منذ إعلان الجيش السوداني هجومه الشامل والمتعدد المحاور وعبور أهم ثلاثة جسور بولاية الخرطوم من مدينة أم درمان نحو الخرطوم بحري والخرطوم، فجر الـ25 من سبتمبر (أيلول) الماضي، انتقل الجيش من حالة الدفاع إلى الهجوم والتقدم المتواصل، مقابل تراجع قوات “الدعم السريع” وتحولها إلى الدفاع، وأضاف انسلاخ قائدها بقطاع ولاية الجزيرة محمد أبو عاقلة كيكل وانضمامه إلى الجيش، بعداً جديداً لخسائر “الدعم السريع”. فماذا وراء هذه التحولات الميدانية وانعكاسها على مستقبل الحرب المستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام؟
الاجتثاث الصعب
يرى الباحث في الشؤون السياسية والأمنية إسماعيل يوسف أنه على رغم التقدم الميداني للجيش، فإن القضاء على “الدعم السريع” واجتثاثها، بصورة نهائية، يظل أمراً صعباً للغاية، مرجحاً أنه، في حال استمرار انتصارات الجيش وتمكنه من طرد “الدعم السريع” من العاصمة وولايات الوسط وكردفان، “سيكون ملاذها الأخير إقليم دارفور، مما قد يقودها، فور شعورها بتفوق الجيش، إلى سحب قواتها وتركيز كل قوتها ومجهودها الحربي على إسقاط مدينة الفاشر”.
سيناريو الاستنساخ
ويتابع، “هذا السيناريو يعني استمرار دوامة الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، سنوات أخرى طويلة، في ما يشبه استنساخ الحرب مع الحركات المسلحة بدارفور التي امتدت أكثر من 20 عاماً منذ عام 2002، حتى توقيع اتفاق سلام جوبا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، مما يزيد من احتمال الحرب القبلية والعرقية وانفصال الإقليم بتكوين حكومة تابعة له هناك لإضعاف وتقويض شرعية السلطة الحالية”.
وبحسب الباحث، “فقد يفضي تقدم الجيش وانتصاراته إلى سيناريو آخر، إذ يمكن أن تشكل المفتاح لعودة الجيش إلى مفاوضات وقف إطلاق النار، ويكون الجيش هو المتحكم في شروطها باعتباره الطرف الأقوى والمسيطر ميدانياً، ومن ثم العودة إلى البحث عن حلول ومعالجات شاملة لجذور الصرع التاريخي بالبلاد، بمشاركة كل القوى السياسية والمدينة المختلفة، لوضع نهاية حقيقية للحرب على طاولة التفاوض تمنع تجدد الصراعات مرة أخرى”.
ميزان القوى
ووصف الفريق أول محمد بشير سليمان المتخصص في الشؤون العسكرية قوات “الدعم السريع” بأنها “تفتقر لأي مؤهلات تستطيع من خلالها أن تحقق انتصاراً حقيقياً مستداماً على الجيش، بالنظر إلى الفارق الكبير بينهما في مفاهيم التنظيم العسكري العلمية المرتبطة بعوامل ووحدة القيادة والسيطرة وروح الفريق”. وأوضح بشير أن “الدعم السريع” اعتمدت في بداية الحرب على تفوقها، “معتقدة أنها تستطيع هزيمة الجيش في زمن وجيز، لكنه تمكن من الصمود وإجهاض خطتها عبر الإدارة السليمة للعمليات وعامل الوقت، تزامناً مع التخطيط لعملية البناء الداخلي للجيش بمعالجة النقص في السلاح والتجنيد والاستنفار وتفعيل المقاومة الشعبية”.
وتابع، “تمكن الجيش من تصحيح ميزان توازن القوى وتجاوز حالة السكون والنشاط العملياتي المنضبط، ثم تحول إلى تطوير عملياته تزامناً مع عملية البناء العسكري، حتى وصل إلى مرحلة التخطيط والتحرك الشاملين وفق أسبقيات استراتيجية محددة نحو الخطة الكلية لهزيمة العدو وتحرير أرجاء البلاد كافة”.
أسباب الهزائم
وعزا المتخصص العسكري أهم أسباب هزائم قوات “الدعم السريع” وتراجعها وانضمام بعض قادتها الميدانيين في الآونة الأخيرة إلى الجيش، لعوامل عدة أبرزها الاختلافات في طبيعة التكوين والتأسيس لكل من الجيش و”الدعم السريع”، من حيث تمسك الأول بالأسس العلمية والتنظيمية لبناء الجيوش، والالتزام بالهدف الاستراتيجي والعقيدة الوطنية، “وهو ما لا يتوفر لدى قوات “الدعم السريع” بصورة أفقدتها أهم مقومات بناء الروح المعنوية التي تمثل أكثر من 70 في المئة من عوامل تحقيق الانتصار”.
وأضاف، “تم تأسيس الجيش السوداني على مبادئ الجيوش النظامية العالمية ومشهود له عالمياً وإقليمياً وداخلياً باحترافية قتالية تاريخية، لذلك لا يمكن مساواته أو مقارنته بقوات غير منظمة ما زالت تجهل مبادئ الحرب وفنون وأساليب القتال، وتفتقد العقيدة القتالية ومناهج التخطيط العسكري وخطوات تقدير الموقف وإدارة العمليات المشتركة وفق الأسس العلمية العسكرية المعروفة”.
الدافع والقيادة
ولفت سليمان إلى أن دافع القتال المادي العنصري والقبلي لقوات “الدعم السريع” لا يساعدها على تماسك وحدتها وبناء إرادة موحدة للقتال والصمود، فضلاً عن معاناتها جراء غياب تأثير روح القائد وأهميته في القيادة والسيطرة، بخاصة على المستوى الأعلى، مع تزايد عدد قتلى كبار قادتها الميدانيين في المعارك، وقال إن انضمام بعض قادتها إلى الجيش، إضافة إلى العقوبات الغربية التي طاولت عدداً منهم وملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لهم بجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يعمق من هواجس الاختراق والشكوك لديها، وأشار، أيضاً، إلى أن ما يجري الآن من عمليات وفق الخطة العملياتية للقيادة العامة لإكمال تطهير ولاية الخرطوم، يتكامل مع الخطة الشاملة لتنظيف ولايات الجزيرة، النيل الأبيض، سنار، والنيل الأزرق، “والتي بدأت بالانتصارات المتطورة يوماً بعد يوم مع تراجع وانكسار قوات (الدعم السريع)”.
سيطرة غالبة
في المقابل قال إبراهيم مخير مستشار قائد قوات “الدعم السريع” إن “قواتهم ما زالت تنتشر على أكثر من نسبة 75 في المئة من مساحة السودان، وتسيطر على أهم ولاياته الغنية بالثروات الطبيعية في كل من دارفور وكردفان والجزيرة والنيل الأزرق وغيرها من المناطق”، وبين مخير أن “تكتيك وسياسات (الدعم السريع) الاحترافية لم تتغير منذ بدء الحرب، واستمرت في تكبيد الجيش خسائر كبيرة عبر الهجوم السريع والمفاجئ والمناورة المرنة، مما لا يستطيع الجيش أن يجابهه ببطء حركته وترهلها بالمدنيين من الإسلاميين الذين يسيطرون على قراره”.
وتابع أن “(الدعم السريع) لا تزال تعمل بنشاط وبمعنويات مرتفعة بغرض شل حركة الجيش ومنعه من ترويع الآمنين، إضافة إلى الضغط على قادته للخضوع للأمر الواقع بوقف إطلاق النار والاستجابة للإرادة السودانية والدولية لتحقيق السلام في أنحاء البلاد”، لافتاً إلى أن “الهزيمة الأخيرة لقوات الجيش في مدينة تمبول، بشرق الجزيرة، تؤكد مدى فشلها في السيطرة على مدينة واحدة لفترة لا تزيد على سويعات قليلة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حصار وانتهاكات
وفي شأن استعادة الجيش مدينة الدندر أوضح مخير أنها واحدة من محليات ولاية سنار السبع وتكتسب أهميتها العسكرية لكونها ممر الإمداد الوحيد للجيش بين مناطق سنار والقضارف والنيل الأزرق، “لكن قواتنا ما زالت تتحرك بحرية في المنطقة معطلة أي فعالية للجيش، كما أنها ما زالت تحكم قبضتها على مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار، وتواصل حصارها قوات الجيش داخل محلية سنار وتمنع تمددها”.
وفي ما خص الانتهاكات المنسوبة لقوات “الدعم السريع” حمل مخير المسؤولية لما وصفها بالعصابات المسلحة التي انضمت لتقاتل تحت قيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبدالفتاح البرهان “بعد إطلاق سراح نزلاء السجون من المجرمين”، مجدداً الدعوة للجان الدولية لتقصي الحقائق والمنظمات المهتمة أن تكمل تحقيقاتها في هذا الشأن.
استراتيجية متقدمة
بدوره أوضح اللواء بحري الصادق عبدالله أن الجيش استرد عافيته بالفعل وتحسنت عمليات إمداده وخططه بتطبيق استراتيجية عملياتية متقدمة بالاستفادة من خبراته وتجاربه الطويلة في خوض الحروب والمعارك الإقليمية والدولية، في الحرب العالمية الثانية، وقوات حفظ السلام الدولية في الكونغو، وحروب فلسطين، وقوات حفظ السلام العربية، في كل من الكويت وفي لبنان وغيرها. وأشار عبدالله إلى أن خبرات الجيش التراكمية في التعامل مع الحرب وحركات التمرد في جنوب السودان ودارفور في أوقات سابقة، “تؤهله للتغلب على قوات (الدعم السريع) وإن طاولت الفترة الزمنية لتحقيق ذلك، بخاصة بعد أن خسرت قوات (الدعم السريع) أي سند شعبي ولا سيما حواضنها المجتمعية والشعبية بسبب الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقتل والنهب والسلب والتهجير القسري لسكان كل منطقة تدخلها”.
سيطرة ومبادأة
في المقابل رأى المراقب العسكري الرائد محمد مقلد أن قوات “الدعم السريع” ما زالت تسيطر على الموقف العملياتي بكل محاور القتال، وقال إنه “بعد خطاب قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو الأخير في معركة جبل موية، إذ اعترف فيها بالانسحاب من المنطقة، اتخذت الحرب منحى آخر سيكون له تأثيره المباشر على سير المعارك واتساع رقعتها مستقبلاً”، وأكد مقلد أن عنصر بدء القتال في كل المحاور ما زال بيد قوات “الدعم السريع”.
المستقبل المظلم
ورأى المراقب العسكري أن انسلاخ القائد كيكل وعودته للجيش من دون قواته أو الاستفادة منه في استعادة مدينة ود مدني أو أي موقع عسكري بولاية الجزيرة “يحسب أيضاً فشلاً استخبارياً للجيش”، مرجحاً أن يتم استغلال هذه العودة لحشد قبائل الشكرية بالمنطقة ضد قوات “الدعم السريع”، بخاصة بعد دخولها وسيطرتها على مدينة تمبول بعد انسحاب الجيش منها، محذراً من أن تحشيد القبائل لدخول هذه الحرب سيعني مستقبلاً مظلماً يهدد بتفتيت البلاد وزوالها.
وشن الجيش هجوماً شاملاً متزامناً على قوات “الدعم السريع” في عدد من المحاور، داخل العاصمة الخرطوم وفي كل من دارفور وولايتي الجزيرة وسنار وسط البلاد، واستطاع، خلال أكتوبر الجاري، استعادة سيطرته على منطقة جبل موية الاستراتيجية بعد معارك ضارية استمرت أيام عدة، ثم قبل يومين، مدينة الدندر بولاية سنار، وهو يصوب نظره نحو استرداد مدينة السوكي المجاورة في الولاية ذاتها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية