شاعت أفكار الأمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس أخيراً بفضل فيلم “غلاديايتور” أو “المصارع” الذي أخرجه البريطاني ريدلي سكوت، والذي لعب فيه راسل كرو دور الجنرال ماكسيموس ديسيموس ميريديوس، راوياً لنا انتصار هذا القائد العسكري على البرابرة، وقرار ماركوس أوريليوس تعيينه خلفاً له، مما أثار غضب ابنه، فما كان من هذا الأخير إلا أن قتل والده وأعلن نفسه إمبراطوراً. لكن قبل مقتله كان ماركوس أوريليوس على علم بخيانة ابنه، وبتآمر بعض الفصائل وتمردها على حكمه، وبتهديدات القبائل الجرمانية لحدود إمبراطوريته الشمالية واحتلال الفرس بعض ولاياته الشرقية، إضافة إلى انتشار الطاعون وعدد من المصائب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وعلى رأسها تآمر زوجته وقائد جيشه عليه، لكن كل هذه الأزمات لم تفت في عضده وظل يحارب ليحقق للإمبراطورية السلام، منتصراً على الفرس والجرمان، قاضياً على الأزمة الاقتصادية، حتى عده البعض آخر أفضل خمسة أباطرة رومان على الإطلاق.
كيف استطاع هذا الإمبراطور الحفاظ على هدوئه وسط كل هذه الاضطرابات والحروب والخيانة والأوبئة والكوارث الطبيعية التي هزت عرشه لفترة قاربت الـ20 عاماً؟ يكمن الجواب بحسب فريديريك لونوار في الفلسفة التي نشأ وتدرب عليها منذ صغره والتي شعر تجاهها بشغف شديد، عنيت الرواقية.
يتناول كتاب لونوار إذاً حياة هذا الإمبراطور وتعاليمه، ومن خلاله تعاليم الفلسفة الرواقية، كاشفاً لنا عن موضوعاتها كما تبدت في كتاب “التأملات”، التي تندرج في إطار فلسفة الأخلاق المستمدة من التأمل في الطبيعة. فوفق تعاليم هذه المدرسة الفلسفية العملية التي نشأت بعد أرسطو وامتدت قروناً في الحقبة الهلينستية وما بعدها، لا يصل الفرد إلى السعادة، إلا بتقبل الحاضر وكبح جماح النفس ومنعها من الانقياد وراء الملذات، متوسلاً مشورة العقل لفهم العالم ومنطقه وفعل ما تقتضيه الطبيعة، ذلك أن العالم كل عضوي، تتخلله قوة الله الفاعلة أو اللوغوس، ورأس الحكمة معرفة هذا الكل، مع التأكيد أن الإنسان لا يستطيع تلمس معرفة اللوغوس إلا إذا تحرر من الانفعالات والرغبات والعواطف وتناغم مع الطبيعة، صابراً على المشقات، آخذاً بأهداب الفضيلة، والفضيلة هي الخير الوحيد، أما بقية الأشياء كالصحة والثراء واللذة فليست شراً أو خيراً في حد ذاتها، إلخ.
الفلسفة الرواقية
الفلسفة الرواقية تركز على التناغم مع الطبيعة وعلى ضبط النفس كأسلوب للحياة قائم على الابتعاد عن المشاعر الهدامة، والإنسان الحكيم هو الشخص الذي يمارس الفضيلة ويحقق كمالاً فكرياً وأخلاقياً، يوصله إلى حالة من اللاهوى تساعده على تحمل المحن والخروج من الفشل. هذه الأفكار الرواقية التي عاشها ماركوس أوريليوس بحسب لونوار ما زالت راهنة، ولعلها تجيب عن الأسئلة الأساس التي يطرحها الإنسان المعاصر على نفسه والتي تتناول مسألة حريته ومعنى حياته وإمكان حفاظه على سلامه الداخلي في عالم مضطرب.
الكتاب مشوق يبسط تعاليم هذا الإمبراطور الفيلسوف، واضعاً إياها في متناول جميع القراء من خلال جمل بسيطة ترسم لنا مسرى حياة هذه الشخصية المتناقضة التي جمعت طوال حياتها بين المسؤوليات العسكرية والسياسية والأهداف الحربية والتوسعية المرتبطة بهمِّ الحفاظ على الإمبراطورية الرومانية، وبين الفكر الفلسفي، فقد وضع الإمبراطور خلال الحملات العسكرية التي قادها بين الأعوام 170 و180 تأملات وحكماً وشذرات فلسفية مهمة، تناولت موضوعات الحياة والموت والوجود وماهية الإنسان، كان يدونها لنفسه يومياً باللغة اليونانية القديمة على دفاتر صغيرة، من دون ترتيب زمني حقيقي أو تنظيم بحسب الموضوعات، ومن دون اهتمام بنشرها. وقد عُثر على هذه الدفاتر في القرن الـ10 الميلادي محفوظة في مخطوط شبه تالف بلا عنوان فقد لاحقاً مؤلف من 12 باباً، فنُسخت وطُبعت في ما بعد في مدينة زيوريخ السويسرية عام 1558 تحت عنوان “تأملات” وأحياناً “تأملات شخصية”، علماً أن نسختها الوحيدة المحفوظة في مكتبة الفاتيكان تعود إلى القرن الـ14.
لا يعرف الدارسون مدى انتشار كتابات ماركوس أوريليوس بعد وفاته، لكن بعض الإشارات الأدبية القديمة تخبرنا أن الإمبراطور يوليانوس الجاحد أو المرتد (331 – 363 م) اعتبر ماركوس أوريليوس نموذجاً يحتذى في مبادئه وأفعاله، ولو أنه لم يذكر كتاب “التأملات”.
أما أولى الإشارات إلى الكتاب تحت مسمى “تأملات ماركوس أوريليوس لنفسه” فتأتي من العالم البيزنطي أريثاس القيصري في القرن الـ10، الذي أصبح رئيس أساقفة قيصرية ويعد واحداً من أعظم علماء اللغة والإنسانيين البيزنطيين، ومن “السودا” أو “الموسوعة” البيزنطية التي تعود أيضاً إلى أواخر القرن الـ10، والتي تعتبر مرجعاً مهماً لمعرفة أسماء الكتب والمؤلفين التي استل منها الكتاب والمفكرون استشهادات واقتباسات مختلفة.
تحفة أدبية
تعتبر “تأملات” ماركوس أوريليوس إذاً تحفة أدبية وفلسفية لاحتوائها على المبادئ الأساس للفلسفة الرواقية، وهي تعد من أهم أعمال هذه المدرسة الفلسفية، إلى جانب حوارات إبيكتيتوس وأعمال سينيكا، ويقال إنها كانت ضمن قراءات شخصيات بارزة أمثال ملكة السويد كريستينا، والإمبراطور الجرماني فريدريك الثاني، وجون ستيوارت ميل وغوته، وشوبنهاور وسيوران وتولستوي وسيمون ڤايل، وغيرهم.
يؤكد لونوار في كتابه أن هذه التأملات قد أعيد طبعها مراراً وتكراراً ولم يتوقف الناس عن قراءتها منذ القرن الـ16، فأفكارها كانت ولا تزال مادة تأمل لملايين من البشر، ولو لم يحدث واضعها تغييرات جذرية في مجتمعه، إذ امتثل للقوانين المرعية الإجراء وللعادات والتقاليد، لا سيما تلك المتعلقة بالعبودية وألعاب السيرك ومكانة النساء والمحظيات، إلخ، إلا أنه سعى بكل قوته إلى التخفيف من قسوة مجتمعه والحفاظ على استقراره.
لا يقدم كتاب فريدريك لونوار “حلم ماركوس أوريليوس” عملاً بحثياً بالمعنى الأكاديمي للكلمة، من جهة ضبط المراجع والمصادر الأساس، لكنه بالتأكيد كتاب علمي يقسم إلى قسمين، القسم الأول تاريخي، يصف فيه المؤلف صعود نجم ماركوس أوريليوس الذي لم يكن مقدراً له أن يصير إمبراطوراً، ولعله هو نفسه لم يتمنَّ ذلك، بسبب ميله إلى دراسة الفلسفة اليونانية، ولأنه ابتعد عن الرغبة بالمشاركة في الحكم والحرب، وما يرافقهما من فوضى وأزمات اجتماعية ومؤامرات تحاك ضد الحاكم. فماركوس أوريليوس أنطونيوس أوغسطس ولد في أسرة أرستقراطية وتدرج في العمل السياسي حتى استطاع أن يكون عضواً في مجلس الشيوخ، وبفضل ذكائه وحسن خلقه تبناه الإمبراطور أنطونيوس بيوس، ثم زوجه من ابنته فاوستينا، ليعلنه لاحقاً مع أخيه لوسيوس فيروس ولياً للعهد.
حكم الأخوان الإمبراطورية الرومانية حتى وفاة لوسيوس فيروس، ثم تولى ماركوس أوريليوس الحكم وحده، هذا الجزء التاريخي من الكتاب ضروري لفهم تطور شخصية الإمبراطور الفيلسوف ولمقاربة القسم الثاني وهو الأكثر إثارة للاهتمام، ففيه يقدم فريدريك لونوار بطريقة بارعة أفكار هذا الإمبراطور الذي كان من دون علم منه أحد أهم أعلام الفلسفة الرواقية.
مدارس فكرية
في هذا القسم يساعد لونوار قراءه على فهم مختلف المدارس الفكرية القديمة، من الإبيقورية إلى الرواقية، موضحاً الفرق بين فكر سينيكا وفكر سقراط وأفلاطون، وبين فكر إبيكتيتوس وجميع الفلاسفة الهلينيين والهلنستيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تمنع هذه المقاربة المشوقة لفكر ماركوس أوريليوس القارئ من التوقف والتفكر في الأسئلة والقيم التي يطرحها الإمبراطور الناظر، ككل الفلاسفة القدماء، إلى الفلسفة كفن للحياة، من خلال تأمله في ثلاثة مواضيع رواقية، عنيت الطبيعة والمنطق والأخلاق، وقيم الحق والعدالة والعفة التي تجيب عن سؤال العيش كفيلسوف، من خلال مجموعة من الشذرات اختارها لونوار بعناية لارتباطها بالإنسان المعاصر، فعلى تتالي فصول الكتاب القصيرة والاقتباسات والاستشهادات الدقيقة، نبحر مع فريديريك لونوار في عباب بحر من الفلسفة، يتوقف أحياناً في مرافئ مزدانة بحدائق غناء، تضم مجموعة من المفاهيم الفكرية المختلفة التي بإمكاننا العيش بحسبها وتطبيقها في حياتنا.
يحفز كتاب فريديريك لونوار “حلم ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الفيلسوف الذي يساعدنا على العيش” تساؤلاتنا الخاصة، مقترحاً علينا من خلال شذرات كتاب “التأملات” التي حققت، بمعنى ما نظرية أفلاطون التي أكدت أن حال البشرية لن يستقيم ما لم يحكم الفيلسوف، أجوبة واضحة تتناول أسباب بؤس البشر أكانت مرتبطة بالأعراف الاجتماعية أم بالآراء الخاطئة أو بالتشبث بالملذات الزائفة والخيال والتمثلات التي تزعزع روحنا في سعي للوصول إلى الهدوء والسلام الداخلي الذي تطلعت إليه كل التيارات والمدارس الفلسفية.
في النهاية أعتقد أن الفلسفة بحسب فريدريك لونوار تكمن أيضاً في التعايش المتناغم بين جميع تيارات الحكمية والروحانية التي تتقاطع وتندمج في نمط واسع وعميق من الحياة والأفكار على طريقة شذرات وتأملات ماركوس أوريليوس المختلفة.
فريدريك لونوار (مواليد 1962) هو كاتب ومفكر ومؤرخ للأديان، تخرج في المعهد العالي للدراسات الاجتماعية في باريس، ألَّف ما يقارب الـ50 كتاباً في علم الاجتماع وتاريخ الأديان والفلسفة والحكمة الشرقية والرواية، تُرجم معظمها إلى أكثر من 20 لغة من بينها العربية. يهتم في كتاباته بتقديم الفلسفة والعقائد الدينية إلى الجمهور العريض في لغة سهلة يرى أنها أكثر إفادة للإنسان المعاصر الذي يواجه الحياة في عالم يئن تحت وطأة الأزمات بعيون تغشيها غمامة البؤس والتشاؤم وفقدان الأمل.
نقلاً عن : اندبندنت عربية