خلال الأشهر الثلاثة المقبلة وتحديداً حتى أواسط يناير (كانون الأول) المقبل سوف يتدافع كثر من الباريسيين وزوار العاصمة الفرنسيين لحضور المعرض الفني الأكثر إثارة للجدل في هذه الأيام حيث سيكتشفون وربما سيعيدون، بالنسبة إلى بعض، اكتشاف ذلك الفنان المنسي من فناني التيار الانطباعي، غوستاف كايبوت (1848-1894) الذي حتى إذا لم يكن منسياً فإن كثراً يعتقدون أنه مجرد ثري هاو لجمع اللوحات وربما مصفٍّ أوصى بما كان قد رسم للسلطات الفرنسية بعد موته، فإذا بتلك السلطات ترفض الإرث ليتلقفه الأميركيون في مقابل أثمان باهظة، ومن المؤكد أن ذلك ما يفسر وجود العدد الأكبر من لوحاته في المتاحف الأميركية طوال القرن الـ20، فإذا عُرِضت في فرنسا تُعرَض مستعارة. ونعرف في هذا السياق أن ما يعرض اليوم في متحف أورساي من أعمال كايبوت سافر عبر المحيط الأطلسي للوصول إلى الوطن، وهي المرة الثانية على أية حال التي يجري العبور بها من الولايات المتحدة إلى فرنسا. فلئن كانت المناسبة اليوم المعرض الذي يقام لمناسبة مرور 130 عاماً على رحيل كايبوت فالمرة الأولى كانت في ذكراه المئوية.
منظور مميز
في المرة السابقة إذاً قدمت باريس المعرض الأول لأعمال كايبوت منذ رحيله ولقي المعرض إقبالاً كبيراً لكنه شهد في الوقت نفسه سجالات كبيرة لم تتناول فقط أعمال الرجل وانطباعيته وتنوع أساليبه الفنية، بل كذلك حياته الخاصة و”تفضيله المزعوم رسم الرجال على رسم النساء” وما إلى ذلك، بيد أن أغرب ما جوبه به في ذلك الحين إنما أتى متعلقاً بتفضيل كايبوت في عدد من لوحاته استخدام منظور يرسم عبره عدداً من مشاهده من وجهة نظر تجعل الرسام واقفاً أعلى من المشهد والشخصيات، فعلى سبيل المثال في عدد لا بأس به من لوحات باريسية خاصة له صوّر الطريق والساحة حول بيته انطلاقاً من شرفة البيت أو من نوافذ فنراه يضع في مقدمة المشهد على الشرفة شخصاً ما، غالباً ما يكون الرسام نفسه ثم في عمق اللوحة على مستوى أدنى يأتي الشارع أو الساحة أو أي مشهد يدور في المشهد ويريد تصويره، وفي المضمار نفسه المتعلق بالمنظور وفي الأقل في لوحتين داخليتين صور عمالاً يكشطون أرضية إحدى غرف بيته ويبدو واضحاً أن وجهة النظر التي رصد العمال من خلالها تعلو عنهم بصورة واضحة، حسناً إنه بالنسبة إلى النقد الجاد أسلوب فني مميز كثيراً من لوحات كايبوت، فهل تعلمون كيف فسر غلاة النقاد الماركسيين الأمر؟
بكل بساطة قالوا إنه إنما يعبر عن تكبر الرسام على الطبقة العاملة وعلى أناس الشارع بتصوير نفسه أعلى من مستواهم! بالنسبة إلى ذلك النوع من النقد الستاليني كان ذنب كايبوت أنه ثري ولم يكن اختياره الفني الذي سيميزه سوى تعبير عن عجرفته وتكبره على البسطاء لا أكثر ولا أقل! والحقيقة أن كايبوت كان ثرياً حقاً وذلك بفضل إرثه العائلي وتحدره من عائلة من كبار الصناعيين الفرنسيين، لكن شغفه بالفن باكراً جعله يضع ثروته وطاقاته في خدمة الفنانين الذين تمكن بسرعة من كسب ودهم وبخاصة حين كان يسارع إلى شراء لوحاتهم مؤمناً لكثر منهم وسيلة عيش ولنفسه واحدة من أكبر المجموعات التي اقتناها فنان لمتعته الشخصية وانطلاقاً من شغفه بالفن.
الحياة الفنية
بدأت حياة كايبوت الفنية الحقيقية بعد سقوط كومونة باريس عام 1870 حين وجد في الفن عزاء له بعدما أمضه سقوط المدينة في أيدي البروسيين وهو كان من المدافعين عنها، كان لافتاً أنه بدأ الرسم مخربشاً رسومات لجنود ما جعله يعرف في أوساطهم برسام الحياة العسكرية، وعلى رغم أنه أمضى أعواماً يمارس تلك التمارين فإنه حين أقيم معرض الانطباعيين عام 1874 لم يكن مستعداً للمشاركة على رغم ارتباطه بهم. أما العام التالي 1875 فلاقت لوحتا العمال الذين يكشطون أرضية غرفته رفضاً، ولسوف تعتبران لاحقاً وحتى الآن من أشهر وأقوى لوحاته، لكنهما قبلتا في معرض عام 1876 فكانت انطلاقته الفنية الحقيقية لكن “واقعيتهما” التي قربتهما من فن غوستاف كوربيه عملت ضدهما، وهو إذ أدرك ذلك راح يدنو في فنه أكثر وأكثر من الانطباعيين حتى وإن كان قد قرر ألا يعرض منذ ذلك الحين إلا مع المستقلين مميزاً فنه بعدد من السمات التي تمنحه تلك الاستقلالية، ومن هنا بات يغرد وحده سواء في لوحات مدينية غالباً ما رسم فيها مشاهد من باريس التي يعرفها أكثر من أي مكان آخر، باريس التي كان هوسمان يعيد بناءها وزولا يكاد يواكب ذلك البناء في أجزاء عدة من سلسلته الروائية “الروغون-ماكار”، ولكن ذلك لم يمنع كايبوت من التوجه إلى الريف لرسمه في لوحات غلب عليها النفس الانطباعي، ولم يمنعه كذلك ومن ناحية مقابلة من محاولة محاكاة فن رسم دواخل الحياة العائلية في البيوت حيث رسم مشاهد من تلك الحياة العائلية داخل بيته ومع عدد من أفراد عائلته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجربة متنوعة
إذاً خاض كايبوت كل الأنواع التي كانت سائدة في تلك المرحلة في الوقت نفسه الذي كون مجموعته الفنية الكبرى المؤلفة في نهاية الأمر، من عشرات اللوحات ما غلّب عليه صفة الجامع إنما من دون أن يحقق له ذلك مكاسب مادية حقيقية، فكانت النتيجة أن خسر مادياً ومن ناحية المكانة حتى انقضى مئة عام كانت كافية لتنتهي بوضع حد لتناسيه وليس مرة واحدة، بل مرتان كما سبق أن أشرنا، أحدثهما هذه المرة التي تتوج استعادة مكانته عبر معرض أورساي الحالي الذي يضم نحو 140 قطعة معظمها لوحات جُمِعت من أماكن عدة كما تُوِّجت بصدور أكثر من دزينة من الكتب والكاتالوغات عن حياته وأعماله في فعل إنصاف لا شك أنه تأخر كثيراً، ولكن لا بأس، أفلا يقال عادة إن المجيء متأخراً خير من عدم المجيء؟
بقي أن نذكر أن غوستاف كايبوت ولد في الـ19 من أغسطس (آب) 1848 في باريس وتوفي في الـ21 من فبراير (شباط) 1894 في جينيفيلييه، وهو إلى كونه رساماً وجامع لوحات، كان راعياً ومنظماً لمعارض انطباعية خلال الأعوام 1877 و1879 و1880 و1882. أورث مجموعته من اللوحات والرسوم الانطباعية والواقعية إلى الدولة، كان شغوفاً بركوب القوارب، وعضواً في دائرة باريس للإبحار، ومقرها في أرجينتويل، وعمل أيضاً مهندساً بحرياً وبحاراً ترك بصمته في عصره، عام 1857 دخل كايبوت مدرسة لويس لو غراند الثانوية في فانف، وعام 1869 حصل على الليسانس في الحقوق، وبعد حصوله على الشهادة عام 1870 خدم كايبوت في الحرس الوطني لنهر السين وشارك في الدفاع عن باريس خلال الحرب الفرنسية البروسية، كما أسلفنا، سُرِّح عام 1871، وسمحت هذه الحرب لوالد كايبوت بزيادة ثروته بصورة كبيرة باعتباره كان المورد الرئيس للبطانيات للجيش الفرنسي.
والعام نفسه 1871، دخل استوديو الرسام الأكاديمي الشهير ليون بونات، حيث التقى جان بيرود، للتحضير لمسابقات الفنون الجميلة، وعام 1872 قام برحلة إلى نابولي وعاد هناك عام 1875 إلى صديقه الرسام جوزيبي دي نيتيس، قدمه الأخير إلى إدغار ديغا.
عام 1873 حصل كايبوت على المركز الـ46 في مسابقة الفنون الجميلة، لكنه بقي هناك لعام فقط، في هذا الوقت التقى مارسيلين ديسبوتين وهنري روارت وكلود مونيه، الذين عاشوا بعد ذلك في أرجينتويل.
نقلاً عن : اندبندنت عربية