تشهد تونس في الفترة الراهنة تحولات سياسية كبرى تتسم بالاستعداد إلى الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها خلال السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، باحتدام المنافسة بين المترشحين المحتملين وعدم إفصاحهم رسمياً عن برامجهم الانتخابية.

توازياً، تشهد البلاد تحديات اقتصادية ومالية واجتماعية لافتة تحتم على البلاد الخروج من بوتقة أزمات متتالية جعلتها لا تحقق الهدف الاقتصادي المنشود لأكثر من عقد من الزمن.

ولعل الإفراط في التركيز على الجوانب الاقتصادية والمالية سعياً من حكام تونس إلى تحقيق النمو الاقتصادي الدامج، أهمل لأعوام عدة الاهتمام بالملفات الاجتماعية الشائكة وفي مقدمها تحسين الخدمات الصحية وتجويد التعليم وإيجاد حل لمعضلة البطالة التي لم تنزل عن مستوى 16 في المئة، فضلاً عن تزايد عدد الفقراء مع اهتراء كبير لأسطول النقل مما فاقم الوضع الاجتماعي المتأزم في البلاد.

توجه اجتماعي جديد

التحول الجديد الذي ترغب تونس في إرسائه ربما سيكون من خلال الحكومة الجديدة بقيادة كمال المدوري الذي لم يكن تعيينه في الثامن من أغسطس (آب) الماضي وفق ملاحظين ومحللين عشوائياً بل مدروساً.

ورئيس الحكومة التونسية الجديد عمل في الحقل الاجتماعي طوال مسيرته المهنية كمدير عام للضمان الاجتماعي ورئيساً ومديراً عاماً للصندوق الوطني للتأمين على المرض، ووزيراً للشؤون الاجتماعية.

وتؤكد عوامل أن تونس ترغب في إرساء تحول جديد تجاه سياستها التنموية بالمراهنة على الجانب الاجتماعي، من أجل أن يكون هذا القطاع رافعة لتحقيق رفاه التونسيين في ظل تدني الخدمات والمرافق العمومية، ومن ضمنها خدمات النقل العمومي وتراجع مرفق الإدارة وبخاصة تحسين دخل المواطنين في ظل ارتفاع لافت للأسعار.

تعزيز مقومات الدولة الاجتماعية

وكشف المدوري خلال اجتماعه بفريق حكومته الجديدة مساء الإثنين الموافق الـ26 من أغسطس الماضي عن جانب من برنامج عمله خلال الفترة المقبلة وأولويات عمل الحكومة.

وأكد أن أولويات عمل الحكومة تتمثل أساساً في تعزيز مقومات الدولة الاجتماعية من خلال توسيع نطاق الحماية الاجتماعية، وتحسين الخدمات الصحية والرفع من نجاعة المرافق العمومية للتربية والتعليم والتكوين والنقل، وترسيخ ثقافة بعث المشاريع.

وسيرتكز العمل على تنمية المبادرة الخاصة لدى المرأة والشباب وذوي الإعاقة والعائلات محدودة الدخل، إلى جانب ضرورة توافر جميع الشروط والمقومات لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، وتحقيق نمو مستدام ومدمج قادر على خلق فرص العمل اللائق.

وتطرق رئيس الحكومة أيضاً إلى سبل ابتكار حلول مرنة ومجددة لدمج الاقتصاد الموازي وتوفير متطلبات بيئة عمل جاذبة ومشجعة على الاستثمار، موصياً فرق حكومته بمواصلة فض الصعوبات التي تعوق انطلاق عدد من المشاريع العمومية والخاصة، ومراجعة المنظومات القانونية والإجرائية في الغرض.

الاستثمار قد يكون الضحية

ومن جانبه، اعتبر المحلل المالي بسام النيفر أن السياسة الاجتماعية للدولة موجودة منذ عدد من العقود ولكن ما حدث خلال الأعوام الأخيرة أن الوضعية الاجتماعية والمالية للتونسيين تعكرت بصورة لافتة، مع تدني المرافق العمومية وارتفاع الأسعار مما نتج منه اهتراء كبيرة للقدرة الشرائية وسط اقتصاد منهك لم يعد قادراً على تحقيق النمو المطلوب.

وقال إلى “اندبندنت عربية” إن “حجم الإشكاليات الاقتصادية والمالية التي تعانيها البلاد خلال الأعوام الأخيرة أثر بصورة ملموسة في جودة الخدمات الاجتماعية، على رغم أن ما يحسب للنظام الحالي رفضه شروط صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المحروقات والكهرباء وإصلاح منظومة دعم المواد الغذائية، ما قد يزيد في تعقيد معيشة التونسيين وتنامي المشكلات الاجتماعية”.

ومن جانب آخر أوضح النيفر أن محاولات الحكومات المتعاقبة تحسين المناخ الاجتماعي جعل الاستثمار ضحية هذا التوجه، لا سيما الاستثمار الحكومي لتحسين البنى التحتية من بناء مستشفيات واقتناء معدات النقل العمومي بسبب تواضع الموارد المالية للبلاد في ظل الصعوبات في الخروج على الأسواق المالية العالمية.

