“وثائقي يكشف عن وجه لم نره من قبل للرئيس الأوكراني

لو سارت الأمور كما خططت لها روسيا، لكان فولوديمير زيلينسكي الآن إما ميتاً على يد قاتل روسي، أو منفياً في فيلا مريحة في مقاطعة ساري البريطانية بعيداً من وطنه أوكرانيا. ولكن الأقدار سارت بغير ذلك، إذا لا تزال أوكرانيا حرة، ولا يزال زيلينسكي وعائلته على قيد الحياة. وحتى لو أن الروس لم يخسروا هذه الحرب تماماً، يبدو أنهم لن يتمكنوا أيضاً من تحقيق نصر كامل متمثل في احتلال جميع الأراضي الأوكرانية والقضاء على تاريخها وثقافتها العريقة. قصة أسباب فشل الحرب الروسية التي منحها بوتين اسماً مخففاً هو “عملية عسكرية خاصة”، في تحقيق أهدافها الرئيسة، تُروى في وثائقي السيرة الذاتية البارز الذي تعرضه قناة “بي بي سي 2” عن حياة الرئيس الأوكراني ويحمل عنوان “قصة زيلينسكي” The Zelensky Story.

نرى في الوثائقي، خصوصاً لقطات تعود لعام 2022 تظهر الجنود الأوكرانيين في كييف وهم يعتقلون مجموعة من أعوان بوتين كانوا في طريقهم لقتل زيلينسكي. كما نسمع تصريحات من بوريس جونسون الذي يفتقر إلى الحذر كعادته، يخبرنا فيها أنه كان يخطط لإخراج صديقه زيلينسكي ليقود المقاومة من مناطق الريف الإنجليزي. مع ذلك، وكما نعلم، لم يترك زيلينسكي شعبه، إذ كما يقول في مقابلة مؤثرة وشخصية للغاية: “إن لم أكُن هنا، سيتوقف الناس عن القتال”.

بمجرد أن شنت روسيا هجومها، بدأ زيلينسكي بتصوير مقاطع فيديو قصيرة بواسطة هاتفه الذكي ليظهر للعالم أنه ما زال موجوداً بالفعل في كييف، ولم يفرّ مثلما كان بوتين يتوقع على ما يبدو.  ويوضح أحد الخبراء الذين تمت مقابلتهم، أنه لو لم يكُن زيلينسكي بهذا الذكاء والإصرار، ولو لم يكُن يمتلك من الوطنية ما يجعله يتحدى بوتين ويفاجئه، لكان من المؤكد أن حرب القرن الـ21 الدولية الكبرى قد حُسمت بالفعل.

بينما تتطور أحداث الحلقات الثلاث من صعود زيلينسكي السلمي والمبتهج إلى قيادته في خضم المعارك، نرى مشاهد مؤثرة للغاية للأرامل وعائلات القتلى في الحرب وهم يقابلون الرئيس لتسلم ميداليات التكريم التي حصلوا عليها بعد وفاتهم. وخلال هذه المراسم، ندرك بوضوح أنه مهما كانت المساعدات المالية والمعدات العسكرية التي يرسلها الغرب، فإن الأوكرانيين هم من يواجهون المعارك ويفقدون أرواحهم من أجل حرية أوكرانيا وحرية العالم أجمع. وبفضل الطريقة الدقيقة والحساسة والعميقة التي يقدم بها وثائقي “قصة زيلينسكي” روايته، فإن هذه السلسلة تستحق بلا شك أعلى درجات التقدير في مجال الوثائقيات.

يتميز العمل الذي تم إنتاجه بالتعاون مع “الجامعة المفتوحة” بقدرته الكبيرة على أسر المشاهدين، فهناك إبداع لافت في سرد الأحداث وتفانٍ في البحث في الأرشيف، كما أن القصة التي يرويها مدهشة وملهمة بالقدر نفسه. لقد نجح منتجو البرنامج في الحصول على قسط من وقت زيلينسكي الثمين لإجراء مقابلة تكشف عن جوانب جديدة عنه، وكذلك حصلوا على القدر نفسه من الوصول إلى زوجته أولينا، سيدة أوكرانيا الأولى.

تم تصوير محادثات زيلينسكي وزوجته أولينا بصورة منفصلة، مما يتيح لنا الاستماع إلى روايتيهما المتباينتين (قليلاً) حول كيفية تعرفهما على بعض وحول رؤيتيهما للحرب. تُظهر أولينا صراحة خاصة، فيمكنكم معرفة كم تفتقد زوجها، وتعبر عن انزعاجها البسيط، بأقل تقدير، وهي تروي كيف أنها اكتشفت عزمه الترشح للرئاسة عام 2019 فقط عندما كانت تشاهد أحد برامجه التلفزيونية – الأمر الذي لا يزال يحرج زيلينسكي حتى الآن. يبدو بوضوح أن أولينا كانت تفضل لو أن زوجها الذكي والبارع والجذاب ظل نجماً سينمائياً ووجهاً إعلامياً لامعاً كما كان عندما تزوجته.

 

نتابع شهادة لأحد الأصدقاء القدامى يقول فيها: “لقد كان أكثر رومانسية في تلك الفترة”. لكن، كما هو معروف الآن، صارت حياته تحاكي فنه، فتبع زيلينسكي مسار قصة مسلسله الساخر “خادم الشعب” Servant of the People الذي حقق نجاحاً كبيراً. في هذا المسلسل، قام بدور مدرس مدرسة عادي محبط للغاية من الفساد لدرجة أنه أصبح عن غير قصد رئيساً لأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. كان المسلسل الكوميدي مؤثراً لدرجة أنه أسهم في إسقاط النظام الأوكراني القديم الذي كان بمثابة دمية بيد الروس، ودفع زيلينسكي إلى الرئاسة وأكسبه عداء الكرملين الأبدي.

خلال السلسلة، تتجلى الفروقات بين زيلينسكي وبوتين بصورة لافتة. وعندما ذهب بوتين إلى باريس لحضور محادثات السلام التي لم تثمر عن شيء، بواسطة من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية آنذاك ميركل، وصل في سيارة ليموزين ضخمة، بينما خرج زيلينسكي من سيارة رينو، مرتدياً زي القتال الزيتي الذي نراه به عادة. عندما يلتقي بوتين مسؤوليه في قصوره الذهبية الفخمة، يكونون خاضعين ومرعوبين، أما زملاء زيلينسكي، فهم فريق من الأصدقاء المتعاونين بحب وليس بدافع الخوف. وفي حين يشعر بوتين الذي ما زال متمسكاً بأفكاره من فترة عمله في الـ “كي جي بي”، بالاستياء مما يراه إذلالاً لروسيا منذ سقوط جدار برلين، ويغرق في حربه وطموحه في الحكم مدى الحياة، يأمل زيلينسكي، وإن كان هذا أمراً غير محتمل الحدوث، في العودة إلى عالم الترفيه وربما الفوز بجائزة أوسكار بعد انتهاء الحرب. حسناً، ربما يفعل ذلك، فكما تقول أولينا مازحة: “إنه يفوز دائماً”.

من المفارقة أن بوتين هو الذي كشف في مقطع فيديو قديم عن العامل الأكبر في نجاح زيلينسكي. فقبل نحو عقدين من الزمن، عندما كانت الأحوال أكثر هدوءاً، تمت دعوة بوتين الذي كان آنذاك رئيس وزراء روسيا الجديد، إلى حضور عرض ترفيهي خفيف يديره زيلينسكي (كان العرض يحظى بشعبية كبيرة في البلدين). قدم زيلينسكي وأصدقاؤه عرضاً فكاهياً على خشبة المسرح، بينما راح بوتين الذي بدا مبتسماً على نحو غير مريح، يشاهد العرض. قبل اندلاع الحرب، كانت هذه اللحظة هي أقرب لقاء جمع بين الرجلين. وبعد مشاهدة العرض، علق الطاغية الصاعد مبدياً إعجابه: “أحب الناس المضحكين لأنهم أذكياء ولديهم هبة ثمينة تُدعى التفاؤل”. وبالفعل، فإن روح التفاؤل هذه هي بالتحديد ما ساعد هذا الرجل المضحك الضئيل وبلده الصغيرة التي لا تحظى بالتقدير الذي تستحقه على الصمود طويلاً أمام روسيا الإمبريالية الجديدة. على كل حال، لم يعُد بوتين يضحك الآن.

نقلاً عن : اندبندنت عربية