كي نحرر القراءة الإبداعية من قفصها السياسي والأيديولوجي والديني، علينا أن نفهم ونفكك العطب العضوي المزمن الذي تعانيه على مستويات متعددة ومتحالفة ومتقاسمة الأدوار.
القراءة هي ممارسة الحرية في أبهى تجلياتها.
في ظل الأنظمة الشمولية أو الثيوقراطية، وبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جزء من هذا التوصيف مع اختلافات بسيطة بين نظام بلد وآخر، تبدو ظاهرة القراءة الإبداعية شبيهة بمسرحية هزلية، تلعب على خشبة مسرح بلا جدران ولا قناع ولا ماكياج.
في المجتمع المعلّب سياسياً والمسيج بالعصبية والتطرف، يوجد قارئ واحد ووحيد وأوحد ينوب عن الجميع في القراءة. وهذا القارئ ليس سوى القائد أو الشيخ الذي توكل له مهمة القراءة نيابة عن رجال ونساء المجتمع، أو يوكلها لنفسه بنفسه، فهو الوحيد الذي يقرأ والبقية تستمع إلى ما يختاره لها للقراءة الشفوية أو المكتوبة، لا فرق.
ومن يسلم عقله لآخر ليقرأ نيابة عنه، فإنه كمن يسلمه عنقه وشرفه وعقله.
في المجتمع المعلب سياسياً والمسيّج بالتطرف مهما كان هذا التطرف، ظاهرياً نشاهد الناس تقرأ وتشتري الكتب، لكن إذا ما دققنا النظر عميقاً في هذه العملية فإننا سندرك التالي، إن ما يقرأه الناس هو ما يسمح به القائد أو ما يتناسب مع رؤية حراس المعبد.
ومن يقرأ نيابة عنك فهو يفكر أيضاً نيابة عنك، وحين يكون هناك من يفكر ويقرأ نيابة عنك، فليست هناك ضرورة لوجود عقل في رأسك، لذا نجد العقل الجمعي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معطلاً أو يكاد، ولذا يولد العقل في هذه البلدان وهو في حال “تقاعد” مسبق ومبكر، عقل يمرّ من المهد إلى اللحد.
والقراءة بالنيابة تشبه حال ذلك العريس الذي في ليلة زواجه يحضر رجلاً آخر يسمى “التيس”، يقوم نيابة عنه بفض بكارة عروسه!.
تتكرس القراءة بالنيابة كنظام ثقافي وسياسي وجمالي من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة التي تتحول إلى أجهزة لنظام سياسي شمولي، تبدأ من المدرسة مروراً بالحزب والمسجد والشارع والأسرة والمؤسسات الثقافية، تلك جميعها تتحالف من أجل هدف واحد هو “إلغاء العقل” وتدجين المواطن وتعظيم وتطبيع صورة “التيس” الذي يفض بكارة العروسة نيابة عن العريس في المخيلة الجماعية.
إن القراءة الإبداعية عملية فردية بامتياز، هي كالصلاة الصادقة وكالحب تماماً بتمام، ولا أحد يحب نيابة عن الآخر، فالحب مغامرة فردية والقراءة كذلك، ولا أحد يصلي نيابة عن الآخر، فالصلاة هي حلول الأنا في الذات الإلهية، ومصادرة حق حرية القراءة تآمر مكشوف على إنسانية المواطن/القارئ، وعلى حقه في الحب وفي الصلاة.
إن القراءة بالنيابة هي تكريس وتطبيع وتصالح مع شعار “شيخي هو خلاصي”، وهو شعار متداول في البلدان ذات النظام السياسي الشمولي ويمثل خطورة كبيرة على سلامة العقل الجمعي، إذا ما حللناه وجدناه يحمل موقفاً عدائياً لمفهوم الإنسانية في جوهرها.
في المدرسة، يندس صوت “الشيخ” و”القائد” في تفاصيل البرامج المدرسية، فمنذ مطلع الطفولة يتم العمل على إطفاء شعلة الذكاء وطاقة الحلم وقوة الفضول في روح الطفل/التلميذ من خلال برامج مدرسية وكتب مقررة بنصوص هي من تجليات قراءة “الشيخ” أو “القائد”، من فلسفة القراءة بالنيابة.
في المدرسة ومن خلال الكتب المدرسية والبرامج المقررة في الأدب واللغة والتاريخ والدين والسياسة يجد التلميذ/المتلقي نفسه يستعير لسان الشيخ وصوته، وفي المدرسة يبدأ، شيئاً فشيئاً، دفن عقل الطفل تحت “تراب” نصوص مفروضة ومبرمجة تمثل في مجملها تهديداً لحاسة النقد وممارسة لاغتيال فضيلة الحرية، وفي المدرسة يتدرب الطفل/التلميذ، رغماً عنه، على الحلم على طريقة “الشيخ” الذي يحاصره من كل الجهات.
تتأسس المدرسة في مجتمع القراءة بالنيابة، وفي ظل شعار “شيخي هو خلاصي” على التلقين والتركيز على عملية “الحفظ” وترديد ما هو موجود في الكتب من دون سؤال أو تساؤل أو نقد.
وفي المؤسسات الروحية الدينية التي كانت في زمن سيادة “إسلام التنوير” فضاء مفتوحاً للمؤمنين البسطاء كما للفلاسفة والشعراء والمؤرخين والفقهاء على حد سواء، يجيئونها لأداء الصلوات ما في ذلك شك، ولكن، أيضاً، لحلقات النقاش والجدل والاختلاف بكل محبة واحترام وتسامح وإنصات، اليوم تسيّست غالبية هذه المؤسسات الروحية وأضحت لسان حال تيارات أيديولوجية متصارعة على السلطة، وأمام هيمنة سلطة “شيخي هو خلاصي” قد يرتاد الشاعر والفيلسوف والمؤرخ والطبيب المتخصص هذه الفضاءات لأداء الواجب الديني، وقد يسمعون من “الشيخ” ما لا يقبله عقل ولا منطق ولا يعلقون ولا يناقشون، يؤدون صلاتهم ويخرجون للجلوس في المقهى المقابل في انتظار موعد صلاة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمثل الأحزاب السياسية في بلداننا، يمينها كيسارها، إسلاميوها كوطنييها، صورة أخرى للقراءة بالنيابة، صورة أخرى لـ “شيخي هو خلاصي”، فقائد الحزب هو من يقرأ نيابة عن الجميع، وأقواله تنوب عن الكتب جميعها، وعقله “الراجح” قادر على التفكير نيابة عن العقول الأخرى للقطيع المنتسب للحزب، وافتتاحية “الشيخ” لجريدة الحزب أو منشوراته هي “مفتاح” السعادة الكبرى التي لا يعثر عليها في كتب ولا في منابر أخرى، وبموجب هذا الوضع يتحول رئيس الحزب إلى “شيخ الخلاص” النبوي.
واليوم زادت وسائل التواصل الاجتماعي تقتيلاً للقراءة الحرة المبدعة وتغييباً لحق الاختيار لدى القارئ، وأصبح القارئ لعبة بين أيدي كمشة من الانكشارية مشكّلة من المؤثرين وما يطلق عليهم “صناع المحتوى”، وهم في الحقيقة “صناع المحتوى الفارغ”، وتحول المؤثر وصانع المحتوى إلى “شيخ” يقرأ نيابة عن الجميع ويفتي في الجيد والرديء، وتمشي خلفه مئات الآلاف، وتسمع بعض هؤلاء “الشيوخ” الجدد يتحدثون عن الملايين التي تتبعهم، وبذلك أصبح “شيخ وسائل التواصل الاجتماعي” “تيك توك”، أو “إنستغرام”، أكبر وأقوى تأثيراً من قائد الحزب ومن فقيه المؤسسة الدينية الكلاسيكية.
بقدر ما تنوع العالم وقربت المسافات، ألغيت الحدود وتقاطعت الثقافات وأصبحت الخيرات المعرفية متاحة، واستقوت صورة “الشيخ” الذي يقرأ نيابة عن الجميع وتعاظمت في كل الميادين وفقد المواطن، شيئاً فشيئاً، حريته الفردية في التفكير وفي اختيار القراءة، وأضحى مراقباً من كل الجهات، مراقباً من خلال هاتفه ومن خلال كاميرات المراقبة المنصوبة في كل مكان من الشارع إلى الحمام.
نقلاً عن : اندبندنت عربية