منذ ثلاثة أيام نشرت وكالة “رويترز” خبراً مفاده أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب هددت الحكومة العراقية بالعقوبات إذا لم تسمح بتدفق النفط من كردستان عبر أنبوب النفط التركي إلى ميناء جيهان، وبعده نفت الحكومتان الأميركية والعراقية خبر التهديد، ولكن فجأة صدر إعلان عن حكومتي البلدين باستئناف ضخ النفط في الأنبوب.

وقبل كل ذلك بأسبوع صرح مسؤول عراقي بأن الأنبوب سيبدأ بضخ النفط بعد أن وافق البرلمان على تعديل للموازنة، والتي تتضمن بنوداً تتعلق بمستحقات شركات النفط الدولية العالمة في الإقليم ودعم زيادة الإنتاج في كردستان، ولكن وزير الطاقة التركي قال إن أنقرة لاعلم لها بالموضوع، ولكن التفاصيل كثيرة ومثيرة.

أوقفت تركيا الضخ في أنبوب النفط الممتد من شمال العراق إلى ميناء جيهان التركي في مارس (آذار) 2023 على خلفية خلافات مالية وسياسية كان أهمها قرار هيئة حوكمة دولية تقضي بدفع أنقرة مبلغ 1.5 مليار دولار مع الفوائد للحكومة العراقية، والأمور السياسية تتعلق بتحركات حزب “العمال الكردستاني” داخل الإقليم والهجمات على تركيا، ومنذ ذلك الوقت حصلت كثير من الاجتماعات نتج منها أن الضخ سيبدأ قريباً، وبعد مرور عامين لم يجر حتى الآن.

وبعد صدور تقرير “رويترز” نفت الحكومتان الأميركية والعراقية أن يكون هناك أي تهديد، بما يوحي أنه كان هناك محادثات ومعظمها يتعلق بإعادة الضخ في الأنبوب لوقف تهريب النفط إلى إيران، وهذا أحد أساليب إدارة ترمب للضغط على الحكومة الإيرانية، ويتشبه بأن طهران تقوم بمزج النفط الإيراني مع النفط المهرب من كردستان وبيعه على أنه نفط عراقي.

وبعد الاتفاق بين الحكومتين العراقية والكردستانية صدرت بعض التفاصيل التي توحي بأن الأمور ليست كما تتصورها السوق، فقد أعلنت وزارة النفط العراقية السبت الماضي أنها انتهت من جميع إجراءات مواصلة تصدير النفط من الإقليم ضمن سقف الإنتاج المحدد لبغداد ضمن اتفاق “أوبك +”.

وتنتج كردستان حالياً 300 ألف برميل يومياً وجرى الاتفاق على أن يسلم الإقليم العراق 185 ألف برميل يومياً لتصديرها عبر الأنبوب إذا وافقت تركيا، ولكن هناك روايات أخرى تقول إن بغداد ستأخذ هذه الكميات مما يعني تحويلها من إيران إلى داخل العراق.

وعند قراءة هذه المقالة يفترض أن تكون تركيا ردت على طلب العراق، وتوقعي أن تركيا ستؤجل أو تعرقل الموضوع وأن الحكومة العراقية تتوقع ذلك أيضاً، وبهذا تكون الكرة في مرمى الأتراك ولايستطيع الأميركيون ولا الأكراد لوم الحكومة العراقية، ولكن للسياسة أحكام وليس من الضروري أن تتواءم القرارات السياسية مع المنطق، ولهذا سأطرح كل الاحتمالات.

دور إيران

جاء التدخل الأميركي في موضوع الأنبوب من جهتين، الأولى من طريق الفريق الذي كونه ترمب لتشديد العقوبات على إيران، والثاني من لوبي كردستان في الكونغرس الأميركي المكون من خمسة أعضاء جمهوريين ومؤيدين لترمب، فالفريق الأول يريد وقف تهريب النفط إلى إيران والذي يذهب معظمه إلى ميناء إيراني ويصدر للأسواق العالمية من هناك، ربما ممزوجاً بالنفط الإيراني ويباع على أنه نفط عراقي، ويجرى شراء النفط من كردستان بثمن بخس وبيعه في الأسواق العالمية بأضعاف ذلك السعر لمصلحة إيران، وبما أن هناك عقوبات على إيران وكل من يتعاون معها ويسهم في عمليات التمويل، فإن ما ذكرته “رويترز” عن عقوبات قد يكون صحيحاً في هذا الإطار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعبارة أخرى أعتقد أن خبر التهديد صحيح ولكن ليس كما أوردته “رويترز”، ولكن في إطار تهريب النفط إلى إيران والعقوبات المفروضة على طهران حالياً، وبما أن الحل هو إعادة توجيه النفط شمالاً بدلاً من الجنوب لفقد حصل اللبس في تقرير “رويترز” وظنوا أن العقوبات ستطبق إذا لم يجر ضخ النفط في الأنبوب، ويعزز هذا الرأي أن الشركات المنتجة للنفط في كردستان والتي تسلم النفط للمهربين أميركية وبريطانية، كما أن حكومة كردستان مدعومة أميركياً وتركيا حليفة الولايات المتحدة وعضوة في الـ “ناتو”، وبعبارة أخرى ليس هناك أي داع لتهديد العراق حول أمور تتعلق بأنبوب النفط لأن التهديد متعلق بالتعاون مع إيران.

من ناحية أخرى هناك لوبي كردستاني مكون من خمسة أعضاء في الكونغرس وهو ضد إيران وتركيا والحكومة العراقية و”أوبك”، ومهمته حماية المصالح الكردية، ويطالب الحكومة الأميركية بالضغط على كل من العراق وتركيا لضخ النفط في الأنبوب.

دور تركيا

ولا أتوقع أن تقبل تركيا بضخ النفط في الأنبوب إلا إذا حققت أهدافها المالية والسياسية، ولكن لا يستبعد أن توافق إذا كان ذلك ضمن صفقة سياسية كبيرة تتضمن إنهاء “قسد” في سوريا وتسليم حقول النفط للحكومة في دمشق، ويبدو أن الحل الأمثل للأتراك والحكومة العراقية هو التأجيل والمماطلة، فقد تكون الحجج أمام إدارة ترمب أموراً تقنية تتعلق بعدم جهوزية الأنبوب، فالحكومة العراقية حققت أهدافها من إضعاف الإقليم وإعادة سيطرتها على قطاع النفط فيه ولكن تركيا لم تحقق أهدافها بعد.

أثر عودة ضخ نفط كردستان وشمال العراق في أنبوب النفط التركي

غالبية النفط الذي يمكن إنتاجه في كردستان موجود في السوق على كل حال، وبدء الضخ في الأنبوب يعني في النهاية تحويل التصدير من ميناء إيراني في الخليج إلى ميناء تركي في البحر المتوسط، وهذا يعني أنه سيجري تسويقه في أوروبا بدلاً من الصين ولكن الكمية ستكون نفسها، وبعد فترة قد يرتفع إنتاج كردستان، وأكبر زيادة متوقعة بحسب المصادر العراقية هي 100 ألف برميل يومياً، وهي كمية صغيرة ومن ثم فإن الأثر محدود، والأثر الأكبر لتحويل التصدير من إيران إلى تركيا يتعلق بعلاقة العراق بـ “أوبك+”، فالبيانات الحكومية الرسمية لا تشمل إنتاج وصادرات كردستان، بينما “اتفاق أوبك+” يشمل هذه البيانات، والحكومة العراقية تصر على أنها تركز على الإنتاج الرسمي والصادرات الرسمية وأن إنتاج كردستان وصادراته غير رسمية ولكنها الآن أوقعت نفسها في مأزق عندما اعترفت الوزارة بعد الاتفاق الأخير مع كردستان أن إنتاج الإقليم 300 ألف برميل يومياً، وأنه سيرتفع إلى 400 ألف برميل يومياً، وأن منه 125 ألف برميل تستهلك محلياً. ولم يلتزم العراق حتى الآن بحصصه الإنتاجية على رغم الخفض خلال الشهور الأخيرة ولم يعوض عن التجاوزات السابقة، والأخبار الأخيرة عن إعادة الضخ في الأنبوب، على رغم تعهد الحكومة الالتزام بقرار “أوبك+”، توحي بأن العراق لن يلتزم وربما هذا كان سبب المكالمة الهاتفية بين وزير الطاقة السعودي ونائب رئيس الوزراء الروسي والأمين العام لـ “أوبك” ورئيس الوزراء العراقي، ثم إعلان بغداد أنها ستقدم خطة جديدة للتعويض، وهنا لا بد من التأكيد على أنه حتى لو قامت الدول الثمان في “أوبك+” بإنهاء الخفض الطوعي نهاية مارس المقبل وبدأت بزيادة الإنتاج، فإن هذا لا يعفي العراق من التعويض عن التجاوزات السابقة، وقيامه مع كازاخستان بالتعويض يعني أن الزيادة في إنتاج الدول الثمان محدودة.

واللافت للنظر هو تركيز الحكومة العراقية على رقمين، إنتاج كردستان 300 ألف برميل بينما الطاقة الإنتاجية 400 ألف برميل يومياً، وهنا تحاول الحكومة العراقية أن تظهر أن إنتاج كردستان انخفض 100 ألف برميل يومياً، وهي الكمية التي طالب بخفضها وزير النفط نهاية عام 2024، وبعبارة أخرى فإن تركيب الأرقام بهذا الشكل في بلد لا تعرف فيه كمية الإنتاج ولا كمية النفط المهربة يجعل أي محلل يشكك فيها، وخلاصة الكلام أنه حتى لو وافقت تركيا على الضخ فإن الأثر في الأسواق محدود، ولكن الأثر الأكبر يتعلق بعلاقة العراق بـ “أوبك+”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية