون على أن يواصل البريطانيون زيادة إنفاقهم الدفاعي.

وإن لم يفعلوا؟ من شأن فرض رسوم جمركية على الصادرات البريطانية أن تخفض آفاق نمونا إلى النصف في السنوات المقبلة، فضلاً عن إثقال كاهل هيئة الخدمات الصحية الوطنية بفاتورة أدوية ضخمة، وإثقال كاهل المستهلكين بأغذية بغيضة، ناهيك عن الأضرار التي ستلحق بالمزارعين غير القادرين على منافسة المنتجين الأميركيين، وهو تهديد أكبر بكثير من فرض ضريبة الميراث على المزارعين. وفي النهاية، سيطرأ تقلص كبير على الفائض التجاري البالغ 40 مليار جنيه إسترليني (51.55 مليار دولار) سنوياً، الذي تحققه المملكة المتحدة في تجارتها مع الولايات المتحدة.

الأمر الأكثر إحراجاً لكير ستارمر هو أن اتفاقية للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يفرضها ترمب علينا بالتنمر من شأنها أن تنهي طموح حزب العمال إلى “إعادة ضبط” “بريكست”. قد نتساءل، مثلاً، كيف سيرد الفرنسيون والإيطاليون والإسبان إذا تدفق النبيذ الكاليفورني إلى السوق البريطانية بشروط تفضيلية. وأي شيء مصنوع من قمح معدل وراثياً، حتى بسكويت الشوكولاتة البسيط “هوب نوب”، سيواجه حظراً في أوروبا بموجب تنظيمات الاتحاد الأوروبي الصارمة.

يوضح المسؤول التجاري البريطاني السابق جون ألتي، وهو الآن مستشار رفيع المستوى في شركة “بايجفيلد” للاستشارات، قائلاً “إذا أُبرمت اتفاقية للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تسمح باستيراد الدجاج المعالج بالكلور ولحوم البقر المعالجة بالهرمونات، سيجعل ذلك من المستحيل بالتأكيد على المملكة المتحدة تحقيق الهدف المتمثل بالحد من الضوابط الحدودية ذات الصلة بسلامة الأغذية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على منتجات اللحوم وربما المنتجات الزراعية ككل، ذلك لأن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لها بدخول أراضيه”.

هذا صحيح، لكن إذا قرر البيت الأبيض في عهد ترمب اتباع المبادئ الموضحة في كتابه “فن الصفقات”، قد ينتهي الأمر بالبريطانيين إلى أسوأ العوالم: اتفاق تجارة حرة فاسد من جانب واحد مع الأميركيين، واتفاق مشوه مع الاتحاد الأوروبي لا يمكننا إعادة التفاوض عليه.

يبدو الأمر مؤلماً، وسيكون كذلك. بئس “استعادة السيطرة”، واستعادة السيادة، والمزايا غير المحدودة لـ”التجارة الحرة” مع اقتصادات أكبر بكثير وأكثر قوة بكثير، وفق وعود مؤيدي “بريكست”. يجب أن نكون حذرين في ما نتمنى.

نقلاً عن : اندبندنت عربية