كان كيم فيلبي الجاسوس المثالي، الرجل الذي أذهل وخان بالقدر نفسه.
بالنسبة إلى زملائه في الاستخبارات البريطانية “أم آي 6” كان محترفاً بارعاً، إذ ارتقى بسرعة في صفوف جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية. أما بالنسبة إلى موسكو، فقد كان أثمن ما تملك عميلاً مزدوجاً مرر الأسرار لما يقارب ثلاثة عقود. وبالنسبة إلى أقرب أصدقائه نيكولاس إليوت، كان رجلاً قادراً على ارتكاب أقصى درجات الخيانة.
توفر الملفات التي أفرج عنها حديثاً من الأرشيف الوطني رؤية واقعية على مسيرة فيلبي المهنية المخيفة بوصفه جاسوساً سوفياتياً داخل جهاز الاستخبارات البريطانية، منذ تجنيده عندما كان شاباً شيوعياً عام 1934 وحتى انشقاقه الدرامي إلى موسكو عام 1963.
وتكشف هذه الوثائق، المليئة بالاعترافات والأكاذيب والخيانات، عن الخديعة المدروسة لرجل غير مسار التجسس في الحرب الباردة وأدت أفعاله إلى وفيات لا تحصى.
ويعد اعتراف فيلبي لإليوت الوثيقة الأكثر استثنائية بين الملفات التي أفرج عنها حديثاً، وهي مزيج مدروس بعناية من الحقائق والتملص والأكاذيب الصريحة. والمحادثة المسجلة التي قام إليوت بتسجيلها سراً، أعطت فيلبي الوقت الكافي لتحذير مشغليه في الـ”كي جي بي” وتنظيم خطة هربه.
والآن بعد أن أصبحت هذه المحادثة علنية للمرة الأولى، تقدم النصوص المسجلة لمحة لا مثيل لها عن ذهنية الخائن الأكثر شهرة في بريطانيا والخيانة الشخصية المدمرة لصداقة بدت ذات يوم وكأنها لا تتزعزع.
خونة كامبريدج الخمسة
كان فيلبي جزءاً من “خماسية” طلاب جامعة كامبريدج السابقين الذين نقلوا معلومات إلى السوفيات من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن الماضي. وضمت المجموعة أنتوني بلانت وجاي بيرجيس، ودونالد ماكلين وجون كارينكروس.
كان فيلبي الذي كان يعد غالباً قائد المجموعة جنَّد بيرجيس وماكلين أيضاً، ثم قام بتحذيرهما عام 1951 عندما كان ماكلين على وشك أن يكتشف. وشكل انشقاقهم الدراماتيكي إلى الاتحاد السوفياتي نقطة تحول في التجسس خلال الحرب الباردة.
حادثة فولكوف
من أكثر الأعمال خيانة التي ارتكبها فيلبي، كما هو موضح في الملفات، كانت فضحه للضابط السوفياتي قسطنطين فولكوف الذي حاول الانشقاق إلى بريطانيا عام 1945. وقام فولكوف بالتواصل من القنصلية البريطانية في إسطنبول، عارضاً كمية كبيرة من المعلومات الاستخباراتية مقابل 50 ألف جنيه استرليني وإعادة توطينه في المملكة المتحدة. وتضمنت المعلومات هوية تسعة عملاء سوفيات داخل المؤسسات البريطانية، سبعة منهم في وزارة الخارجية واثنان في “أم آي 6” وكان من بينهم فيلبي نفسه.
وإدراكاً منه للخطر، أرسل فيلبي تحذيراً عاجلاً إلى مسؤوله في الاستخبارات السوفياتية وتولى القضية شخصياً، وتأكد من اختطاف فولكوف وزوجته من قبل عملاء الاستخبارات السوفياتية. ولم يرهما أحد مرة أخرى.
وكان بإمكان المعلومات التي امتلكها فولكوف أن تحدث أثراً مزلزلاً. فقد وعد بتسليم ليس فقط أسماء العملاء، بل أيضاً قائمة كاملة بضباط الاستخبارات السوفياتية والمنازل الآمنة والرموز وحتى مفاتيح خزائن الملفات داخل مقر الاستخبارات السوفياتية. وظهر الملفات خيانة فيلبي لفولكوف باعتبارها واحدة من أعظم إنجازاته لمصلحة الاتحاد السوفياتي.
وفي تقريره من إسطنبول، قام فيلبي بحرف الانتباه زاعماً أن “التفسير المحتمل هو أن فولكوف خان نفسه. أي إنه إما هو أو زوجته أو كلاهما ارتكب خطأً فادحاً”. وضمن هذا التصرف المحسوب بقاء تغطيته على حالها، وسمح له بمواصلة العمل دون أن يكتشف أمره داخل جهاز الاستخبارات البريطانية.
ولم تكشف خيانته إلا بعد مرور ثلاثة عقود تقريباً، عندما كان يعمل صحافياً في بيروت، وذلك في مواجهة مع صديقه الأقدم في الاستخبارات البريطانية نيكولاس إليوت، عندما أعلن فيلبي أنه كان سيفعل كل ما فعله مرة أخرى.
رد الملكة إليزابيث في شأن كون الجاسوس مستشارها الفني
بحلول عام 1972، أصبح الضابط السابق في مكتب الاستخبارات البريطانية الداخلية “أم آي 5” خلال الحرب أنتوني بلانت مستشاراً للملكة إليزابيث الراحلة في مجال الفنون، ولم يكشف عن تورطه في عصابة كامبريدج علناً إلا عام 1979.
وجاء في مذكرة من مارس (آذار) 1973 أن السكرتير الخاص لصاحبة الجلالة تحدث إلى الملكة عن بلانت. وقالت المذكرة “لقد تقبلت الأمر بهدوء شديد ومن دون مفاجأة”.
وكشفت الأوراق أيضاً عن رواية مفصلة من بلانت عن الأيام الأخيرة المضطربة للمجموعة، بما في ذلك أنه وسط مخاوف من الاعتقال وأن عصابة التجسس الخاصة بهم على وشك التفكك، خشي بلانت من أن يتحول المسؤول عنه في الاستخبارات السوفياتية إلى العنف عندما رفض الانضمام إلى زميليه الجاسوسين بيرجيس وماكلين والهرب إلى روسيا.
واعترف “كيرنكروس” وهو آخر أعضاء عصابة التجسس الذين جرى الإفصاح عن هويتهم علناً في التسعينيات، في مقابلة أجريت معه داخل الولايات المتحدة عام 1964 بأنه الآخر جند من قبل الاستخبارات الروسية.
وجاء في برقية أرسلت من واشنطن “اعترف كيرنكروس بالتجسس من عام 1936 إلى عام 1951”.
كانت “أم آي 5” في حال من الحيرة بسبب “لغز” فيلبي
حامت الشبهات حول خيانة فيلبي للمرة الأولى في عام 1951 بعد انشقاق ببرجيس وماكلين. وبعد استدعائه إلى لندن خضع لاستجواب قاس من قبل هيلينوس “باستر” ميلمو، وهو محام يعمل لمصلحة الاستخبارات البريطانية، والذي بدأ بنهيه عن التدخين واتهامه بقول “كثير من أنصاف الحقائق… بل وكثير من الكذب الصريح”.
ولكن في حين أن الجلسة تركت عددا من العاملين في جهاز استخبارات “أم آي 5” – بما في ذلك ميلمو نفسه – مقتنعين بذنب فيلبي، إلا أنها فشلت في تقديم الدليل القاطع اللازم لاتخاذ إجراء ضده.
لذا لجأت “أم آي 5” إلى جيم سكاردون وهو محقق سابق في الفرع الخاص لشرطة العاصمة، والذي اشتهر داخل جهاز الاستخبارات الداخلية بعد انتزاع اعتراف من كلاوس فوكس، الذي أفشى سر مشروع مانهاتن الأميركي البريطاني لبناء أول قنبلة ذرية في العالم للروس.
لكن سكاردون لم يتمكن هو الآخر من فك لغز فيلبي، وخلص إلى أنه “لغز أكثر من أي وقت مضى”.
ويظل اعتراف فيلبي في نهاية المطاف لإليوت عام 1963 لحظة محورية.
فقد سجل إليوت محادثته مع صديقه القديم سراً في العاصمة اللبنانية، إذ تروي النصوص بصورة واضحة اللحظة التي اعترف فيها فيلبي بالخيانة الصادمة على المستويين الشخصي والوطني.
وتكشف النصوص اعترافه بتجنيده من قبل جهاز الاستخبارات السوفياتي عام 1934 ودوره في الوشاية بماكلين.
وفي الواقع، استمر فيلبي في التجسس لمصلحة السوفيات طوال الفترة التي قضاها في واشنطن رئيساً لمحطة الاستخبارات البريطانية “أم آي 6” وخلال الأعوام اللاحقة في بيروت.
واجه إليوت فيلبي في بيروت بعد أن حصلت “أم آي 5” على دليل من فلورا سولومون صديقة عائلة فيلبي، على أنه حاول تجنيدها لمصلحة السوفيات عام 1934. وكان اعتراف فيلبي مزيجاً من السحر والخداع والتضليل المحسوب. واعترف قائلاً “بما أنني جندته [ماكلين] في المقام الأول، فأقل ما يمكنني فعله هو إبعاده من التهمة”.
ومع ذلك، فإن الاعترافات مليئة بالأكاذيب بما في ذلك الادعاء بأنه قطع علاقاته مع الاستخبارات السوفياتية عام 1946.
وروى فيلبي كيف التقى رجلاً يُدعى أوتو عام 1934 بناء على طلب من زوجته ليزي، وهي عضو في الحزب الشيوعي. وقال فيلبي “شرحت له موقفي بعناية فائقة، فاستجوبني مطولاً. وأصر على عرضه، فقبلت”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف فيلبي عن تجنيده عام 1934 من قبل عميل سوفياتي يُدعى أوتو بتوجيه من زوجته الأولى ليزي “باختصار، اقترح علي أن أعمل لمصلحة منظمة تمكنت من التعرف عليها لاحقاً على أنها OGPU [الشرطة السرية السوفياتية]”. وكان فيلبي حصل على اسم رمزي “PEACH” من “أم آي 5”.
وفي أحد الحوارات المفزعة، سأل إليوت فيلبي عن قضية فولكوف، قائلاً “من المفترض أن ما مررته لهم [الاستخبارات السوفياتية] كان موجهاً بصورة أساس نحو المعلومات التي تهمهم بصورة مباشرة، مثل قضية فولكوف؟ فأجاب فيلبي “بالفعل”، قبل أن يغير الموضوع بسرعة.
أخبر فيلبي إليوت أنه لا يشعر بأي ندم، قائلاً “لو كانت لدي حياتي بأكملها لأعيشها مرة أخرى، ربما كنت سأتصرف بالطريقة نفسها”.
الخيانة النهائية والهرب
خلال يناير (كانون الثاني) 1963 بعد اجتماعه مع إليوت اختفى فيلبي. وركب بهدوء على متن سفينة شحن روسية في بيروت، تاركاً وراءه رسالة لزوجته الثالثة إليانور مليئة بتطمينات غامضة. “حبيبتي، لقد استدعيت خلال وقت قصير. آسف لأنني لا أستطيع أن أكون أكثر وضوحاً في الوقت الحالي، لكن الخطط غامضة إلى حد ما. لا تقلقي في شأن أي شيء. أخبري الجميع أنني أقوم بجولة في المنطقة. كل الحب للأطفال، وكثير لك. المخلص لك، كيم”.
فر فيلبي إلى موسكو بعد فترة وجيزة من اعترافه وكرم عام 2010 بدرع تذكاري في مقر جهاز الاستخبارات الخارجية في موسكو، على رغم أنه توفي في المنفى قبل أعوام خلال عام 1988، وهو مدمن على الكحول يعاني الوحدة.
خيانة فيلبي إلى موسكو كانت نهاية واحدة من أكثر مسيرات التجسس تدميراً في التاريخ. من منفاه، استمر فيلبي في التواصل مع إليوت معبراً عن امتنانه لما عدَّه عملاً أخيراً من أعمال الصداقة.
ما إذا كان إليوت سمح لفيلبي بالهرب عمداً أم خُدع من قبل صديقه القديم، يبقى الأمر لغزاً أخذ إليوت حله معه إلى قبره عام 1994.
نقلاً عن : اندبندنت عربية