“عدّ عكسي” مسرحية دمى عن طفل ولد عجوزا

يروي فيلم “الحالة المحيّرة لبنجامين بتن” حكاية طفل ولد على هيئة عجوز في عشرينيات القرن الفائت، وطوال فترة الشريط الروائي (165 دقيقة) ينمو بنجامين بشكل عكسي إلى أن يعود طفلاً رضيعاً ويموت في أحضان حبيبته عام 2003. القصة ذاتها تابعها جمهور مسرح الحمراء الدمشقي في هيئة عرض عرائس للكبار حمل عنوان “عد عكسي”، لتنطلق هنادة الصباغ إلى رحلة تراجعية للحياة من المقبرة إلى الرحم، وتشرع في استدراج أجواء لروح هائمة عند شواهد مقبرة في غابة مهجورة، وبدا أن هذه الروح تؤوب إلى بيتها على هيئة طيف لتشاهد مراسم العزاء الخاصة بها، وهنا تتابع الأحداث لنرى الرجل الثمانيني كيف مات وحيداً في بيته الريفي برفقة كلبه، ومن ثم كيف ماتت زوجته قبله، وبعد ذلك يصور العرض عكسياً مراحل الكهولة فالرجولة فالشباب لكل من الزوجين، وإنجابهما للأطفال وتربيتهما لهم، وصولاً إلى أن نرى بطل العرض وهو يعود طفلاً رضيعاً يحبو على الأرض، ومن ثم نراه كجنين داخل رحم أمه.

في هذه المتتالية الزمنية حققت الصباغ دراما بصرية صامتة (مديرية المسارح والموسيقى) قوامها شخصيات جسدتها أكثر من خمسين دمية من دمى القضبان، أو ما بات يعرف بمسرح دمى الطاولة، ولقد استعانت لهذه المهمة بعشر لاعبي دمى درّبتهم بنفسها على مواءمة الحركة مع الموسيقى والضوء والمؤثرات المختلفة، وإن شطبت الصباغ الحوار من عرضها، إلا أنها تفادت بذلك ربما، عدم قدرة المحرّكين على تحقيق الانسجام المطلوب بين حركة الدمى وأصوات الحوار في العروض التقليدية، والذهاب نحو مستوى تعبيري لعرائس صممتها الصباغ بنفسها من الورق والطين وخامات أُخرى متنوعة، وجعلتها ضمن مناظر محددة لرواية أحداث العرض، فمن مشاهد المقبرة المهجورة إلى البيت والغابة، فمشاهد الحديقة والأبواب السبعة لخيارات الإنسان وتقرير مصيره.

ونجحت هُنادة الصباغ الحائزة على ماجستير في مسرح العرائس (روسيا الاتحادية) في تحقيق ثلاثية الشخصية والدمية ولاعب الدمى، واتكأت على خبرة طويلة لها في إنجاز مسرح ذي أبعاد رمزية بنكهة وجودية حالمة، ومن هنا كان عليها أن تضبط كل عناصر الفرجة، وتعمل مع الفنان أدهم سفر على إيجاد معادل لرؤية بصرية حققها هو الآخر من قدرته على تأطير المناظر المتعددة للعرض، وإيجاد تكوينات لمشهدية لافتة تم فيها التركيز على حركة الدمى وعزل منصة لاعبيها بالضوء وأجهزة بث الدخان خلف شاشة تصدرت مقدمة الخشبة، فيما يمكن قراءة دلالة الساعة الرملية التي رافقت معظم مراحل العرض كاستعارة هي الأخرى من شريط “الحالة المحيرة لبنجامين بتن”. فهي ذاتها الساعة التي صممها صانع ساعات أعمى في الفيلم لمحطة نيو أورلينز الأميركية، وجعلها تدور بشكل عكسي كدلالة على رغبته بأن يعود الزمن به إلى الخلف. لربما بهذا الشكل يعود ابنه ورفاقه القتلى للحياة مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.

الحرب هنا وهناك

وإذا كان الفيلم الذي كتب له السيناريو إريك روث عن قصة للكاتب الأميركي فرانسيس سكوت كي فيتزجيرالد (1896- 1940) قد عُني بموضوع الحرب وآثارها على المجتمع الأميركي في القرن العشرين، إلا أن العرض السوري المقتبس عنه لم يأخذ الحرب في الاعتبار في معالجته للأحداث. بل آثرت مخرجته تقديم رؤية إنسانية شاملة تبدت من خلالها خبرتها العميقة في مجال نحت أو تصميم الدمى وتنسيق ملابسها، والمهارة الواضحة في تصدير ذلك البطء المنعش لتدفق الحكاية ضمن قالب موسيقي بصري عوّض عن الحوار بنقلات إيقاعية رشيقة، وبأسلوبية حققت عنصر الإيهام للمتفرج واستغراق الممثلين في الحياة الداخلية للدمى التي يحركونها. وهذا ما عكس أجواءً مغايرة للمسرح الدرامي التقليدي، وجعل للفرجة المسرحية نكهة مختلفة، ومستويات متعددة للقراءة، فالسؤال التقليدي هنا: ليس ماذا يحصل للإنسان بعد موته، بل أين كان هذا الإنسان قبل أن يولد؟

سؤال مصير الإنسان ما قبل الولادة وما بعد الموت أسهم هو الآخر في إضفاء بعد رمزي على العرض، الذي اختبر بذكاء وأناقة مشاعر الأبوة والرحيل والنجاح والخوف والحب ومساءلة الوجود بلا مقدمات أو استهلالات فلسفية، بل من خلال رحلة إنسان يمر شريط ذكرياته أمام عينيه على امتداد زمن العرض (55 دقيقة). وخلال هذا الانخطاف الزمني يدرك الكائن حكمته وهو يصغر في العمر، فيستعيد شبابه، ويلهو مجدداً عائداً إلى الأيام الخوالي. ونرى كيف يفكر في فترة المراهقة والصبا بإنهاء حياته انتحاراً في صراع أزلي بين ملاكي الشر والخير. وهذا ما جسده العرض عبر رسم متقن لحركة الدمى، وهي حركة لم تركن إلى الفهم التقليدي لمسرح العرائس، بل استمدت تلقائيتها وعفوية محركيها من صدق فني امتلكه محركو “عد عكسي”. إذ لم يقف اللاعب حاجزاً بين الدمية والشخصية، ولم يبالغ في إيماءات اللعبة، بل عمل على توظيف التعبير الأحادي لوجه الدمية في الحالة الدرامية. وضمن جهد إبداعي اشترك الجميع في صياغة مفرداته دونما جلبة أو مصادرة مساحة الشريك معه على المنصة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأمر اللافت هو التنويع في تحريك دمى لأطفال ونساء ورجال وحيوانات وطيور، وهذا ما عكس فهماً متزناً وواعياً لتوظيف إيحائية الدمية، وقدرتها على الانتقال بالمتفرج من عالم الجمادات إلى عالم الأحاسيس والخطوات الناعمة للعرائس في أيدي محركيها. فتحريك دمية كلب أو بومة أو شبح ليست ذاتها مهمة تحريك دمية رجل في العقد الثامن من عمره. حتى جلوس الدمية على كرسيها الهزاز له براعة خاصة في التعامل مع أعصاب الدمية ومفاصلها الخفية إن جاز التعبير، ومن دون الإخلال بالإشارات التي ترسلها هذه الدمية عن حالتها النفسية وأزماتها الدرامية التي تجسد أعلى درجات الوعي بالوجود والزمن والمصير الموعود.

بهذا المعنى يمكن القول إن القائمين على “عد عكسي” حلّوا طلاسم المسرح السوري، فاستغنوا أخيراً عن وجود الممثلين لتنوب الدمى عنهم، ولا سيما في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية جعلت العديد من هؤلاء ينكفئون عن المشاركة في عروض المسرح الرسمي، ويفضلون الذهاب للعمل في التلفزيون واستوديوهات شركات الدوبلاج. ذلك لما توفره لهم هذه الأعمال من أجور مجزية، حيث يبدو مسرح الدمى اليوم بمثابة ملاذ أخير لاستمرار مخرجين سوريين لا يجدون من يعمل معهم في عروضهم لقاء أجور لا تفي لدفع أجرة النقل من أماكن إقامتهم إلى صالات التدريب. بل لا توفر لهم أدنى الشروط الفنية والتقنية لإنجاز العرض المسرحي، مما يجعل من الدمية خلاصاً لكثيرين من مجاملة الممثلين النجوم ومحاولة استرضاء خاطرهم عبثاً للعمل على الخشبة السورية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية