الذكاء الاصطناعي يزحف بجنون وبسرعة على كل الميادين، والذكاء البشري يتراجع بسرعة وفي كل شيء، والمليارات تخصص لتنمية وتطوير كشوفات واستكشافات الذكاء الاصطناعي، سباق عالمي محموم وغير رحيم على من يحقق المفاجأة الكبرى وفي أقرب وقت.
هل هي علامة الساعة بالنسبة إلى الكائن البشري بالمفهوم التاريخي؟ هل نحن على عتبة بداية انقراض البشر الأذكياء من على هذه الحياة؟ هل بدأ انقراض السلالة البشرية فعلياً من خلال “التقاعد” التفكيري الذي بدأ يدخله الإنسان المعاصر الراهن تاركاً مجال الفكر والتفكير للذكاء الاصطناعي أي لكائن آخر؟.
إلى فترة قصيرة، كانت الفلسفة تقول وتكرر على لسان ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، الآن يمكننا القول “أنا لا أفكر إذاً أنا منقرض، غير موجود”.
ومع ذلك يبدو الإنسان سعيداً بعلامة الساعة أو غير مكترث لهذا المصير كثيراً!.
حين ينسحب الإنسان البشري، الإنسان التقليدي، بعيداً من فعل “التفكير” وآلية الفكر، فمن دون شك ستأخذ الحياة شكلاً آخر على المستويين الطبيعي والإنساني، وستمتلئ الأرض بكائنات أخرى أكثر ذكاء وأكثر فاعلية وأكثر إبداعاً وأكثر إنتاجاً.
بسرعة رقمية مذهلة ندخل عصراً جديداً يمكن تسميته “عصر تعويض” الكائن البشري بكائن آخر ولد من “نطفة” الأفكار و”علقة” الخوارزميات، كائن جديد سيقود التاريخ نحو كل الاحتمالات والاكتشافات والاحتمالات أيضاً، ونحو الصراعات والحروب وربما نحو السعادة أيضاً، كل شيء ممكن وكل شيء غير ممكن.
منذ عشرية تقريباً، بدأ العالم يعيش مرحلة عصر انقراض وجود السلالة البشرية في مجالات الحياة العامة التي كثيراً ما كان سيّد مفاصلها خلال قرون، ويتجلى ذلك جيداً وبصورة إحصائية واقتصادية في عملية تعويض البشر في كثير من مناصب الشغل بكل أنواعها، من البواب إلى ملاح الطائرة إلى قناص الحروب إلى صانع الحلوى ونساج الزربية.
هكذا كان يقال “أنا أعمل إذاً أنا إنسان”، والآن انقلبت المعادلة “أنا أختفي من العمل إذاً أنا بشر”.
ما نلاحظه والذي يحدث وبصورة متسارعة هو أنه يوماً بعد يوم تتقلص مناصب الشغل في المصانع والمزارع والمخابر والتعليم والعسكر التي كثيراً ما كانت حكراً على الإنسان البشري، لتشغلها كائنات رقمية أو روبوتات بشرية، وفي المقابل يعود الإنسان مهزوماً، الكائن البشري، لبيته ليموت من سأم البطالة والعيش في الشاشة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد الحروب الاستعمارية الكلاسيكية وبعد التسابق حول التجارب النووية وحمى امتلاك القنبلة الذرية والصراع حول امتلاك الفضاء من خلال الرحلات نحو القمر والمريخ وغيرهما، يدخل العقل البشري صراعاً جديداً محموماً هو الصراع على امتلاك الذكاء الاصطناعي، ويتجلى هذه الأيام جيداً في المعركة “حامية الوطيس” بين “تشات جي بي تي” ChatGPT ومنصة النظام الجديد “ديب سيك” DeepSeek التي أمامها تتهاوى بورصات وتصعد أخرى، فتغيّر ربما مفهوم الأخلاق.
والعالم في هلع، إذ يجتمع بعضهم هذه الأيام في باريس لبحث مستقبل الذكاء الاصطناعي، وآخرون عيونهم على سبورة أسعار البورصة في نيويورك، وآخرون ينتظرون ما سيفاجئهم به العقل الصيني الغامض.
يتجلى تأثير الذكاء الاصطناعي المدوي والمدوخ بوضوح في باب الاقتصاد والتجارة والأسلحة لأن ذلك من شأنه التأثير المباشر في الحياة اليومية للبشر والشعوب والجغرافيا أو ما بقي من ذلك، ولكن ما تأثير ذلك الزلزال الرقمي المدمر والمعمر في الوقت نفسه في الفنون والآداب؟، في زمن أصبح فيه من الصعب التمييز ما بين فعل التفكيك وفعل التركيب.
إن هندسة عبقرية الذكاء الاصطناعي فتحت كل أبواب الممكن، وأصبح “المستحيل” كذبة بشرية ساذجة، واختلط الواقع بالخيال وتقاطعا وتداخلا بصورة معقدة ومركبة.
لقد كنا نعتقد، وإلى فترة قصيرة، بأن الفنون والآداب، خصوصاً الرواية هي آخر القلاع التي يتمترس بها، وهماً، الإنسان البشري كي يحافظ على بعض ما فيه من خيال بشري ومن أخلاق.
الآن كل شيء أصبح مباحاً ومخترقاً، فلقد زحف الذكاء الاصطناعي على الفنون، من كتابة الشعر إلى إبداع السمفونيات الموسيقية إلى السينما إلى الفن التشكيلي، كل ذلك بات تحت رحمة العبقرية الملعونة أو المحمودة، لا ندري!.
حينما صرحت الروائية اليابانية ري كودان الحاصلة على أكبر جائزة في الرواية باليابان بأنها استعانت في كتابة جزء من روايتها بـ “تشات جي بي تي”، فهذا يعني أن الرواية التي كان لها تعبها وفتنتها السردية بدأت هي الأخرى تقع ضحية الذكاء الاصطناعي.
وأمام هذا الانزلاق أو التألق، أتساءل كيف سيكون شكل الكتابة السردية الروائية بعد عشرية وفي أبعد الحدود بعد عشريتين؟. من دون شك سيختفي الروائي الذي ينتمي إلى السلالة الأسلوبية لنجيب محفوظ وبلزاك ودوستويفسكي من الوجود، ليظهر جيل سرد الذكاء الاصطناعي بمقاييس جمالية لغوية وسردية خاصة، وسيظهر، من دون شك، قارئ جديد بمواصفات جديدة أيضاً، وسيتأسس ناشر جديد أيضاً وبرؤية اقتصادية ومعرفية مختلفة.
حين أتأمل هذا التهافت المجنون على امتلاك الذكاء الاصطناعي الذي لا مفرّ منه، وتلك سنة التاريخ الذي يتقدم من دون رحمة ولا عاطفة ولا شفقة ولا “نوستالجيا”، فإنني أقول “إننا، من دون شك، آخر جيل بشري يكتب الرواية على الورق ويسهر الليالي ويركّب الأحداث ويتعايش مع الشخوص ويتصارع مع اللغة”.
ولكن ألا يطرح هذا الوضع الجديد المحير سؤالاً أكثر تعقيداً وهو كيف ستحدد حقوق الملكية الفكرية والإبداعية حين ينتهي جيل الروائيين البشر ويبدأ جيل رواية الذكاء الاصطناعي؟ كيف سترسم حدود أخلاق الكتابة، الأخلاق بمفهومها الفلسفي؟.
ألا يوصلنا هذا السؤال إلى سؤال آخر، أليس الذكاء الاصطناعي هو استثمار في ملايين النصوص الموجودة التي أنتجها الكاتب البشري عبر العصور؟.
هل سيجد القارئ للنصوص السردية نتاج الذكاء الاصطناعي نفسه يوماً أمام تكرار لنصوص يتم التلاعب بها من خلال عبقرية ملعونة؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية