تأتي الأخبار من حديقة حيوان محافظة الفيوم المصرية حزينة، حيث التهم أسد أحد الحراس ليفارق الحياة بعد وقت قصير جراء إصابات بالغة، ملابسات الحكاية كلها تكشف عن أن هناك خللاً ما في عملية العناية بالحيوانات في الحدائق الصغرى والأقل عراقة في المحافظات المصرية، وهي – إن جاز التعبير – تعتبر حدائق حيوان فرعية بمساحات أصغر وعدد حيوانات أقل من تلك الرئيسة الموجودة بقلب محافظة الجيزة أمام حديقة “الأورمان” التاريخية وجامعة القاهرة الضاربة في القدم، حيث تكمل ذلك المشهد الأثري الفريد، وقد مرت في الـ25 من يناير (كانون الثاني) الماضي الذكرى الـ134 لافتتاحها على يد الملك فؤاد الأول.

تركت الحديقة، التي أُغلقت قبل عام ونصف العام بهدف تنفيذ خطوة تطوير شاملة، فراغاً كبيراً للغاية، كونها متنفساً للصغار، لا سيما في سن ما قبل المدرسة، الذين كانوا يعتبرون حديقة الحيوان مكافأتهم المفضلة، نظراً إلى اهتمامهم في هذا العمر بالتفاعل مع الحيوانات في بيئات مفتوحة ولكن تحت حراسة.

وفي حين توجد سبع حدائق أخرى تابعة لوزارة الزراعة تتوزع في المحافظات، لكن نظراً إلى محدودية أنواع الحيوانات بها كانت حديقة الحيوان بالجيزة تحظى بالمكانة الأولى التي تجعلها مقصداً للأطفال والكبار من جميع أنحاء البلاد، بسبب ضخامتها (تقع على مساحة 80 فداناً) وتنوعها واحتوائها على حيوانات نادرة، كما أنها تنفرد من دون باقي الحدائق بوجود الفيل، وهو أكثر حيوان محبوب بالنسبة إلى الأطفال، وأيضاً الزرافة، حيث لا تقل شعبيتها عن الحيوان الضخم المهدد بالانقراض في العالم.

 

كذلك فإن الحدائق المصغرة التي تقع على أطراف القاهرة وتتبع جهات أخرى لا تعتبر بديلاً أيضاً، نظراً إلى أنها – بطبيعة الحال – لا تتضمن بين حيواناتها الفيل أو الزرافة، إضافة إلى بعد مكانها وارتفاع كلفة تذاكرها مقارنة بحديقة الحيوان في الجيزة، التي كانت حتى إغلاقها في يوليو (تموز) 2023 متاحة لدخول المصريين مقابل تذكرة سعرها خمسة جنيهات للفرد (أقل من خمسة سنتات)، وأربعة أضعاف هذا المبلغ لغير المصريين.

أين الفيل؟

لا أحد أكثر من الأمهات يلمس بقوة معاناة البحث عن الفيل أو الزرافة، ويحاول ابتكار إجابات يومية للرد على الصغار السائلين عن موعد افتتاح حديقة الحيوان للجمهور، ومتى سينتهي التطوير المنتظر، وإذا نجت الأمهات من هذه المحادثة فإنهن يتشككن هل سيكون هناك فيل بالفعل بعد نفوق الفيلة “نعيمة” قبل ستة أعوام؟ وماذا إذا تأجل موعد الافتتاح مرة أخرى عن ذلك المقرر في سبتمبر (أيلول) من العام الحالي، إذ كان الموعد الأول بداية هذا العام وتقرر إرجاؤه، وهو أمر لم يستبعده بعض المتفائلين الذين يرون أن من المتوقع أن تفتتح الحديقة مع حديقة “الأورمان” بعد تطويرهما معاً في 2027، بكلفة قد تتجاوز المليار جنيه (20 مليون دولار).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما رئيس الإدارة المركزية لحدائق الحيوان بوزارة الزراعة السابق محمد جلال، فيشير إلى أنه بحكم خبرته يعتقد أن الأمر قد يطول عن المدة المقررة، رافضاً أن يضرب موعداً دقيقاً نظراً إلى ضخامة أعمال التطوير، وفي ما يتعلق ببعض الحيوانات الأكثر شعبية التي يتشوق الصغار لزيارتها، قال جلال إنه لم يتبق سوى زرافتين أنثيين في حديقة حيوان الجيزة، في حين نفق آخر فيل أنثى قبل أعوام، ولا توجد في مصر حالياً أية فيلة، منوهاً بأن هناك شروطاً كثيرة لاستقدامها، أبرزها أن يتم توفير مساحة خمسة أفدنة كمرعى ومسكن لها، وحوض وبركة استحمام ضخمة وغير ذلك، لكنه أضاف “من السهل الدخول في مشاورات مع البلاد الآسيوية، والاتفاق معها على استقدام الفيلة مقابل توريد حيوانات أخرى منتشرة في مصر مثل فرس النهر، من دون دفع مقابل، فقط توفير بيئة ملائمة”.

يصل وزن الفيل إلى 7 آلاف كيلو وطوله أربعة أمتار تقريباً، على رغم ذلك فهو بالنسبة إلى الأطفال رمز كبير للحنان والدفء والاحتواء، وفق ما تخبرنا به القصص التي تروى للأطفال من عمر عام وحتى ستة أعوام، هذا الرمز، ومعه الزرافة العملاقة التي تتميز في الحكايات بالدهاء وسعة الحيلة والجمال والأناقة، يشكلان عالماً مبهراً ومدهشاً يودون لو استمتعوا به كل يوم.

هذه ليست فقط ملاحظات كثير من الأمهات والآباء الذين دخلوا في نقاشات حول أهمية رؤية أطفالهم حيوانات الغابة، إضافة إلى الحيوانات الأليفة التي من السهل ملاحظتها في الشارع أو حتى تربية بعضها منزلياً، ولكن هناك عشرات الدراسات العلمية أيضاً التي تتحدث عن التأثير الإيجابي الكبير الذي يمكن أن يخلفه تفاعل الأطفال مع الحيوانات بأنواعها، لا سيما تلك المفضلة لهم، على سبيل المثال، في تعليقها على نتائج أبحاثها في هذا الأمر، تقول أستاذة علم النفس بجامعة “ميشيغان” الأميركية، إليزابيث أندرسون، إن العلاقة بين الأطفال وحيواناتهم المفضلة لها مفعول السحر، سواء في نتائجها العلاجية السلوكية، أو تبعاتها النفسية الإيجابية، بخاصة حينما تتولد كيمياء خاصة بين الطرفين.

طفولة بلا حيوانات

تقول نورين، ربة منزل وأم لطفلين، إن ابنها البالغ من العمر 10 أعوام، قضى كثيراً من النزهات في حديقة الحيوان بالجيزة، إذ إنها لا تبعد عن منزلهم سوى 30 دقيقة بالسيارة، لافتة إلى أنها اعتقدت أن من الطبيعي أن ينجذب الأطفال للحيوانات لا سيما غير الموجودة في البيئة المحيطة، ولكن السرور والمرح والبهجة وباقي المشاعر الإيجابية التي كانت تظهر على طفلها جعلتها تتأكد أن الأمر أكثر من ذلك، إذ إن الصغير كان يتفاعل بقوة وينطق حتى كلمات جديدة حينما زار الحديقة للمرة الأولى في الثانية من عمره لدهشته الشديدة مما رآه.

لكنها تعتقد أن ابنها الأصغر البالغ من العمر أربعة أعوام أقل حظاً، إذ إن حيوانه المفضل هو الفيل، ويشتري غالبية الملابس المزينة بصوره، وحتى غطاء النوم أيضاً منقوش بهيئة الفيل، مشيرة إلى أنها لا تمتلك القدرة المادية للسفر خارج البلاد لكي يرى الفيل والزرافة، كما أنها تعتقد أنه حينما تنتهي أعمال الترميم سيكون الصغير قد أصبح أكبر عمراً، وربما لن يستمتع بالنزهة بالطريقة ذاتها.

في محيط القاهرة توجد حدائق حيوان عدة، بعيداً من الحديقة التي تشرف عليها الدولة، ولكنها – وفقاً لشهادات الأمهات والآباء – باهظة الثمن بالنسبة إلى نزهة عائلية، إذ إن سعر تذكرة الدخول للفرد في بعضها يصل إلى 500 جنيه (عشرة دولارات)، وهي الأسعار التي تزداد كل أشهر معدودة، كما أن أسعار المأكولات والمشروبات في الداخل تكون كبيرة أيضاً بحسب تجارب عدة، لذا فنزهة حديقة الحيوان خرجت من بند قائمة النزهات الموفرة، إذ لم تكن تكلف أسرة من أربعة أفراد أكثر من 250 جنيهاً (خمسة دولارات)، شاملة بعض الألعاب للأطفال ورسوم الدخول وحتى مشروبات بسيطة وكلفة وسيلة المواصلات.

 

إضافة إلى ذلك فإن موقعها يتيح الوصول إليها بالمواصلات العامة المتوافرة بكثرة في محيطها الجغرافي، وهذه هي النقطة الثانية التي تصعب من فكرة اعتماد الحدائق الخاصة كبديل، إذ إن جميعها يقع في أماكن بعيدة للغاية تتطلب ساعات للوصول إليها، لذا تتحول النزهة إلى عبء مادي وجسدي كبير لا يتسنى لمعظم الأسر تحمله، علاوة على أن أكثريتها تضم عينات قليلة من الحيوانات، كما ترى بعض الآراء أن حديقة حيوان الإسكندرية قد تكون بديلاً معقولاً بأسعار بسيطة، كما أنها ثاني أكبر حديقة بعد “الجيزة”، لكن كونها تقع في محافظة أخرى يتطلب سفراً ووقتاً طويلاً من اليوم وهو أمر صعب بالنسبة إلى غالبية القاهريين المنشغلين بأعمالهم لاعتبارات كثيرة.

وفي حين لا تزال الحدائق التابعة لإشراف حكومي في المحافظات المختلفة تتمتع بأسعار رمزية للدخول ولخدماتها الداخلية أيضاً، مثل حدائق المنصورة وبني سويف والفيوم والإسكندرية والشرقية وحتى حديقة الأسماك التي تقع في القاهرة وتتضمن أشجاراً تاريخية تعود لنحو 125 عاماً، فإن كثيراً من المهتمين يتخوفون من أن تطاولها يد التطوير قريباً، ومن ثم ترتفع رسوم دخولها بصورة لا يكون في متناول الأسر التي ترغب في قضاء وقت ممتع مع الأطفال في الهواء الطلق من دون أن يستهلكوا نسبة كبيرة من موازنة الإنفاق على المنزل، لا سيما أن بعض التوقعات تشير إلى أن حديقة حيوان الجيزة التي ينتظر الجميع افتتاحها بفارغ الصبر قد ترفع سعر تذكرتها بصورة كبيرة، وقال مصدر بوزارة الزراعة فضل عدم ذكر اسمه، إنه إذا نفذ المتفق عليه، فقد يصل سعر التذكرة إلى 200 جنيه (أربعة دولارات) وربما أكثر، في حين لم تؤكد الجهات الرسمية هذا التكهن، إذ المتداول أن الحديقة بعد تطويرها لن تزيد أسعار دخولها على 25 جنيهاً.

داخل حديقة الماضي

حديقة حيوان الجيزة، وهي من بين الأقدم في العالم، كانت تستقبل من مليونين إلى 3 ملايين زائر سنوياً، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من طفولة شرائح متعددة من الشعب المصري، وهي الوحيدة في البلاد التي تضم – إضافة إلى الفيل والزرافة – 6 آلاف حيوان، وتقع على مساحة شاسعة من الأرض تحوي عديداً من الطيور والزواحف النادرة، فضلاً عن مراكز بيئية وتعليمية وأخرى متحفية، مما جعلها مقصداً لجميع الطبقات، لهذا ظهرت “جنينة الحيوانات” كما يسميها المصريون في كثير من الأعمال الفنية، مثل أفلام “موعد غرام” (1956)، و”إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات” (1957)، وكذلك “آخر الرجال المحترمين” (1984)، إذ إن زيارة هذا المكان بالنسبة إلى طلبة المدارس من مختلف المحافظات رحلة أساس ومحببة للغاية شكلت ذاكرتهم، لذا فهي في الثقافة الشعبية معطى لا بديل عنه.

 يرى ماجد، الذي اختبر الأبوة للمرة الأولى مع طفله سليم، أنه لا يتصور أن يكبر ابنه من دون أن يكون لديه رحلة أسبوعية إلى حديقة حيوان الجيزة، إذ تربى هو على تلك العادة لأن عائلته تسكن قرب المكان، كما أنه حالياً يعيش في البناية نفسها مع أسرته الصغيرة، مضيفاً “ذهبت معه مرات إلى حدائق خاصة، وعلى رغم أن بعضها لم يكن يضع الحيوانات في أقفاص تقليدية مثلما يحدث في حديقة حيوان الجيزة، ويفضلون ترك الحيوانات الآمنة في بيئة مفتوحة، لكن محدودية الأنواع جعلت الرحلة ينقصها كثير، وبعيداً من ارتفاع ثمن التذاكر بأكثر من 50 ضعفاً، فإن صعوبة الوصول واستهلاك الوقت يجعلان من المستحيل تكرار هذه المهمة على فترات متقاربة”.

وأشاد ماجد – بحكم كونه متخصصاً في التربية السلوكية – بالتأثير الإيجابي للحيوانات في الأطفال، إذ يجعلهم اجتماعيين ويسهم في تعزيز قدراتهم الإدراكية والمعرفية والسلوكية كذلك، مشيراً إلى أنه يحاول تعويض نجله عاشق الحيوانات باقتناء بعض الحيوانات والطيور الأليفة في المنزل، لأنه يعي جيداً مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إليه.

نقلاً عن : اندبندنت عربية