تعيش فيروز منذ أعوام، حالاً من العزلة التي يمكن وصفها ب”العزلة الملكية”، منقطعة عن الإعلام والكاميرات، وحتى عن بعض من أصدقائها القدامى، الذين باتت تتواصل معهم من بعيد، عبر الهاتف تحديداً أو السوشال ميديا من خلال ابنتها المخرجة ريما الرحباني، التي ترافقها بصفتها مديرة أعمالها.

تعيش فيروز، بعدما تركت بيتها البيروتي، في منطقة الروشة، في دارتين، الأولى في بلدة الرابية الساحلية، وكانت البيت العائلي منذ أواسط الستينيات، والثانية في قرية شويا قرب بلدة ضهور الشوير الجبلية. ويعيش معها ابنها المقعد هلي، ويقيم زياد أحياناً في البيت الشتوي.

غير أن هذه العزلة ليست قسرية بتاتاً، بل إن فيروز هي التي اختارتها بنفسها، فهي في أتمّ العافية، والإشراق والحضور، وفي أوج العيش الحقيقي، فناً وتأملاً، تتألم أمام المشهد المأسوي الذي يهيمن على لبنان، وعلى الجنوب تحديداً، الذي كانت سباقة في التغني بترابه وأرضه وشعبه في أغنية “إسوارة العروس”. لكنها تتفاءل وتفرح بطيبة تامة، إذا ما تناهت إليها أخبار سارة، عن البلاد والناس والوطن. عزلة فيروز وانقطاعها التام عن الإعلام، وعيشها في خلوة الذات والذكريات، ليست مجرد اختيار للعيش في الظل، بعيداً من مجرى الحياة في معظم أوجهها. فهذه السيدة التي شاءت الانسحاب من معترك الأضواء منذ أعوام، تعيش حالاً من الوئام مع فنها ورسالتها وقضيتها، فالابتعاد عن الضجيج الإعلامي والأضواء لا يعني الاعتزال أو الاستقالة. إنها منذورة للفن طوال حياتها.

فيروز التي تقيم في دارتيها، الشتوية والصيفية، تتابع كل ما يحصل سياسياً وفنياً، ولها رأيها ومواقفها، ولا تحتاج إلى أن تطل إعلامياً ليتذكرها جمهورها الذي يزداد أكثر فأكثر، وهو يحمل اسم “الفيروزيين”. ويكفي الاطلاع على التحيات الغزيرة، التي توجه إليها عبر السوشال ميديا، ليتم التأكد من الحضور الشديد والساحر الذي تمارسه هذه المطربة، التي تقبل الأجيال على فنها، وكأنها النجمة المشرقة التي لا يخفت لها ضوء. وتبلغ التحيات ذروتها في عيد ميلاد فيروز، وكأن الجميع يريدون مشاركتها هذا العيد من دون أن يسألوا عن عمرها، فهي بنظرهم خارج لعبة الأعمار وفوق وطأة الزمن. إنها المطربة الحاضرة دوماً، المتجددة دوماً بتراثها الغنائي الذي هو ابن اللحظة المستمرة والمفتوحة على المستقبل.

لم تغب فيروز يوماً عن حياة الناس اليومية، ولا يمكنها أن تغيب، صوتها هو الرفيق الذي يستحيل الاستغناء عنه، وأغنياتها هي الظلال التي يفيء إليها الناس في لحظات الحنين والحب والشوق والحزن والفرح …إنها أغنيات الحياة في كل وجوهها.

“الديفا الصامتة”

تؤثر فيروز الصمت دوماً،  وكم أصابت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تسميتها “الديفا الصامتة”. تعلم فيروز جيداً أنها وجدت لتغني، وأن الغناء سر منحها الخالق إياه، وأن صوتها وحده قادر أن يواجه الزمن وغوائله.

هذه المطربة المنزهة دوماً، والمترفعة التي لا تستلم إلى أي إغراء، لا  يعني ترفّعها أنها متعجرفة أو متكبرة. فهذه المطربة التي لم تنكر يوماً ماضيها الشخصي البسيط ولا الطفولة الوديعة التي عاشتها وسط عائلة غير ميسورة، تعلم جيداً معنى الألم والمعاناة، ويشغلها البعد الإنساني في علاقتها بالعالم والحياة والبشر. إنها المطربة المفطورة على الجمال والحب، على ألم الفقدان والحزن، وقد صفتها مرة صحيفة “لوموند” الفرنسية بـ”المرأة القدرية”، التي تحدت على طريقة البطلات الإغريقيات، أشد أحوال الحداد، بعد موت عاصي وموت ابنتها الشابة ليال، وأشد الصعاب التي اعترضت حياتها، كمطربة وزوجة وأم وإنسانة في هذا العالم.

لا تخلو عزلة فيروز من بعد روحي ووجداني، فهي لا تزال تعيش الحالة “الأيقونية” التي وسمتها، خصوصاً خلال أعوام التجربة الفنية التي عاشتها مع الأخوين، عاصي ومنصور، والتي لم يستطع ابنها زياد، عبر تعاونهما المشترك، من تحريرها منها، على رغم  أن هذا التعاون الابداعي الكبير، رسم صورة أخرى للمطربة ووضعها في سياق عصر ما بعد رحباني (عاصي ومنصور) وجعلها قريبة جداً من ذائقة الجيل الجديد وهمومه اليومية. تؤثر فيروز الابتعاد عن اللقاءات المفتوحة والمناسبات الاجتماعية، فهي نسيج وحدتها وفنها العظيم وأسرارها التي ترفض أن تخرج إلى العلانية. ومن الملاحظ بوضوح كيف أن فيروز لا تتخلى عن نظارتها السوداء عندما تضطر إلى الخروج من البيت، أو في اللقاءات، لا سيما عندما تكون على مقربة من جمهورها في صلوات الالام والفص والميلاد. هذه النظارات التي تضعها دوماً كلما خرجت من البيت، حتى في الليل، تحميها من نظرات الناس التي تحرجها، وتخفي خفرها العفوي.

وقد يكون من الطبيعي أن يشكو كثر من أهل الفن الحقيقي، أهل الغناء والمسرح والسينما والفن التشكيلي والشعر والأدب، من عدم قدرتهم على لقائها، على رغم استماتتهم على مصافحتها أو التحدث إليها بل التعرف إليها عن كثب، وهم من محبيها والمفتونين بها. مرة أعرب ممثل شاب موهوب وقدير عن أسفه لعدم تمكنه من لقاء فيروز ولو مرة واحدة، في هذا العمر، وقال: فيروز تسخى علينا كثيراً بصوتها الرائع، فلماذا تبخل علينا بلقاء عابر؟

فيروز لا ماكرون

عندما زارها الرئيس إيمانويل ماكرون في دارتها، في الثاني من سبتمبر (أيلول) 2020  خلال زيارته الثانية للبنان عقب انفجار المرفأ، بغية تقليدها وسام جوقة الشرف، الأرفع فرنسياً، مُنعت كاميرات الشاشات والصحافة من تصوير الحدث الكبير داخل دارة فيروز، وتولت ريما الرحباني من التصوير وتوزيع الصور الفوتوغرافية  التقطتها هي بنفسها على الصحافة المرئية والمكتوبة.

كانت ذريعة المنع، تفشي وباء كورونا، مما حرم  جمهور فيروز والمواطنين من رؤيتها في مشاهد  حية على التلفزيون، تتحدث وتبتسم بخفر، ولو خلف قناع بلاستيكي يظهر وجهها واضحاً. التصوير  الآن، وقف على ريما، وممنوع على الصحافيين، وعلى الأصدقاء الذين يزورونها، أيضاً. ريما وحدها تختار كادرات الصور وأبعادها، ريما وحدها تقرر متى تصورها، في المنزل أو في الطبيعة أو في زياراتها القليلة، ومنها زيارة عائلية لإحدى الكنائس، وفيها ظهرت فيروز مع زياد وهلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان جمهور فيروز متشوقاً لمشاهدة فيروز وليس ماكرون عندما زارها، فهي قليلاً وقليلاً جداً، ما تطل، ومثلت تلك الصورة “التاريخية” أولى إطلالتها الفوتوغرافية بعد  فترة من الغياب الطويل.

وردة على سياج قلعة بعلبك

تشاهد فيروز عبر الشاشة الصغيرة المشهد المأسوي الذي تطل فيه قلعة بعلبك، بعدما جردها القصف الاسرئيلي الوحشي من جمالها وهالتها التاريخية وجعلها أشبه بالطلل. تتألم كثيراً، كما نقلت عنها صديقة لها، وقد هالها منظر الدمار الذي حل بفندق بالميرا الشهير الذي كان مربض الفرقة الرحبانية، والذي كانت تقيم فيروز فيه وتستريح، خلال تقديم المسرحيات البعلبكية، هذا الفندق الفني يحمل أجمل ذكريات المهرجانات وحل فيه ضيوفاً كبار الفنانين العالميين.

كانت فيروز في الـ21 عندما أطلت للمرة الأولى على أدراج قلعة بعلبك عام 1956 في “الليالي اللبنانية” لتغني رائعتها ورائعة الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، “لبنان يا أخضر حلو” وسواها من أغان لا تزال محفورة في ذاكرة القلعة البديعة، وفي وجدان الجمهور الكبير. كان لبنان حينذاك كما وصفته الأغنية، أخضر وحلواً، وظل على خضاره وحلاوته في أغنيات فيروز والرحبانيين، أما واقعاً فلم يبق من خضرته وحلاوته إلا النزر اليسير الذي نجا -حتى الآن- من رياح القصف والخراب والفساد والبشاعة والطمع والأنانية…

ويذكر اللبنانيون جميعاً كيف أضيئت قلعة بعلبك في الـ21 من نوفمبر عام 2016 وتم نشر صورة ضوئية عملاقة لفيروز على واجهة القلعة، وتم بث الأغنيات التي أدتها على أدراجها بدءاً من عام 1956، ومنها أغاني المسرحيات البديعة التي احتلت تباعاً أدراج معبد جوبيتر، مثل “جسر القمر” و”أيام فخر الدين” و “جبال الصوان” و “ناطورة المفاتيح”…وغيرها .

هل بلغت فيروز التسعين حقاً؟ يبدو أن تصديق لعبة العمر هذه، صعب جداً، حيال مطربة كبيرة تعيش خارج وطأة الزمن، في فضاء الفن والحب والجمال.  

نقلاً عن : اندبندنت عربية