ارتفع إنتاج الفحم ومن ثم استهلاكه إلى أعلى مستوى له في التاريخ خلال الأشهر الأخيرة، على رغم الحرب الشديدة ضده في الأعوام الماضية، وعلى رغم كل الوعود بتخفيف استخدامه وكل التعهدات المناخية من الدول المنتجة والمستهلكة له. وتأتي هذه الأرقام التاريخية على رغم التوقعات ببلوغ ذروة الطلب عليه خلال الأعوام الماضية، وقد فشلت كل هذه التوقعات، فيلقبونه في الغرب بـ “الملك فحم” لدوره الكبير في تطور وبناء الدول المتقدمة، ولعدم القدرة على التخلص منه. ولا يعرف بالضبط أول من استخدم هذا التعبير، ولكن جون ركفلر، وهو أحد أكبر الشخصيات النفطية في التاريخ، كان يشير إليه كذلك لإدراكه أن النفط لن يزيح الفحم عن عرشه، فالفحم والسكك الحديد جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، وبخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، حيث تكونت حولهما ثقافة عميقة وفولكلور شعبي لا تزال أثارهما تظهر حتى اليوم، فهناك مئات الروايات والقصص والأفلام حول الفحم ومناجمه وحياة العاملين فيه، وهناك أناشيد وأغان شعبية عمرها أكثر من 200 عام، كما ظهرت الرأسمالية في أقبح صورها في مناجم الفحم، وهناك عدد من الأفلام الوثائقية والتحقيقات الصحافية التي تفضح هذا الوجه القبيح لشركات الفحم.
قامت الثورة الصناعية في أوروبا على الفحم ونهضت الولايات المتحدة وأصبحت دولة عظمى معتمدة على الفحم، ثم بدأت الأمور تتغير خلال العقدين الأخيرين بعد انتشار أفكار التغير المناخي، على رغم أن الآثار البيئية الضارة للفحم معروفة منذ زمن بعيد، وقد بدأت الحرب على الفحم وبدأت الدول تجتمع وتتفاوض على كيفية التخلص منه، ووقعت اتفاقات عدة وقامت كثير من الدول بتبني قوانين مختلفة للحد من استخدامه، وبخاصة في قطاع الكهرباء.
وفي الوقت الذي نجحت فيه بريطانيا بالتخلص من استخدام الفحم بصورة شبه كاملة، واستطاعت الولايات المتحدة خفض استهلاكه بصورة كبيرة، لم تستطع بعض الدول التخلص منه مثل ألمانيا، بينما زاد استهلاك دول أخرى مثل الهند والصين وعدد من الدول الآسيوية.
وكانت بريطانيا أول دولة في العالم تستخدم الفحم في توليد الكهرباء، وفي خمسينيات القرن الماضي كانت معظم الكهرباء المولدة في بريطانيا تأتي من الفحم، ومنذ أسبوعين تقريباً توقفت تماماً عن استخدام الفحم في توليد الكهرباء، فكيف استطاعت القيام بذلك؟
لقد أدت اكتشافات النفط والغاز في بحر الشمال إلى زيادة استخدام الغاز لدرجة أن استخدام الغاز زاد 84 في المئة بين عامي 1990 و2000، إلا أن زيادة استخدام الطاقة المتجددة وبخاصة الرياح والوقود الحيوي حل محل ما بقي من الفحم وخفض استخدام الغاز، وحالياً تُولد 34 في المئة من الكهرباء في بريطانيا من الغاز، و29 في المئة من طاقة الرياح، ونحو 14 في المئة من الطاقة النووية، و10 في المئة من الوقود الحيوي، والباقي من مصادر طاقة مختلفة.
لكن هذه النسب تخفي حقيقة مهمة وهي أن استهلاك الكهرباء في بريطانيا مستمر بالانخفاض منذ عام 2006، إذ بلغ الانخفاض 25 في المئة، وهذه النقطة الأخيرة مهمة جداً لأنه لا يمكن تكرار تجربة بريطانيا في التخلص من الفحم في بلد ينمو فيه استهلاك الكهرباء.
لا شك في أن استخدام التقنية لزيادة الكفاءة في الاستخدام لعب دوراً كبيراً في هذا الانخفاض، ولكن هناك ثلاثة عوامل أساس أسهمت في هذا الانخفاض والارتفاع المستمر في أسعار الكهرباء والطاقة بشكل عام، وانتقال المصانع إلى الدول الآسيوية والتوسع في قطاع الخدمات، مما يعني استخداماً أقل للكهرباء من جهة، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي التي تسهم أيضاً في انخفاض استهلاك الكهرباء أيضاً.
ولكن الأهم من ذلك كله هو انخفاض مستوى المعيشة للفرد البريطاني خلال الأعوام الأخيرة، كما توضح البيانات الحكومية وغير الحكومية، والأسوأ من ذلك تردي الأوضاع المعيشية وانخفاض متوسط عمر السكان، وتشير البيانات الحكومية إلى انخفاض متوسط حياة الرجال من 63.4 سنة إلى 62.4، وانخفاض عمر النساء من 63.9 سنة إلى 62.7، وهذا يجعل بريطانيا أقل من مثيلاتها في المنطقة وبخاصة الدول الإسكندنافية، وخلاصة الأمر أن الإعلام الذي يفتخر بتخلص بريطانيا من الفحم يتجاهل تدهور مستوى الحياة بشكل عام وسوء الوضع الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الولايات المتحدة
أما في الولايات المتحدة فيختلف الوضع، فعلى رغم تبني حكومة الرئيس السابق باراك أوباما سياسات صارمة لخفض استهلاك الفحم في محطات الكهرباء، فإن السبب الأساس في انخفاض استخدام الفحم وانخفاض انبعاثات الكربون هو وفرة الغاز ورخصه بسبب ثورة الغاز الصخري، إذ بلغ استهلاك الفحم ذروته عام 2008 بعد ثلاثة أعوام من بداية ثورة الغاز الصخري، واستهلاك الفحم الآن صار أقل بنصف ما كان عليه.
وهناك أدلة تاريخية عدة تشير إلى أن معظم التحول عن الفحم سببه ثورة “الصخري”، ومنها أن شركات الكهرباء تعود لمحطات الفحم وبقوة بمجرد ارتفاع أسعار الغاز فوق حد معين، وهو أمر رأيناه العام الماضي وسنراه مستقبلاً، ولكن لا يمكن إنكار دور القوانين التي سنّتها حكومة أوباما للحد من حرق الفحم.
وقد ارتفع استهلاك الغاز منذ عام 2006 بأكثر من 50 في المئة، كما زاد دور الطاقة المتجددة وبخاصة طاقة الرياح، وعلى رغم مواقف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المناخية إلا أنه ثعلب سياسي، كما أسلفت في مقالة سابقة، ففي عهده استمر استخدام الفحم بالانخفاض لكن صادراته زادت بنحو 45 في المئة، وهذا يتناقض مع السياسات المناخية المعلنة.
الصين والهند
استمر الطلب على الفحم في الهند والصين بالزيادة على رغم كل التعهدات خلال اتفاقات المناخ بخفض استخدامه، ففي الصين يُولد نحو 60 في المئة من الكهرباء من الفحم على رغم أن الصين أكثر دول العالم استثماراً في الطاقة المتجددة، أما في الهند فنسبة توليد الكهرباء من الفحم تزيد على 70 في المئة، فالفحم رخيص مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى، وعندما يواجه السياسيون بين النمو الاقتصادي وانقطاع الكهرباء من جهة، أو الالتزام بالتعهدات المناخية من جهة أخرى، فإنهم سيرمون بالتعهدات المناخية عرض الحائط، ومشكلة الصين والهند أن اقتصادهما حساس بصورة كبيرة لأسعار الغاز المسال، فعندما ترتفع أسعاره فليس هناك من بديل إلا الفحم.
وعلى رغم أن نسبة استعمال الفحم في الصين والهند عالية، واتهام الغرب لبكين ونيودلهي بزيادة معدلات التلوث، لكن كمية الكربون المتراكمة بسبب الثورة الصناعية أكبر بكثير مما أنتجته الصين والهند بأضعاف مضاعفة، وهذا هو سبب رفض الدول الناشئة اقتراحات الغرب، ولسان حالها يقول “استخدمتم الفحم حتى أصبحتم دولاً متقدمة، وحين أردنا تنمية اقتصادنا قمتم بإيقافنا”.
هذه الفكرة مهمة لأنها ستحدد مستقبل الطلب على الفحم، ويلاحظ أن هناك توجهاً جديداً بدأ منذ عامين في الصين، وهو التركيز على الموارد المحلية والتخزين، وهذا التوجه يعني زيادة الاهتمام بالفحم على رغم أن الخطة مسبقاً كانت التخفيف منه، ولكن الخوف من الحرب مع الدول الغربية جعل بكين تعيد التفكير في موضوع الطاقة ككل، ولهذا نرى تركيزاً شديداً على مصادر الطاقة المحلية وبأية كلفة، بما في ذلك الفحم.
مستقبل الفحم
توقعات وصول الطلب العالمي على الفحم لذروته قديمة، وعلى رغم فشل هذه التوقعات إلا أن الطلب عليه لا يزال ينمو، وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يبدأ الطلب على الفحم بالانخفاض من بداية العام المقبل، ولكن ليست هناك أية دلائل قوية على ذلك، بخاصة أن ما بين 20 و 25 في المئة من توليد الكهرباء في ألمانيا، وهي التي تتزعم الحركة الخضراء في العالم، يأتي من الفحم، كما أن اعتماد كثير من الاقتصادات الناشئة، مثل فيتنام وأفريقيا الجنوبية، على الفحم في ازدياد، والطلب العالمي على الطاقة سيزداد باستمرار عوامل عدة من أهمها الهجرة من الريف إلى المدن، والهجرة من الدول الفقيرة إلى الغنية، والذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية الحركة، وهذا النمو أكبر من النمو في كمية الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية والرياح، مما يعني أن الخطة الأصلية لإحلال الطاقة الشمسية والرياح محل الفحم والغاز لن تتحقق، وهذا يعني بالضرورة أن يكون الطلب على الفحم والغاز أعلى من التوقعات الحالية، وأضف إلى ذلك أن كُلف بناء مزارع الطاقة الشمسية والرياح ترتفع، كما أن كُلف بطاريات التخزين مرتفعة أيضاً ولا تزال بحاجة إلى الدعم الحكومي.
ونظراً إلى زيادة معدلات الإحلال بين مصادر الطاقة المختلفة بسبب الاختلاف المستمر في الأسعار، فإنه من المتوقع أن يمر الطلب العالمي على الفحم بذرى عدة، وبعبارة أخرى فإن انخفاض الطلب عليه بسبب الركود الاقتصادي لا يعني أن الطلب عليه بلغ ذروته.
وأخيراً هل تعلم أن غالبية السيارات الكهربائية في الصين والهند هي “سيارات فحمية”؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية