أزمة تفاوت التنمية بين المحافظات تحرج الحكومات التونسية

استقطبت تونس استثمارات خارجية بـ2.1 مليار دينار (666 مليون دولار) في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي 2024، وزادت الاستثمارات الخارجية 14.4 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، لم تزد على 1.8 مليار دينار (571 مليون دولار) وفق وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي (جهة عامة) وبلغت الاستثمارات المباشرة 2.09 مليار دينار (663 مليون دولار) مقابل 1.7 مليار دينار (539 مليون دولار) بزيادة قدرها 21.5 في المئة.

ونالت الصناعات المعملية النصيب الأوفر واستقطبت استثمارات أجنبية بـ1.2 مليار دينار (380 مليون دولار) العام الحالي، مقارنة بمليار دينار (317 مليون دولار) العام الماضي، بزيادة 22 في المئة.

يشار إلى أن الحكومة التونسية تستهدف استثمارات خلال العام الحالي بـ2.4 مليار دينار (761 مليون دولار)، و3.4 مليار دينار (1.07 مليار دولار) في العام المقبل 2025، على أن تزيد في عام 2026 إلى 4 مليارات دينار (1.26 مليار دولار).

أما القطاعات التي شهدت تطوراً في قيمة الاستثمارات الخارجية المستقطبة فهي الطاقة والزراعة مقابل تراجع في قطاع الخدمات.

لكن هناك تفاوتاً كبيراً في توزيع الاستثمارات على مستوى المناطق والمحافظات، مما يطرح أسئلة مهمة حول الوعود التي قدمتها الحكومات المتعاقبة حول لا مركزية النشاط ومشاريع التنمية المحلية والتمييز الإيجابي بين المناطق.

وهو مبدأ التمييز الإيجابي لفائدة المحافظات الداخلية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، استناداً إلى مؤشرات التنمية من طريق أولوية الاستثمار في المحافظات الداخلية من قبل القطاع العام ثم جذب القطاع الخاص.

إلى ذلك، فإن المعطيات الحالية تكشف عن تباين كبير بين الأقاليم، إذ تركزت 52 في المئة من الاستثمارات الخارجية المباشرة في محافظة تونس العاصمة وضواحيها، بعد أن اقتنصت 810.6 مليون دينار (257.33 مليون دولار) منها 387.2 مليون دينار (123 مليون دولار) في محافظة تونس بمفردها يليها إقليم الشمال الشرقي الذي استقطب 26 في المئة من إجمال الاستثمارات بـ403.6 مليون دينار (128.12 مليون دولار).

الاستثمار وسوق الشغل والفقر

ولطالما ارتبط التفاوت في توزيع خريطة الاستثمار في تونس باللامساواة التنموية بحكم ارتباط الاستثمار بدوره الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصاً سوق العمل وعلاقته بنسب الفقر.

وتصدرت المحافظات نفسها المصنفة كغير جاذبة للاستثمار قوائم الفقر والبطالة في العقود الماضية، وفُسر التفاوت التنموي بين المحافظات باستمرار بتركيز الاستثمار والتنمية في محافظة تونس العاصمة والمناطق الساحلية على حساب المناطق الداخلية، إضافة إلى عزوف رجال الأعمال التونسيين عن الاستثمار في المناطق الداخلية.

وعلى رغم أن الحكومات السابقة قدمت وعوداً بتحقيق العدالة التنموية بين الجهات، إلا أن خريطة الاستثمارات المحلية والخارجية ظلت عند حدودها السابقة.

ويكمن عدم الاجتهاد والعمل على تطوير هذه المناطق لتحويلها إلى وجهات جاذبة للاستثمار وراء العجز عن تصدرها للمناطق المغرية للمستثمرين بالتالي حرمانها من فرص التنمية وفق الخبراء.

وحافظت محافظات تونس العاصمة وضواحيها والمناطق الساحلية ومحافظة توزر (الجنوب الغربي) على تصدرها ترتيب المناطق الأكثر جذباً على مستوى القدرة التنافسية في استقطاب الاستثمار وفق دراسة أجراها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات (هيئة مستقلة).

وظلت محافظات القصرين والقيروان وسيدي بو زيد (الوسط) الأقل جذباً مما يكرس عدم التوازن والتفاوت التنموي بين المناطق المستمر منذ عشرات السنوات في تونس، والقدرة التنافسية هي الجاذبية وقدرة المنطقة، على جذب السكان واليد العاملة والمؤسسات وكل أصناف الأنشطة الاقتصادية، وفق مقاييس البنية التحتية والبيئة والتحضر والصحة والتعليم والاندماج المالي ثم سوق العمل وديناميكية الأعمال والتجديد واعتماد التكنولوجيا المتطورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفق هذه المقاييس تحتل محافظة تونس المستوى الأول تليها محافظة صفاقس (الجنوب الشرقي) ثم محافظة سوسة (ساحل الوسط) ثم محافظة توزر (الجنوب الغربي) ثم محافظة بن عروس (الضاحية الجنوبية للعاصمة) وأريانة (الضاحية الشمالية للعاصمة) ثم محافظة المنستير (ساحل الوسط) ثم بنزرت (أقصى الشمال).

في حين أظهرت المحافظات المتبقية ضعفاً على جميع المستويات، خصوصاً في البنية التحتية والتعليم والابتكار والتكنولوجيا وديناميكية الأعمال، بالتالي اتضح مواصلة المحافظات الساحلية وتونس العاصمة تقدمها كمناطق جاذبة للاستثمار مقارنة بالمناطق الداخلية التي تواجه إشكاليات هيكلية كبرى.

وأبرز المعهد العربي لرؤساء المؤسسات أن مستوى الجذب بالنسبة لمنطقة أو بلد ما يعكس قدرة تنافسية أفضل على المحافظة على الثروات والاستثمار فيها.

ويستوجب ذلك دعم مستوى الحياة في هذه المناطق والتسويق لصورتها لجذب الاستثمارات والكفاءات اللازمة لدعم التنمية في المناطق الأقل جاذبية، ودعا إلى ضرورة تحسين البنية التحتية، خصوصاً شبكات النقل والاتصالات من أجل ضمان الاتصال بين المناطق الداخلية، علاوة على تحسين ظروف الحياة عبر توفير الخدمات الصحية والتعليمية.

ويمر ذلك عبر تنفيذ إصلاحات وتركيز استثمارات عمومية تعزز الجاذبية، أما الهدف فهو التوزيع العادل للموارد، وتحقيق فرص متكافئة تؤسس لدفع النشاط الاقتصادي.

متلازمة “المناطق المحرومة”

من جانبه، أشار المتخصص الاقتصادي عدنان بن صالح في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إلى أن هذه المناطق تحتاج إلى تهيئة الأراضي والمساحات بالتخطيط الذي يسبق الاستخدام قبل ربطها بشبكات النقل والخدمات اللوجيستية لتتحول إلى مناطق جاذبة لبقية الخدمات ذات الصبغة التنموية بالتالي وجهة استثمارية.

وأضاف أن “الإشكال الثاني يتمثل في عدم توافر رؤية للتنمية المتكاملة والديناميكية من قبل السلطات المتخصصة في هذه المحافظات بحكم أن نجاح تحويل مناطق مهجورة من قبل المستثمرين إلى مساحات مغرية يحتاج إلى مراعاة خصوصياتها وتثمينها من دون إسقاط نماذج جاهزة مكررة بل من طريق التخطيط لكل نموذج بمفرده، ثم تحديد المشاريع الهيكلية لربطها وإعادة تطوير مدنها، وأخيراً فرض التنفيذ فيها من طريق الشركات الموجودة فيها وبالخصوص المشاريع الجديدة التي يقودها الشباب المحلي”.

وأشار بن صالح إلى ضرورة أن تكون المشاريع شاملة من خلال توجيه خلق الثروة تزامناً مع محلية المشاريع وربطها بالاقتصاد الوطني، لافتاً إلى أن النجاح المحلي للشركات الناشئة يعد أمراً جذاباً للاستثمارات التي ترى فيه إمكانية الربح.

وعن مبدأ التمييز الإيجابي الذي أقره الدستور السابق ووعدت بتنفيذه الحكومات قال بن صالح “أنا لا أحب هذه المفاهيم الشيوعية لما يسمى بالفصل الإيجابي على الإطلاق فهي لا تحقق شيئاً، بل تستنزف الأموال العامة وتخلق الفساد”، معبراً عن استغرابه قائلاً “لقد ابتلعت ما تسمى بالمناطق المحرومة قدراً كبيراً من الأموال العامة، ولم تستفد منها التنمية المحلية بل أطراف أخرى”.

بينما، اعتبر عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل) منير بن حسين، أن “المحافظات الداخلية تخضع لنفس الأخطاء التي أقصتها في السابق من خريطة الاستثمار والتنمية”، موضحاً “إذ غاب التخطيط الذي يراعي خصوصياتها والتركيز على نقاط القوة لديها، وهي غائبة من مخططات المستثمرين على خلفية ضعف مستوى جودة الحياة والتعليم والتكنولوجيا والصحة فهي لا توازي تلك المتوافرة في المدن الكبرى والعاصمة والسواحل”، مضيفاً “هي من العناصر المهمة في تقييم المستثمرين والكفاءات لمدى جاذبية المنطقة واختيارهم الإقامة فيها”.

يشار إلى أن الحكومة التونسية، وفي إطار تحفيز الاستثمار في المحافظات الداخلية أصدرت قراراً تعتبره تنفيذاً لسياسة الدولة الرامية إلى تنشيط التنمية في المناطق الداخلية وجذب نسق الاستثمار فيها، وتدعيم التشغيل من خلال حسن توظيف العقارات العمومية وتثمين دورها الاقتصادي والاجتماعي، بتوفير العقارات اللازمة للمستثمرين الناشطين في مختلف القطاعات الاقتصادية سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو أشخاصاً معنويين، خصوصاً الشركات الأهلية والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والمؤسسات الناشئة ومؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والباحثين عن شغل من أصحاب الشهادات الجامعية، وقد تم ضبط مقاييس التفويت في العقارات التابعة لملك الدولة الخاص لفائدة المشاريع الاستثمارية غير المصنفة ذات أهمية وطنية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية