مع نهاية 2024 حذر بنك التسويات الدولية، الذي يسمى “البنك المركزي للبنوك المركزية حول العالم”، من أخطار انفجار فقاعة الدين العالمي في أية لحظة إذا فشل العالم في مواجهة أزمة زيادة الاقتراض المستمرة.
ولفت التقرير ربع السنوي للبنك إلى أن الحكومات في الدول التي توصف بأنها “متقدمة” تواصل الاقتراض بصورة تتجاوز سقف الدين، الذي يجعل عجز الموازنة قابلاً للاستدامة. وأن ذلك قد يدفع الأسواق المالية إلى نقطة الانهيار، ما لم تعمل حكومات الدول ذات المديونية العالية على خفض حجم الدين العام قبل فوات الأوان.
على رغم ما يبدو من تراجع إصدارات أوراق الدين للشركات واعتدال تراكم الديون الشخصية، إلا أن الزيادة في الدين العام (دين الحكومات) أبقت على منحى الزيادة في حجم الدين العالمي الإجمالي (أي الدين العام والخاص). وبحسب بيانات وأرقام بنك التسويات الدولية فإن فقاعة الدين العالمي مستمرة في الغليان هذا العام، بارتفاع في المتوسط عن العام السابق 2023 والعام الذي سبقه. ويزيد إجمال الدين العالمي عن ضعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو حالياً في حدود 320 تريليون دولار.
بحسب أرقام معهد التمويل الدولي بنهاية مايو (أيار) الماضي، وصل إجمالي الدين العالمي إلى 315 ترليون دولار، فيما وصفه تقرير المعهد بأنها “أكبر وأسرع زيادة في حجم الدين العالمي وأوسعها نطاقاً منذ الحرب العالمية الثانية”. من بين إجمال الدين العالمي وصل الدين العام (الحكومي الخارجي والمحلي) إلى 91.4 تريليون دولار. بينما كانت ديون الشركات والأعمال عند 164.5 تريليون دولار، شكلت ديون القطاع المالي وحده منها 70.4 تريليون دولار. أما الديون الشخصية للمستهلكين، مثل قروض الرهن العقاري وديون بطاقات الائتمان وديون الطلاب وقروض السيارات وغيرها، فكانت عند 59.1 تريليون دولار، بالطبع ارتفعت تلك الأرقام في الأشهر الستة الماضية حتى الآن.
في مقابلة مع صحيفة “الديلي تلغراف” نشرتها يوم الـ10 من ديسمبر (كانون الأول) قال الاقتصادي في البنك كلوديو بوريو إن “اتجاهات الدين الحكومي تمثل الآن أخطر تهديد لاستقرار الاقتصاد والأسواق المالية على المدى الطويل، ففي لحظة ما، ولا يمكننا توقع متى، ستنتبه الأسواق المالية أكثر ما لم تصحح السلطات مسار الأوضاع المالية. يتطلب الأمر وقتاً كي يعدل صناع القرار السياسات، وإذا انتظروا حتى تنتبه الأسواق فسيكون الأوان فات”.
أزمة شاملة
ربما يعتقد بعض منا أن أزمة المديونية هي أكبر في الدول النامية والفقيرة، لكن الواقع أن غالب فقاعة الدين العالمي موجودة في الاقتصادات المتقدمة والصاعدة. وبالنظر إلى معدلات الاقتراض، سواء في الدول المتقدمة أم الصاعدة وحتى النامية، يتوقع استمرار أزمة الديون لنحو 10 سنوات مقبلة كما يرى الاقتصادي الأميركي آرثر لافر الابن، رئيس مجموعة “لافر” للاستثمار. وسبق أن قال لافر في مقابلة تلفزيونية قبل أشهر “شهدت الدول مرتفعة الدخل وكذلك الدول الصاعدة زيادة كبيرة في حجم الدين بلغت نحو 100 تريليون دولار في غضون العقد الماضي، ومن أسباب تراكم المديونية ارتفاع كلفة خدمة الديون نتيجة أسعار الفائدة المرتفعة”.
قد تكون المرونة والثقة العالمية في الاقتصاد الأميركي مثلاً، وهو أكبر اقتصاد في العالم، دافعاً نحو عدم القلق من مستوى الدين العام، لكن وضع الدين الأميركي حالياً وصل إلى مستويات حرجة. فبحسب وزيرة الخزانة في إدارة الرئيس جو بايدن الراحلة قريباً جانيت يلين قارب عجز الموازنة تريليوني دولار، وتجاوزت كلفة خدمة الدين الأميركي للمرة الأولى حاجز تريليون دولار. فعند دين عام بأكثر من 36 تريليون دولار تصل نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي 124 في المئة، (لا يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الأميركي 28 تريليون دولار إلا قليلاً).
بالطبع زادت إدارة بايدن من الاقتراض العام لتمويل برامجها لتحفيز الاقتصاد وللإنفاق العام، إلا أن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب يتوقع أيضاً أن تزيد من الاقتراض لتمويل خفض الضرائب الذي تعهدت به، وهكذا يظهر أن مسار فقاعة الدين في أكبر اقتصاد في العالم مستمر في الغليان. وإذا انفجرت فقاعة الدين العالمي فستكون في الغالب من أميركا، إذ تبدأ بارتفاع معدلات العائد على سندات الخزانة بصورة كبيرة، وهو ما يتردد صداه في العالم كله.
في الغالب سيكون ارتفاع العائد على سندات الخزانة، وبالتالي تدهور قيمتها، هو جرس الإنذار للأسواق. ذلك لأن ـسواق سندات الدين الحكومي هي المعيار لتسعير الأصول الأخرى في الأسواق كافة، يضيف بوريو “بالنسبة إلى الولايات المتحدة هناك حالة استثناء بسبب الدور الهائل للدولار الأميركي في النظام المالي العالمي، إلا أن ذلك سلاح ذو حدين، إذ يعني أن ظهور علامات الخطر وتفعيل آليات الوقاية قد يأخذ وقتاً أطول، لكنه يعني أيضاً أنه ما إن تظهر تلك العلامات سيكون التأثير في الاقتصاد العالمي هائلاً بالفعل”.
طبقاً لبيانات وأرقام معهد التمويل الدولي منتصف هذا العام، فإن نحو ثلثي إجمال الدين في العالم مستحق على اقتصادات الدول الموصوفة بأنها “متقدمة” ومعروفة بالدول الغنية. وتأتي الولايات المتحدة واليابان في صدارة قائمة الدولي المديونة في العالم، ربما يبدو ذلك منطقياً في ظل حجم تلك الاقتصادات المتقدمة، لكن إذا أخذنا في الاعتبار نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي يظهر أن تلك الدول لا تلتزم بقواعد الانضباط المالي بالنسبة إلى الاقتراض العام. ووصل حجم إجمالي الدين لدول الاقتصادات الصاعدة إلى 105 تريليونات دولار، مع نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي في غاية الخطورة، إذ تصل إلى 257 في المئة. وقدر تقرير المعهد إن ذلك أعلى ارتفاع لهذه النسبة منذ ثلاث سنوات، وتأتي الصين والهند والمكسيك في مقدمة دول الاقتصادات الصاعدة الأكبر مديونية.
أزمة غير مسبوقة
كان صندوق النقد الدولي حذر في وقت سابق من هذا العام من أن “الارتفاع الهائل في الدين الحكومي الأميركي ينذر بخطر أن يصبح مشكلة لبقية دول العالم”، ذلك لأن استمرار ارتفاع الدين الأميركي يمكن أن يؤدي إلى زيادة العائد على سندات الخزانة، وهو ما يعد مؤشراً قياسياً لكلفة اقتراض غالب دول العالم.
لم يكن مستغرباً إذاً أن تطغى مشكلة الدين العالمي على اجتماعات الخريف للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن، فمنذ مطلع هذا العام تتفاقم أزمة الدين العالمي، العام والخاص على السواء، خصوصاً مع تقدير المقترضين من حكومات وشركات وأفراد بنهاية العام الماضي أن البنوك المركزية ستخفض أسعار الفائدة بقوة وبسرعة. إلا أن تردد البنوك المركزية في التيسير النقدي بالسرعة والقدر الذي كان متوقعاً سابقاً، بسبب احتمالات عودة الضغوط التضخمية أبقى على كلفة الاقتراض مرتفعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في شهر أبريل (نيسان) الماضي قدر معهد التمويل الدولي أن التباطؤ في خفض أسعار الفائدة سيزيد من غليان فقاعة الدين مع زيادة تكاليف خدمة الديون، خصوصاً الدين العام على الحكومات. وعلى هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في السعودية ذلك الشهر حذر مدير المنتدى بورغ برندي في مقابلة مع شبكة “سي إن بي سي” الأميركية من أن إجمالي الديون العالمية “لم يكن بمثل هذا السوء منذ حروب نابليون” قبل نحو قرنين.
وأشار برندي إلى أن “حجم الدين العالمي يقترب من نسبة 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي”، طبعاً كان يقصد الدين العام على الحكومات، الذي زاد في الأشهر المتبقية من هذا العام ربما متجاوزاً هذه النسبة، لكن بإضافة الدين الخاص للشركات والأفراد، تكون نسبة الدين العالمي أكثر من ضعفي الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
في محاولة التدقيق كيف أن أزمة الدين الحالية غير مسبوقة منذ قرنين، لم نتمكن من تحديد نسبة الدين العام في العالم وقتها إلى الناتج المحلي الإجمالي. لكن كمثال تاريخي، يذكر أن حجم الدين البريطاني في عام 1815 بلغ نسبة 200 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في وقت حروب نابليون.
ورأى مدير المنتدى أيضاً أن العقد المقبل لن يكون جيداً بالنسبة إلى مشكلة الدين العالمي، وطالب برندي حكومات العالم باتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بخفض حجم الديون، لكن من دون أن تسبب تلك الإجراءات ركوداً اقتصادياً. وأشار إلى أن الأخطار الحالية تنذر بتكرار ما حدث في سبعينيات القرن الماضي، حين ظل النمو الاقتصادي العالمي بطيئاً لمدة 10 سنوات.
إدمان الاقتراض وحلقة الدين المفرغة
في اجتماعات الخريف للبنك والصندوق قبل شهرين حذرت المؤسستان من أن استمرار ارتفاع الدين العالمي “يهدد بانفجار فقاعة ديون تهز النظام المالي العالمي كله”، وبحسب تقديرات المؤسستين الماليتين الدولتين وغيرهما من المؤسسات الكبرى في العالم، فإن مستوى الدين الحالي في العالم غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية قبل نهاية النصف الأول من القرن الماضي في الأقل.
فحتى ذلك الوقت كانت الحكومات تقترض في ظل الظروف الاستثنائية والعوامل الخارجية التي لا يد لها فيها مثل الحروب الكبرى وما شابه، ففي تلك الأوقات تضطر الحكومات إلى الإنفاق بأكثر مما يسمح الدخل القومي وناتج اقتصادها، فتلجأ إلى الاقتراض مما يرفع معدلات الدين.
إلا أنه في العقود الأخيرة أدمنت الحكومات الاقتراض لسد العجز في الموازنة وتمويل الإنفاق العام، الذي يتجاوز قدرات البلاد، أي بالمثل الشعبي، أصبحت الدول تعيش ليس بقدر ما لديها كما ذكر موقع “كلير فاينانس”، مع ذلك تتباين الدول من حيث حجم دينها العام، بغض النظر عن كونها دولاً غنية أم صاعدة أم فقيرة.
لا يمكن إلقاء اللائمة على السياسيين وحدهم في ذلك، فصحيح أنهم يقدمون الوعود الانتخابية بالإنفاق أكثر مما تسمح الإمكانات للحصول على الأصوات، ثم بمجرد وصولهم إلى الحكم يقومون بالاقتراض لسد فجوة العجز بين الدخل والإنفاق العام. إلا أن الاقتصاديين لعبوا دوراً أيضاً في تسهيل الاقتراض بنظريات حول أهمية الاستدانة لتمويل الاستثمار في الاقتصاد الذي يشجع النمو المرتفع، ومع نمو الناتج المحلي الإجمالي تقل نسبة الدين إليه، وتصبح الحكومة قادرة على الوفاء بالتزاماتها.
لم يحدث ما بشر به الاقتصاديون وتراكمت الديون وزادة كلفة خدمتها من مدفوعات فائدة وإقساط تزيد من عجز الموازنات، في ورقة لمجموعة البنك الدولي مطلع فبراير (شباط) الماضي بعنوان “أزمة ديون صامتة” خلص عدد من الباحثين الاقتصاديين في البنك إلى أن “الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني الضعيف” عالقة في أزمة دين عام لا تستطيع الفكاك منها. على رغم ذلك شهد مطلع هذا العام “الاندفاع نحو إصدار السندات، لإعادة تمويل ديونها قبل أن تتضاءل الفرصة”.
بحسب ورقة البنك الدولي فإنه “لا يزال 28 اقتصاداً نامياً، وهي الاقتصادات ذات التصنيف الائتماني الأضعف، عالقاً في شرك الديون من دون أمل في الخروج منه في أي وقت قريب، وبلغ متوسط نسبة الدين إلى إجمال الناتج المحلي في هذه الاقتصادات نحو 75 في المئة بنهاية العام الماضي 2023، أي بزيادة قدرها 20 نقطة عن مثيلاتها من الاقتصادات النامية العادية. تمثل تلك الاقتصادات ربع جميع الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني، كما تمثل 16 في المئة من سكان العالم. ولكن نشاطها الاقتصادي الجماعي لا يشكل سوى خمسة في المئة من الناتج العالمي، وهو ما يجعل من السهل على بقية العالم تجاهل محنتها، ونتيجة لذلك فإن أزمة ديونها صامتة، ويمكن أن تشتد حدتها”.
زادت كلفة الاقتراض لتلك الاقتصادات بصورة حادة على مدار العامين الماضيين، إذ تواجه الآن أسعار فائدة أعلى بنحو 20 نقطة من السعر القياسي العالمي، وأكثر من تسعة أضعاف أسعار الفائدة للاقتصادات النامية الأخرى. وأصبحت تلك الاقتصادات محرومة من الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية لأكثر من عامين، لذا يضيف باحثو البنك الدولي “ليس من المستغرب أن 11 اقتصاداً منها تخلفت عن السداد منذ عام 2020، وهو عدد يقترب من إجمالي العقدين السابقين”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية