يُعدّ لوي-فرديناد سيلين واحداً من قمم رجالات الأدب الفرنسي والعالمي المعاصرين، لكنه في الوقت نفسه يعتبر واحداً من أكبر “الوحوش” الشرسة في تاريخ الإنتليجنسيا الأوروبية خلال القرن الـ20، فهو الخائن والمتعاون مع النازية والفاشية على رغم نصوصه الأدبية ذات الأسلوب الاستثنائي المدهش، وقد تمت ملاحقته بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمته بتهمة معاداة السامية والخيانة الوطنية، وهكذا عاش بقية حياته إهانة وطنية وعزلة ثقافية مطلقة، لقد أصابته اللعنة الوطنية على رغم من فرادته الأدبية.

إن الخونة باستطاعتهم، هم أيضاً، وبتضافر جملة من الظروف السياسية والإعلامية المتواطئة أن يؤسسوا “أساطير” مثيرة حول شخصياتهم المشبوهة والفارغة من الداخل، وإن الخيانة الأدبية، هي الأخرى، كالخيانة السياسية أو الإعلامية لها قوانينها وشروطها ولها مغانمها ولها أيضاً عقابها.

إن تزوير تاريخ بلد من قبل روائي فعل لا ينتمي إلى فضاء التخييل الأدبي، فالخيال الأدبي هو الطريق الصاعد نحو الحرية، تلك الحرية التي تسعى إلى إسقاط أسوار القمع في سياق سياسي واجتماعي معين، وتتم عملية الإسقاط هذه بكل مسؤولية وبشفافية وبوعي قائم على معرفة دقيقة بتفاصيل الوضع المدان وأسراره. وإن تزوير التاريخ أدبياً هو عملية خيانة للخيال الأدبي نفسه، حتى قبل خيانة الوطن.

مؤكد أن الكتابة هي مقاومة، ولكن أية مقاومة؟.

الجمال هو الأخ التوأم للخير، والخير هو الروح التي تسكن الإستتيقا الأدبية، والجمال هو أيضاً بندقية المقاومة الإيجابية.

إن مقاومة السلوكيات البائدة والنظام المفروض عنوة وظلماً هي من مهمات ومن حقوق الكتابة الأدبية الإبداعية أو الفكرية، لكن هذه المقاومة يجب ألا تكون منحازة إلى الشر، فالمقاومة في مفهومها هي عمل في الاتجاه الخيّر.

إن نقد نظام سياسي مهما يكُن هذا النظام، ومهما تكُن إيجابياته وسلبياته، يُعدّ حقاً من حقوق الأدب والأديب، بل هو واجب جوهري من واجبات الكاتب التي عليه القيام بها من موقعه كمثقف طليعي، رؤيوي ونبوي، لكن النقد لا يعني مطلقاً القيام بمديح أو تبرير للكراهية في بعدها العنصري أو العرقي أو الديني أو الإثني أو اللغوي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأدب في جوهره، من ناحية أنه أدب، رسالة الخير والنقد والسلام في خطاب لغوي جمالي، يرفض بل يدين كل دعوة إلى كراهية الأم أو الوطن أو الآخر.

وإن الكاتب الخالد هو ذلك المبدع، روائياً كان أو شاعراً الذي يتمكن وبعبقرية فكرية ولغوية وبنائية من تمييز الخيط الرهيف الذي يفصل ما بين الحقيقي في نسبيته والكذب في تجلياته.

وكل أدب جميل يتقوت، ومنذ فجر التاريخ، على الكذب الجميل، لكن هذا الكذب الفني ليس متعارضاً مع الحقيقة بل هو استمرار لها في تجلياتها المتعددة. إن الكذب الأدبي أو الفني هو الوجه الثاني لسجادة الحقيقة. لكن هذه الحقيقة على رغم طابعها المتعدد والأسطوري فإنها تحوي بعض القيم الصلبة والخالدة التي عليها يتأسس وجود الأمة ويحفظ استمراريتها.

وكل أدب، مهما كانت الدعاية له ومهما كان نجاحه المناسباتي، قائم داخل بنية الكراهية هو أدب وُلد ميتاً ومن حمل كاذب.

ولقد ولى زمن الكاتب المجنون، وأسدل الستار عن عصر الشعراء المجانين، وإن الحرية ليست الجنون، مع أن الكتابة الأدبية من ناحية منطقها “العاقل” الواعي وباعتبارها لسان حال الحرية والمنتصرين لها، تحوي بعض توابل الجنون، لكنه جنون العبقرية والنبوءة الإبداعية.

والجنون في الإبداع ليس نقيضاً للعقل، والعقل الأدبي ليس رديفاً للعقل الرياضي.

ولقد انقضت أيام الكاتب “اللامسؤول” وغابت شمس الكاتب “العبثي”، وإن مفهوم وقوة “الكلمة” الإبداعية يشبهان أثر الرصاصة، إذا لم يحسن إطلاقها ولم يحدد هدفها جيداً، فقد تقتل صاحبها أو مستقبلها أو الاثنين على حد سواء.

فالكتابة الأدبية هي لعب بالنار في ليلة عرس مظلمة، وإن المبدع، روائياً كان أو شاعراً، يتميز بعفوية في تصريحاته، ما في ذلك شك، لكن هذه العفوية لا تعني “الهبل” والعفوية ليست مرادفة للسذاجة القاتلة.

إن الكتابة هي مسؤولية لا تشبه المسؤوليات الأخرى، فكل كاتب بكل ما يتميز به من أنانية ونرجسية، وهي طبيعة في المبدع منذ وجد الإبداع، يسعى إلى إبهار وإثارة وسحر وجذب عدد كبير من القراء نساء ورجالاً، لكن هذا الإبهار لا يعني “العمى” السياسي والأخلاقي ولا يعني الانحطاط والسقوط.

إن حرية التعبير كما هي حرية الإبداع حق مطلق للكاتب، هي الأوكسجين الذي يتنفسه لحظة الكتابة، وهي الطاقة السحرية التي تمنحه قوة وإمكان الرؤية الشاملة والتحليل الدقيق، فلا يوجد إبداع في غياب الحرية، لكن هذه الحرية لا تعني دهس وتزييف تاريخ بلد أو أمة من قبل هذا الكاتب أو ذاك، ومن دون شك لا يوجد تاريخ وطني مثالي ومنزه، وكثير من كتب التاريخ كتبت بطلب من الأقوى، بأمر من الديكتاتور، وقد يلقي هذا الأقوى وهذا الديكتاتور تهمة “الخيانة” على كاتب قام بتأويل التاريخ تأويلاً لا يتناسب مع رؤيته ومصلحته، لكن مع ذلك لكل بلد أو أمة مجموعة من المُثل ومجموعة من الرموز التي يجب على الكاتب احترامها ومساءلتها من دون السقوط لا في التقديس العقيم ولا في الإنكار الفاسد.

إن الكاتب من موقع الحس النقدي والرغبة في الهدم وإعادة البناء، يسعى إلى تكسير المفهوم الأخلاقي “للاحترام” المقنع، وهذا حقه الأدبي والفني، لكن هذا لا يعني بتاتاً الدعوة إلى إسقاط سقف البيت على ساكنيه.

نقلاً عن : اندبندنت عربية