في شارع سانت جيمس بلندن، بين نوادي الأعضاء الخاصة ومحلات الأسلحة الفاخرة والسيجار، يوجد متجر مميز حتى بمعايير هذه المنطقة يدعى “شاربس بيكسلي” وهو متجر لبيع الذهب، بدءاً من سبائك بقيمة عشرات الآلاف من الجنيهات إلى شرائح رفيعة لا تتجاوز قيمتها 100 جنيه استرليني (129.6 دولار)، كما تتوفر أيضاً عملات ذهبية، بعضها معفى من ضريبة أرباح رأس المال، مما يجعلها خياراً مفضلاً قبيل إعلان الموازنة هذا الأسبوع.
وتشهد الأعمال نشاطاً ملحوظاً، فحينما زارت صحيفة “صنداي تايمز” المتجر الأسبوع الماضي، كان هناك ثلاثة أشخاص ينتظرون الخدمة، بينما كان آخرون يتفقدون صناديق الودائع في خزائن تحت الأرض.
أشار المدير في “شاربس بيكسلي” أوستن كيدل إلى أن هذا القطاع التجاري المتخصص لم يكن بهذه الحيوية من قبل، مضيفاً “شهدنا أشخاصاً يأتون بحقائب سفر لشراء سبائك الذهب، ونحن نحاول ثنيهم عن ذلك لأننا يمكننا توفير شاحنات مدرعة”.
ليس من المستغرب أن يتهافت المستثمرون الأفراد على شراء الذهب، إذ شهدت أسعاره ارتفاعاً كبيراً هذا العام، فقد سجلت الأونصة رقماً قياسياً عند 2758.37 دولار الأسبوع الماضي، بزيادة قدرها 40 في المئة خلال الـ12 شهراً الماضية. ويعتقد محللون في بنكي الاستثمار “غولدمان ساكس” و”يو بي أس” أن الأسعار تتجه نحو الارتفاع في الوقت الحالي، وتوقعوا وصولها إلى نحو 3 آلاف دولار للأونصة العام المقبل.
وفي الأثناء تسجل صناديق الاستثمار المتخصصة في هذا المعدن النفيس تدفقات مالية قياسية، تصل أحياناً إلى مليارات الدولارات شهرياً، بينما شهدت أسعار أسهم شركات تعدين الذهب ارتفاعاً كبيراً.
وكثيراً ما تأثرت ثروات الذهب بأسعار الفائدة والتضخم والمخاوف الجيوسياسية، إذ يعد “الملاذ الآمن” المفضل للمستثمرين الباحثين عن الأمان، وحينما تنخفض أسعار الفائدة وتتراجع العوائد على بعض الأصول، يصبح الذهب خياراً آمناً. وعندما يؤدي التضخم إلى تآكل القوة الشرائية للعملة، يرتفع سعر الذهب شأن باقي السلع، بعدما نال المعدن عن جدارة سمعته بوصفه ـ”سلعة الأزمات” بين المستثمرين القلقين من الحروب والتوترات العالمية.
مع ذلك، فإن هذه الطفرة مختلفة، فهناك دافع آخر لارتفاع الأسعار في الوقت الحالي، إذ كان المشترون الكبار خلال السنوات القليلة الماضية هم البنوك المركزية للدول الناشئة، في حين أن عديداً من هذه الدول معادية للولايات المتحدة، وتعد تخزين مزيد من الذهب حماية مالية، في حين يعتقد آخرون أن هيمنة الدولار بوصفه وسيلة للتبادل العالمي بدأت تتراجع، وفي كلتا الحالين يعد ذلك بمثابة دعوة لليقظة بالنسبة إلى الغرب، بحسب ما يشير الاقتصادي محمد العريان للصحيفة، الذي يعتقد أننا قد نكون بصدد رؤية تفتت في النظام المالي الدولي القائم على الدولار، مما قد يعني تقويض القوة الأميركية.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، بلغت مشتريات البنوك المركزية من الذهب مستوى قياسياً في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، إذ اشترت الهند الذهب كل شهر في النصف الأول من العام، كما كانت أوزبكستان وقطر وروسيا والعراق والأردن من بين أكبر المشترين، وكثفت الصين أيضاً مشترياتها، وفي المقابل كانت بولندا الدولة الغربية الوحيدة التي نفذت مشتريات كبيرة من الذهب.
بديل مدعوم بالذهب يحل محل الدولار
أدى الاستياء من دور أميركا في الشرق الأوسط إلى ترسيخ المشاعر المناهضة للغرب، وأثارت العقوبات المفروضة على روسيا بعد حربها على أوكرانيا، وإقصاؤها من نظام “سويفت” الدولي للمدفوعات، قلق الدول التي تخشى أن تواجه مصيراً مشابهاً إذا اصطدمت مع الغرب. ويعد شراء السلع بالذهب، أو استخدامه أداة مالية مفيداً في أوقات الأزمات، إذ يصبح من السهل تفادي العقوبات عبر الدفع بالذهب، وهو أمر يصب في صالح روسيا.
ويرى عديد من الدول أن الوقت حان لإنهاء “تسليح” أميركا للدولار، واستنتجت أنها قد تكون في وضع أفضل بوجود عملة بديلة للتجارة الدولية، وقد يمثل الاحتفاظ بكميات أكبر من الذهب أساساً لنظام مدفوعاًت جديد.
وكثيراً ما حلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنشاء بديل مدعوم بالذهب ليحل محل الدولار، وأتيحت له فرصة الأسبوع الماضي لدفع هذه الأجندة، إذ قال خلال قمة “بريكس” الاقتصادية التي استمرت ثلاثة أيام، وجمعت عدداً من الدول المناهضة للولايات المتحدة، “إذا لم يسمح لنا باستخدام الدولار، فما الخيارات المتاحة أمامنا؟ سنكون مضطرين للبحث عن بدائل”.
كانت هذه القمة أحدث تجمع لمجموعة “بريكس” للاقتصادات الناشئة، التي توسعت الآن لتصبح “بريكس+”، وتضم الأعضاء الأصليين وهم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إضافة إلى مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات، كما ينظر إلى السعودية وتركيا وباكستان وتايلاند وفنزويلا والسنغال كأعضاء محتملين.
ولتعزيز فكرته، كشف بوتين عن ورقة نقدية رمزية تحمل اسم “الوحدة”، تتضمن أعلام دول “بريكس”، والسؤال المهم كيف يمكن أن يعمل هذا النظام؟ ويبدو أن الخطوة الأولى هي إيجاد طريقة لربط العملة الجديدة بقيمة الذهب وسلة من العملات السيادية لدول بريكس. واقترح البعض أن يكون دعم العملة الجديدة بنسبة 40 في المئة من الذهب و60 في المئة من العملات، لكن لن يعني هذا التخلي عن العملات الوطنية أو فقدان السيطرة على البنوك المركزية، بل قد يتيح وسيلة مستقرة للتبادل لتسوية المدفوعات عبر الحدود وتجنب الاعتماد على الدولار، وسيشجع الدول على زيادة احتياطات الذهب لدعم قيمة العملة الجديدة، ويشير المؤيدون، بما في ذلك البرازيل، إلى أن المفتاح هو إنشاء شيء يحظى بالثقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبهم ذكر محللو بنك “آي أن جي” في تقرير الأسبوع الماضي أن الذهب يمثل أكبر بديل محتمل للدولار الأميركي بالنسبة لدول مجموعة “بريكس+”، وقدر البنك أن هذه الدول رفعت حصتها من الذهب العالمي من خمسة في المئة إلى 22 في المئة بين عامي 2008 و2021. ومع ذلك، لا تزال هذه النسبة تمثل 10 في المئة فقط من احتياطات البنوك المركزية لدول “بريكس+”، مما يعني أن هناك مجالاً لزيادة هذه الاحتياطات من الذهب.
“ضرب من الخيال”
من جانبه يرى الاقتصادي جيم أونيل الذي ابتكر مصطلح “بريكس” عام 2001 حينما كان يعمل في بنك “غولدمان ساكس”، أن فكرة إنشاء عملة مشتركة جديدة هي “ضرب من الخيال” لأن دول “بريكس” ليست حلفاء حقيقيين. وقال أونيل، “الصين والهند تشتركان في حدود، لكن لا يمكنهما الاتفاق على أي شيء جوهري، فضلاً عن مشاركة عملة، لذا إذا كانت فكرة العملة المشتركة جادة، فهذا يعني التخلي عن سلطة اتخاذ القرارات للبنك المركزي الخاص بكل دولة”.
إضافة إلى ذلك، أوضحت الولايات المتحدة أنها لن تسمح للدول بالتعاون مع روسيا في نظام مدفوعات يتجنب العقوبات.
ومع ذلك، من غير المتوقع أن تعرقل هذه العوائق الجيوسياسية ارتفاع أسعار الذهب، إذ يتوقع أن يستمر شراء البنوك المركزية له، وحتى وإن لم تتمكن دول “بريكس+” وشركاؤها من إيجاد طريقة للتحايل على الدولار، فإن أحداً لا يبدو خاسراً من تخزين الذهب حالياً، وهذا ينطبق على البنوك المركزية في الشرق الأوسط وأفريقيا، تماماً كما ينطبق على الأفراد في شوارع وسط لندن.
نقلاً عن : اندبندنت عربية