تدشين صندوق للبطالة

وتأكيداً للتوجه الاجتماعي في تونس خلال المرحلة المقبلة، قرر رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى استقباله رئيس الحكومة كمال المدوري مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري تدشين (تأسيس) صندوق للتأمين على فقدان مواطن العمل لأسباب اقتصادية، إلى جانب إعفاء جرايات العجز والأيتام من الضرائب.

وتناول رئيس الجمهورية خلال هذا اللقاء أيضاً عدداً من القضايا الأخرى المتصلة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي على وجه العموم، مشدداً في هذا الإطار على أن السياسة التي تتبعها تونس يجب أن تكون قائمة على مقاربة جديدة مختلفة عن المقاربات والمفاهيم السابقة، وتقطع نهائياً مع الماضي وآلامه وما تسبب فيه التخلي عن المرافق العمومية الأساس منذ عقود كالتعليم والصحة والنقل من معاناة ومآس.

ويعد تأسيس صندوق للتأمين على فقدان مواطن العمل مطلباً نقابياً كان تقدم به الاتحاد العام التونسي للشغل للحكومات المتعاقبة بعد الثورة، لكنه لم يلق تجاوباً من السلطة التنفيذية خلال ذلك الوقت، والتي عدت كلفته باهظة علاوة على طرق الاقتطاع لتوفير الموارد المالية الضرورية لتمويل نشاط الصندوق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسنوياً، يُسرح في تونس آلاف العمال خصوصاً في شركات القطاع الخاص بسبب غلق الوحدات الصناعية لأسباب اقتصادية، مما يضطرهم للدخول في نزاعات قانونية طويلة الأمد ولا يحصلون إلا على تعويض زهيد.

وخلال المؤتمر الـ23 للمنظمة الشغيلة (منظمة عمالية) عام 2017 تقدم المؤتمر بمقترح لإنشاء صندوق بطالة الموظفين، الذين يتم طردهم من المؤسسات الصناعية التي تغلق أبوابها

وخلال عام 2021 تقدمت الحكومة من طريق وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي بمقترح قانون لتأسيس صندوق البطالة، وعرضه على المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي وإبداء الرأي فيه ثم إحالته لمجلس نواب الشعب.

الاجتماعي يتبع الاقتصادي

المقاربة الجديدة للحكومة التونسية في تركيزها على الملف الاجتماعي رفضها المتخصص في الشأن الاقتصادي بالجامعة التونسية رضا الشكندالي، معتبراً أنه من الضروري أن يتبع الاجتماعي كل ما هو اقتصادي.

وعلق على توجه حكومة المدوري بالمراهنة على الجوانب الاجتماعية لتحسين أوضاع التونسيين بأنه لا يمكن الحديث عن تحسين الجوانب الاجتماعية في ظل اقتصاد متعثر، غير قادر على خلق الثروة.

وأوضح لـ”اندبندنت عربية” أنه بقدر ما يتفهم أهمية الدور الاجتماعي للدولة إلا أن ذلك لا يجب أن يكون على حساب قطاعات اقتصادية مهمة وقوية، قادرة على توفير مواطن الشغل وتحسين المؤشرات الكلية للاقتصاد التونسي، مستدركاً أن “التركيز على الجوانب الاجتماعية بتحسين الأجور سيزيد من التضخم المالي في البلاد، والتهاب الأسعار سيؤدي إلى نتائج عكسية من أهم ملامحها تراجع القدرة الشرائية لعموم التونسيين”.

وشدد الشكندالي على أنه في حال تخصيص الموارد المالية لمعالجة ملفات اجتماعية على غرار النقل العمومي ستكون له نتائج على تراجع الاستثمار الحكومي عموماً وعلى القطاع الخاص أيضاً.

ودعا الحكومة الجديدة إلى التأسيس لمنوال تنمية جديد يجعل من الإقلاع الاقتصادي القاطرة الحقيقية للبلاد، وسيتبعها حتماً تحسين الأوضاع الاجتماعية.

 وعود انتخابية

من جهته، قال الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (جهة مستقلة) رمضان بن عمر إنه خلال “الفترة الأخيرة توالت الإعلانات في تونس التي لها صبغة اجتماعية من زيادة في أجور القطاع الخاص وزيادات في جرايات المتقاعدين، وتعديل مجلة الشغل في اتجاه القضاء على التشغيل الهش وآخرها إحداث صندوق للتأمين على البطالة لأسباب اقتصادية”.

وأضاف “هذه الإجراءات في سياق انتخابي بصفة مبكرة من الرئيس قيس سعيد”، متسائلاً عن جدوى هذه الوعود ذات البعد الاجتماعي؟ منتقداً في الوقت نفسه غياب مرافقة هذه الإعلانات عن إجراءات عملية وكيفية تركيزها وبخاصة طرق تمويلها وحول مخطط زمني لإنهاء التشغيل الهش أو صندوق البطالة.ش

نقلاً عن : اندبندنت عربية