تبدو رواية الكاتبة الجزائرية هاجر قويدري “خط رمل”، (دار العين) مساحة سردية مفتوحة للتفاعل بين الكاتب والقارئ، بحيث لا يكون للأحداث نهاية جازمة، بل تستمر في ذهن القارئ، تنمو وتتشكل في تساؤلات، حول مرور الزمن في حياة هؤلاء الأبطال الذين واجهوا مصائرهم بشجاعة.
اختارت الكاتبة أن تقسم روايتها إلى خمسة فصول، هي “خط يمينة بنت حوطة”، و”رمل ماجدة شيخاني”، و”خط دوجة زوجة أحمد فياض”، و”رمل ماجدة شيخاني”، و”خط مراد شيخاني”، واستعانت بكلمة “خط ورمل” لتدل على المصير، أو خيط القدر الذي يلضم كل شخصية مع أخرى.
تتحد جميع الشخصيات النسائية في الرواية، على رغم تباين أدوارها، وتباعد مراحلها الزمنية في سعيها إلى فهم المعنى العميق للحياة، والهرب من عبثيتها. هذا السعي يتخذ أشكالاً متنوعة، بدءاً من البحث عن الحب والانتماء، وصولاً إلى محاولة التخلص من قيود الواقع، عبر مساع غير مكتملة وهواجس متشابكة. يتسلل السرد إلى بواطن هذه الشخصيات، ليكشف عن هشاشتها وقوتها في آن واحد، مما يضفي على النص بعداً فلسفياً يتجاوز سرد الأحداث الظاهرية إلى التشابك تاريخياً مع ماضي الجزائر وحاضرها، عبر إشارات من خلال الشخوص تدل على زمن الاحتلال التركي، مع شخصية “مولانا البودالي”، زوج يمينة بنت حوطة، الذي فقد حياته لمقاومته عثمان باي الأعور.
خطوط المصير
تبدأ الأحداث مع خط يمينة بنت حوطة، شتاء 1804. تواجه يمينة قدراً مرعباً بعد موت زوجها البودالي، يعتدي ابن عمها خالد عليها جنسياً، لأنه يعدها من حقه، وكان من المفترض أن يكون هو زوجها لا البودالي. حادثة الاعتداء تنتهي بأن تطعن يمينة ابن عمها بالمنجل في رقبته، ومن حينها تصبح هاربة ومطاردة من القبيلة، لكن الزمن وحده يجعل من ضريح القاتلة مقاماً، سيلتجئ إليه الآخرون للحصول على الأمان والبركة. تقول: “كان زواجي من مولانا البودالي أول شيء أبدأ به حياتي، وكل ما عداه طفولة ساذجة لم تفلح حتى في تخزين الذكريات، كان عمري 13 سنة عندما وقفت أمامه، ظلت أمي معي طوال تلك الليلة، لقد تأخر كثيراً في الدخول إلى غرفتي، سألت أمي وسألت، وفي كل مرة كانوا يقولون لها: إنه في خلوته… أنا يمينة بنت حوطة من عرش بني مسلم لم أختبر أمراً عظيماً غير العذاب والانتظار… ودعت حياتي وهي مفتوحة كنافذة”.
تبدو تيمة التشظي المكاني والزماني والنفسي أحد الأعمدة الرئيسة التي يقوم عليها المعمار السردي، سواء في نسج شبكة العلاقات التي تقوم بين الأبطال، أو في تشكيل وحدات سردية، تنفصل وتتصل في حركة تشبه الإيقاع الموسيقي الذي يحمل القرار والجواب، أو الرجع والصدى. كل حدث له صلة وثيقة مع حدث آخر يقع لاحقاً مع شخصية أخرى، بحيث تبدو البطلات ضحايا لنظام أبوي قاس، يوقع عليهن عقوبات اجتماعية بدلاً من الرجال الذين دخلوا حياتهن. هذا يمكن ملاحظته مع جميع البطلات، ما عدا ماجدة الأستاذة الجامعية، التي قررت كسر هذا الطوق، والتحكم في مسار قدرها، عبر رفض نطف رجل ميت، أراد منها أن تحمل جنينه، ثم قررت التبرع بما تركه لها من مال لمرضى السرطان، وكأنها عبر هذا الاختيار تقدم أضحية تحصل من خلالها على حريتها كاملة، لا نقص فيها. تستعيد ماجدة ذاتها، تتصالح مع أمها ومع وطنها، مع تعرضها هي أيضاً للاغتصاب، وتفتح نافذة جديدة على الحياة، وهنا يكمن الاختلاف بين مصير يمينة واختيار ماجدة.
الوطن والمنفى
تمنح الكاتبة صوتاً ذكورياً واحداً لمراد والد ماجدة شيخاني، تعطيه مساحة سردية في الفصول الأخيرة، ليسرد قصته، ويكشف من خلال مذكراته التي تعثر عليها ماجدة، ابنته، عن ماضيه كله، كيف سارت به الحياة، ولماذا جاب أوروبا باحثاً عن قدره، وكيف سُجن في الجزائر، ومتى تزوج من أمها سلمى.
تتقاطع المصائر في الرواية، يلتجئ مراد ابن الشهيد، الذي غادر قريته هارباً من بطش زوج والدته، إلى مقام يمينة بنت حوطة، ويحصل على الأمان هناك، يقول: “هذه اللحظات فارقة في حياتي، تشعرني بأنني منذ أكلت التشيشة الساخنة في مزار يمينة بنت حوطة، وأنا أخرج من كل عثراتي بسلام، شجعني ذلك على المضي قدماً، والوصول برحلتي إلى نهايتها”. وكأن زيارته المقام شكلت صلة الوصل مع سلمى حفيدة يمينة.
دوجة، قريبة سلمى، وزوجة أحمد فياض المتهم بأنه حركي تعاون مع الفرنسيين، تهرب مع أطفالها الثلاثة، عبر سفينة متجهة إلى مارسيليا، وفي باريس يُختطف الأطفال من إحدى الحدائق. ماجدة تحصل على نطف مارك وثروته، بعد علاقة حب جمعتها به في باريس مدة أربعة أشهر، من دون أن تعرف أنه مصاب بالسرطان، إلا حين تتلقى إيميلاً من محاميه يخبرها فيه عن وصيته. لكنها ترفض هذه الهبة، وتصر على إيجاد ذاتها، والعودة إلى حضن أمها سلمى، والاعتناء بها، والبحث عن الخالة سميحة، التي غيبها مرض ألزهايمر في دوامته… شبكة من الأقدار المتعثرة تتحكم في حيوات الأبطال وتنسجها. منحت الكاتبة أبطالها قدرات فائقة، لمقاومة الظلم والخوف والحسرات الكثيرة التي جاءت نتيجة الخذلان، والخيانات غير المفهومة ولا المبررة، سوى في وجود عتمة كثيفة تسكن النفس الإنسانية، وتتسبب في إباحة الضرر. وهذا يتضح منذ بداية السرد، سواء في افتتاح الرواية مع مشهد اغتصاب خالد ليمينة، التي تضطر إلى قتله، أو في خطف أبناء دوجة، ومصيرهم المجهول، أو في غرق سلمى لسنوات طويلة في أدوية الاكتئاب التي لا يمكنها النوم من دون تناولها، أو في مرض سميحة وعيشها مخدوعة بزوجها سي الطاهر، أو في تعرض ماجدة للاغتصاب من ابن الجيران الذي عدها ابنة إرهابي، وعليه الانتقام منها بمساعدة والدته، مما دفعها إلى مغادرة الجزائر.
أماكن وأزمنة
يحضر المكان في الرواية كعنصر دال ومحوري، يشارك في صياغة المشهد النفسي للشخصيات، إذ يتحرك الأبطال في المدن والأماكن ذاتها، وكأن كل خطوة يخطوها أحدهم تشكل بنية سردية لما سيأتي لاحقاً. يصور الأماكن بعناية، بحيث تعكس تفاصيلها مشاعر الغربة والانفصال والحنين والوحدة والخسارة والصبر، وهذا يتضح مثلاً في وصف مراد ودوجة لمارسيليا، أو وصف ماجدة لباريس. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الأماكن محطات لتأملات فلسفية عميقة حول الزمن والوجود والمصير.
ترتبط البطلات مع الأماكن التي يرتحلن إليها، وفي الوقت عينه تبدو كل واحدة منهن حاملة في داخلها مراراً يعذبها، ويجعلها عاجزة عن الركون إلى مكان واحد. اعتمدت الكاتبة أيضاً على التقطيع الزمني، منذ عام 1908، في الفصل الأول، ثم القفز إلى عام 2015، مع شخصية ماجدة، ثم عام 1962 مع دوجة، وهذا التاريخ يتقارب أيضاً مع الزمن الذي يسرد فيه مراد حكايته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرت الكاتبة بصورة رمزية على كثير من المنعطفات التاريخية، والأحداث السياسية في الجزائر، وكشفت انعكاس مساراتها على وقائع الأبطال واختياراتهم، التي تجبرهم على تحوير حياتهم في منعطفات أخرى للنجاة من مصير مهلك. لنقرأ ما تقوله دوجة: “شعرت أن الاستقلال ملكي، وأن البلد الذي تحرر بلدي، شعرت أنني أنتمي إلى كل هذا الفرح الكبير بعمق وفخر، كيف يمكن للجبهة أن تفعل بي هذا؟ يا سميحة لو أنني لم أغادر البلد حتى أشهد هذه اللحظة، يمتلكني الغضب، ولا أعرف ماذا أفعل؟ إنه الاستقلال يا سميحة، هل خرجت إلى الشارع؟ هل كانت سلمى معك؟ لقد اشتقت إليها كثيراً؟ هل تسأل عني؟”.
أسلوبياً، يتجلى في “خط رمل” مزج المؤلفة بين السرد الواقعي والتعبيرات المجازية، التي تنقل القارئ إلى عالم من التأملات العميقة والأحاسيس المتناقضة، وهذا نجده مع جميع الشخصيات، ضمن تكرار الصراعات الداخلية، وتشكلها في صور رمزية تتمركز حول الفقد والخسارة، فقد الأبناء وخسارة الوطن، والحنين إلى الأحبة. يتمتع النص بتماسك لغوي وجمالي رفيع، تتداخل الأوصاف الحسية مع الأفكار المجردة في اختيار المفردات، وصياغتها ضمن عبارات تحمل في طياتها أكثر من معنى، مما يتيح للقارئ فرصة لاكتشاف الطبقات الخفية للنص، والتأمل في رمزية خطوط الرمل التي تشكل حياة البطلات، وفي أثر كل خطوة قمن بها على طول طريق حياتهن المتعرج.
تعاني البطلات جراحاً غائرة، سببت لهن النزف لوقت طويل، وغدت ندبة في أعماقهن قابلة للتدفق بالدماء في أي وقت. لكن ماجدة أرادت أن تكسر هذه الدائرة المعذبة، أن تكشف عن جميع الحقائق، وتعري الجراح المفتوحة، وتقوم بتعقيمها والشفاء منها. لذا تقول في الجملة الأخيرة من الرواية، بعد أن تقوم برحلتها الطويلة للمعرفة والتعافي: “أما أنا ماجدة بنت مراد شيحاني بن مسلم العواطي فقد أرجعت اليوم كامل ديوني ورسوت أخيراً”.
الكاتبة هاجر قويدري هي روائية وأكاديمية جزائرية، ركزت في رواياتها على تيمة الفترة العثمانية في الجزائر، وحازت تقدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية من جنيف عام 2018، وحصلت روايتها “نورس باشا” على جائزة الطيب صالح للرواية العربية عام 2012، ولديها مساهمات بارزة في مجال الأفلام الوثائقية، وأبحاث في الفلسفة والتكنولوجيا.
نقلاً عن : اندبندنت عربية