مارينا تسفيتاييفا شرعت أبواب الشعر الروسي على الحداثة

لا شك أن مارينا تسفيتاييفا من أعظم شعراء روسيا خلال القرن الـ20، إذ عاصرت الشعراء ريلكه وهولدرلن وماياكوفسكي وماندلستام وغيرهم، ونسجت مع كل منهم صلات حب وشراكة شعرية وتأثر وتأثير. فمن هي؟ تشير المقدمة والمراجع ذات الصلة إلى أن مارينا تسفيتاييفا ولدت قبيل مطلع القرن الـ20 من أب أكاديمي بجامعة موسكو هو إيفان فلاديميروفيتش تسفيتاييفا، ومن أم شغوف بالموسيقى والشعر تدعى ماريا ألكسندروفنا ماين. ولئن نشأت مارينا في بيئة أرستقراطية نوعاً ما، فإنها عانت هذا الانتماء ومن مصير والديها على التوالي، فبينما كانت مارينا تتنقل من مدرسة داخلية إلى أخرى أوائل القرن الـ20، عاشت والدتها ممزقة بين أبنائها وبنات زوجها من زواجه الأول حتى توفيت عام 1906، ولم تبلغ مارينا بعد الـ15. وما إن بلغت مارينا الـ18 حتى أظهرت ميلاً جارفاً إلى الاستقلال إلى جانب كونها أحبت شاباً أصغر منها بسنة وعزمت على الزواج منه عام 1912 هو سيرغي آفرون، التقت به في القرم آتياً للاستجمام كونه مصاباً بالسل. وأمضى الزوجان الشابان شهر العسل في أوروبا متنقلين بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

 على أن مسارين اثنين كانا يحكمان حياتها إلى جانب زواجها من آفرون المنتمي إلى الحركة البيضاء المعادية للثورة البلشفية وما ينشأ عن ذلك من أخطار الملاحقة والتخفي، إذ واصلت نشاطها الشعري الذي كانت باشرته وهي في الـ14 وأصدرت عديداً من مجموعاتها الشعرية ومنها ديوانها “ألبوم المساء” الذي نحن بصدده، إلى جانب الأناشيد الشعرية والملاحم. ومن ثم راحت تقيم علاقات عاطفية عابرة ووثيقة وانساقت في حمأة مشاعرها المضطربة إلى عشق الشاعرة صوفيا بارنوك وأديلاند غرتسيك، ولم تألم لانسحاب زوجها من حياتها العاطفية الجامحة وانخراطه في الحرب بعيداً من مزاج امرأته المتقلب. وها هي تنصرف بعد حين عن عشيقاتها ليتعلق قلبها بممثل كوميدي وآخر صاحب دار للنشر، وآخر صديق زوجها ورفيق نضاله، إلى أن ساءت أحوالها المادية وصادر البلشفيك رصيدها البنكي، فرحلت مع ابنتيها إلى براغ في تشيكيا حيث كانت الحكومة تستقبل اللاجئين الروس وتخصص لهم منحاً مالية وسكناً. وهناك تعرفت إلى الشاعر ريلكه وأحبته، وألزما نفسيهما التواصل زمناً حفظت فيه مراسلاتهما في سجل الأدب التراسلي.

وأياً يكن من مصيره البائس في أواخر أيامه لدى عودتها إلى الاتحاد السوفياتي بعد أن أقنعها البعض باستعداد الكرملين للصفح عنها بعد فرارها وإنكارها من قبل ستالين، وموت إحدى ابنتيها من الجوع عام 1919 واضطرارها لبيع مقتنياتها الشخصية لقوتها اليومي وابنتها وانتحارها شنقاً عام 1941، ويأساً مما آلت إليه حالها، فإن ما تركته الشاعرة مارينا تسفيتاييفا من أعمال شعرية وروايات ومسرحيات وملاحم كان جديراً بتجديد الأدب الروسي الحديث، أو ما سمي بأدب الفترة الفضية (1890-1930)، حتى لا يذكر شعراء هذه المرحلة الفضية من دون ذكر مارينا تسفيتاييفا، إلى جانب أوسيب ماندلستام وفلاديمير ياكوفسكي وصامويل مارشاك وليونيد مارتينوف وآنا أخماتوفا وألكسندر بلوك وغيرهم.

رومنطيقية ورمزية وفرادة

وبالعودة إلى مجموعة “ألبوم المساء” يتضح للقارئ أن ثمة عودة للرومنطيقية الألمانية، كما تجلت لدى راينر ماريا ريلكه (1875-1926) الذي عرفته الشاعرة مارينا ونسجت الأيام صداقة بينهما، وتواصلا وقدرا من التأثر بصوغ مناخات القصيدة المستوحاة من موضوعات الرومنطيقية التي باتت معروفة، معطوفة على أحداث من السيرة الذاتية تجعلان الذات المعانية أكثر حضوراً.

تقول في قصيدة “إلى أمي”، “في فالس شتراوس القديم/ للمرة الأولى سمعنا نداءك الهادئ/ منذ تلك اللحظة أصبح الأحياء غريبين عنا/ يبعث على الارتياح الرنين السريع للساعة/ نحن مثلك، نرحب بالغروب/ مستمتعين بقرب النهاية/ كل ما نحن أغنياء به هو أفضل الأمسيات”.

وإلى ذلك، نجد في شعرها أثراً من الرمزية الروسية التي أرساها الشاعر ألكسندر بلوك (1880-1921) والذي عدته الشاعرة مارينا بمثابة “إله للشعر”. ومع ذلك، تتبدى في ثنايا تلك الصور ذات الرمزية الشفيفة ملامح مأساتها الشخصية وأبعاد معاناتها النفسية التي ما ونيت تحملها في وعيها ولا وعيها أنى رحلت، وحتى موتها انتحاراً “مثل نكتة لطيفة/ عن شر قبحه/ أحدثكم عن يتمي/ خلف الأمير-عشيرة/ وخلف السيرافيم-جحافل/ وخلف كل واحد منهم-آلاف مثله/ حتى إذا ترنح أحدهم وسقط عن جدار حي، يعرف أن له آلاف البدلاء/ الجندي بفوجه/ والشيطان فخور بفيلقه… أقف وأرسل -متجمداً من الطيران-/ هذا النداء الصاخب إلى السماء الفارغة…”.

الموضوعات الأثيرة

من الموضوعات الباقية التي عالجتها الشاعرة مارينا تسفيتاييفا في كتابها “ألبوم المساء” أيضاً ما يندرج في باب السيرة أو صورة الذات ولواحقها، كما تراها عين الشاعرة الحساسة وعاطفتها الجياشة ورؤيتها المتشائمة، وتقولها بنبرتها العالية الشبيهة بالصرخات المتقطعة والحادة وبصورها القريبة والمحملة قدراً من الغنائية المنمقة والموقعة، على غرار توقيع النغمات التي كثيراً ما شنفت أذنيها بها، ترسلها والدتها ذواقة الفن وعازفة البيانو البارعة ماريا ألكسندروفنا ماين. ومن هذا القبيل ثمة قصائد بوح بالحب (أحبك، والخاتم)، وقصائد رثاء (ابنته)، وقصائد في الوطنيات أو في روسيا (شعب) وغيرها.

تقول في قصيدة “أحبك”، “أحبك العمر كله وكل يوم/ أنت فوقي كظل كبير/ مثل دخان القرى القطبية./ أحبك العمر كله/ وكل ساعة/ ولكنني لا أحتاج إلى شفتيك وعينيك…”.

وفي المقابل، تقول في قصيدة “الخاتم” رمزاً للزواج الذي عقدته بإرادتها مع الشاب عريسها سيرفي آفرون على رغم إرادة أهلها، “ألبس خاتمه بتحد/ نعم-للأبد-زوجة، وليس على الورق/ وجهه ضيق مثل سيف/ فمه صامت، بزاويتين للأسفل/ حواجبه رائعة بصورة لا تطاق./ اندمج مع وجعه بصورة مأسوية/ اثنان من الدماء القديمة/ هو نحيف كرأس غصن دقيق/ عيناه رائعتان بصورة عديمة الفائدة/ تحت أجنحة الحاجبين الممتدين: هاويتان…”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتقول في رثاء ابنتها التي ماتت جوعاً في إحدى المدارس الداخلية خلال عام 1919، عام المجاعة والاضطرابات في الاتحاد السوفياتي الوليد، “مع السنونو حطت/ خلال الساعة نفسها/ فرح الجسد الصغير/ أعين جديدة./ أن تولدي خلال شهر مارس (آذار)/ يا رب، اسمع التسبيح/ هذا يعني أن تكوني كالطير على الأرض/ سنونوات تغوص في السماء/ انقلب كل ما في البيت رأساً على عقب/ العصافير خلف النافذة/ أيام نوفمبر (تشرين الثاني) الطويلة/ نامي يا طفلتي/ يا طائر الله الصغير/ وداعاً وداعاً”. كما أن ثمة باباً آخر لموضوعات تندرج في باب الرؤية الخاصة أو رؤية العالم، مثل الكلام على السعادة والحب والدون جوان، والحقيقة ونسيان الهوية ومخاطبة الشعراء الأصدقاء، والحسرة على الدم المهراق في الثورة البيضاء والحمراء على السواء، وغيرها.

وتقول الشاعرة في الحب “ما الحب؟ الراعي/ باليد يضرب في الأسفل/ هزة لمدة ثلاث ثوان/ على جبال الجنة/ هذا جحيم وجنة/ صعود وهبوط/ بقايا حفر الخوازيق فقط/ في الوصلة الحديدية/ ركبت للحظة صرير أسنان لأعوام/ في الحلم سقوط القلب/ في أعماق المريء…”.

وتقول في إحدى عشيقاتها “لدينا ساعة،/ وبعدها للأبد/ لن نكون معاً./ الرمل يتسرب من/ صندوق الرمل./ ما يجذبني إليك/ ليس جدارتك إطلاقاً/ ببساطة كل الخوف أن وردة الخد ستذبل…”. وتقول في رثاء زوجها الذي أعدمته السلطات البلشفية لاتهامه بالعمل مع الحركة البيضاء: “أيها الفطير الأبيض الصدر/ آه أنت فطري/ أيها الفطير الأبيض الصدر/ يترنح مع عويل الحقول/ روسيا ساعديه/ ليستقر على قدميه./ عتمت علي الدماء الحمراء/ من اليمين واليسار/ تثاؤب دموي/ وكل جرح ماما./ كل ما في الأمر/ بصورة واضحة لي-سكران/ من الرحم إلى الرحم…/ أين جماعتنا؟ أين الغرباء؟/ كان أبيض. صار أحمر/ لطخ بالدم…”.

وفي نشيد طويل مؤلف من سبعة مقاطع أو قصائد تعالج فيه الشاعرة صورة دون جوان في خليط من التهكم والمرارة والغنائية الملتاعة والبراعة، تقول “لا نافورة مدوية/ ولا نجوم حارة/ على صدر دون جوان/ صليب أرثوذكسي/ لجعل ليلك مشرقاً/ وأبدياً يكون./ أحضرت لك مروحة سوداء/ إشبيلية/ لكي ترى بأم عينيك/ الجمال الأنثوي/ أنا لأجلك الليلة/ سأحضر قلبي/ وفي هذه الأثناء/ أرقد. نوماً هنياً/ أتيت من بلاد بعيدة إلى قائمتك كاملة يا دون جوان…”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية