للروائي البريطاني إيان مكيوان هجائية سياسية لاذعة صدرت قبل سنوات قليلة على هيئة رواية قصيرة عنوانها (الصرصور). يستيقظ فيها صرصور ذات صباح ليجد نفسه – في معارضة واضحة لمسخ فرانز كافكا – رئيساً لوزراء بريطانيا. لن يصعب على القارئ أن يستنتج أي رئيس وزراء بالضبط يعنيه مكيوان، ولن يصعب عليه أن يستنتج أن ما حدث في بريطانيا من فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية على يد “صرصور” قد حدث للولايات المتحدة بسبب آخر، يوشك أن يطابقه في الملامح وتصفيف الشعر والتصرفات.
تسرد الرواية ضمن ما تسرده حكاية اجتماع بين صرصور بريطانيا والمستشارة الألمانية، إذ يعرض الصرصور نظريته الحمقاء في الاقتصاد راغباً أن تتبناها ألمانيا فـ”قاطعته المستشارة. واضعة مرفقها على الطاولة، أسندت جبهتها على يدها وأغمضت عينيها المتعبتين. وقالت “فاروم؟”… ثم قالتها من جديد، “فاروم؟”، ثم كررتها ثالثة. وأخيراً، بعينين مغمضتين، ورأس يغوص أكثر فأكثر إلى الطاولة، قالت الكلمة بسيطة وحزينة، “فاروم؟ لماذا تفعل هذا؟ لماذا؟ ولأي هدف تمزق أمتك تمزيقاً؟ لماذا تحمل أفضل أصدقائك بهذه المطالب وتتصرف كما لو أننا أعداؤك؟ لماذا؟”.
يرتبك الصرصور أمام سؤال المستشارة الألمانية البسيط، ولا أحسب قارئاً يجهل أن المستشارة التي صورها مكيوان هي أنغيلا ميركل. صدرت الرواية قبل سنوات قليلة من انتهاء حكم ميركل الذي دام لأكثر من عقد ونصف العقد، وكذلك كانت صورتها آنذاك، مستشارة حكيمة راسخة يشار إليها بألقاب من قبيل “ملكة أوروبا” و”أقوى امرأة في العالم” و”زعيمة العالم الحر”.
والآن، بعد ثلاث سنوات من تركها السلطة، تصدر أنغيلا ميركل سيرتها الذاتية في أكثر من 700 صفحة بعنوان “الحرية: سيرة ما بين 1954-2021”. يصدر الكتاب – الذي كتبته ميركل بمعاونة رئيسة موظفيها العتيدة بيات بومان – بالألمانية و30 لغة أخرى، مستعرضاً حياة سيدة “غير مستعدة للاعتذار” بحسب ما كتبت ميلاني آمان في استعراضها الكتاب (نيويورك تايمز-26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024).
تكتب آمان – نائبة رئيس تحرير مجلة “دير شبيغل” الألمانية الأسبوعية – أن ميركل ترجع إلى المسرح العالمي، بعد ثلاث سنوات من البعد، لكنها غير مستعدة لقول “آسفة”، فهي لا تعترف بأنها ارتكبت خطأ قبل الصفحة رقم 273 من الكتاب. وإذا خطر لأحد أن هذا الخطأ يتعلق بسياساتها التي يرى بعضهم أنها تسببت في اعتماد ألمانيا أكثر مما ينبغي على روسيا وأدت إلى تقوية اليمين المتطرف، فهو واهم، إذ لا يعدو الأمر أن ميركل تتذكر “خطأ فادحاً من أوائل أيام عملها السياسي حينما كانت زعيمة معارضة المستشار جيرالد شرودر” وكتبت مقالة لـ”واشنطن بوست”، هاجمته فيها لانتقاده الغزو الأميركي الوشيك للعراق قائلة إن “شرودر لا يتكلم باسم الألمان كلهم”.
نهج متحفظ
تكتب ميركل في كتابها أنه “لم يكن من الصواب أن أهاجم رئيس حكومتي هجوماً مباشراً في المجال الدولي. فلا تجب معالجة الخلافات الداخلية على أرض أجنبية”.
وهذا النهج المتحفظ، بحسب ما تكتب آمان، مطابق لنهج السيرة كلها، فلن يجد القراء غير “فقرات قليلة للغاية تسلم فيها بأخطاء ثانوية أو تبدي أسفاً على آثار جانبية بسيطة لقراراتها الكبرى التي لا توليها حقها من إعادة النظر. فما يعد الآن بمقام إخفاقاتها الأساس – من قبيل الطغيان على نظام الرفاه بسياسة اللجوء التي اتبعتها أو نكوصها عن إيقاف صعود اليمين المتطرف – لا يلقى منها إلا التهرب أو المراوغة”.
كانت ميركل من أكثر السياسيين شعبية في ألمانيا، لكن “سمعتها تضررت في الأعوام الأخيرة، وتزايد نظر الألمان إلى ولاياتها الأربع في الحكم باعتبارها حقبة الفرص الضائعة والأخطاء الفادحة، إذ يواجهون الآن تداعي البنية الأساسية واعتماداً خطراً للاقتصاد على الصين، وقلة تمويل للجيش، وانقسام المجتمع بسبب ارتفاع مستويات الهجرة وصعود الشعبوية اليمينية. كذلك فإن حرب أوكرانيا أبرزت سوء نهج ميركل المتراخي تجاه روسيا”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترى آمان أن “الحرية” كانت فرصة لتفسير الأفعال “ولنكتف بقولنا إنه لم يحقق هذا الغرض، ناهيكم بطرح أفكار عميقة جديدة أو حجج غير مكررة، وبدلاً من ذلك تركز المستشارة السابقة على أمور ثانوية بادية البساطة، كأن تأسف مثلاً على مقارنتها تسرب جرعات إشعاع صغيرة من حاويات نووية بانسكاب مسحوق الخبيز (البيكنج باودر) على كعكة، وكان ذلك تعليقاً ارتجلته في عام 1996، لكن ما من كلمة أسف على تسرعها في الدعوة عام 2011 إلى إلغاء الطاقة النووية بعد انهيار نووي في محطة فوكوشيما للطاقة في اليابان. وكان ذلك قراراً باهظ الكلفة، تعرضت بسببه ألمانيا لارتفاع كلف الطاقة التي ازدادت ارتفاعاً منذ أن تخلص البلد من اعتماده على النفط والغاز الروسيين، وذلك أيضاً أمر لا تبدي ميركل أي تحفظ حياله”.
كتب مراسل “غارديان” السابق في ألمانيا، رئيس مكتبها في برلين (غارديان-26 نوفمبر 2024) فيليب أولترمان أن ميركل ولدت ونشأت وقضت 35 عاماً في بلد معاد للكنيسة موال لموسكو ذي اقتصاد اشتراكي، ثم نشطت طوال 31 سنة في حزب مسيحي محافظ شديد التأييد لحلف شمال الأطلسي ولاقتصادات السوق، فكانت براعة ميركل السياسية تتمثل في مقدرتها على التعامل مع مختلف الاتجاهات لمعرفتها الفريدة ببيئاتهم الأيديولوجية، فلا يبدو الكتاب فرصة لتصفية الحسابات، إذ يسرد بقدر واحد من الاحترام تفاصيل لقاءات ميركل بأمثال جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء اليوناني اليساري السابق أليكسيس تسيبراس. ولا يمنعها الاحترام من وصف حرب بوش في العراق بأنها “نشبت بناءً على قاعدة قناعات خاطئة” ولا يمنعها من وصف مكالمة مع تسيبراس بأنها أغرب مكالمة هاتفية في مسيرتها السياسية، إذ قال إنه سيوصي الشعب اليوناني بالتصويت ضد خطة إنقاذ تفاوض عليها بنفسه مع ميركل.
ويضيف أولترمان “أما عن الذين أساؤوا إليها، فأقرب ما تعمد إليه من التوبيخ هو التجاهل التام، لذلك لا ذكر في الكتاب ليانيس فاروفاكيس الذي نصب نفسه بطلاً ثائراً على أزمة الحكومة اليونانية الائتمانية، ولا ذكر إلا مرتين لبوريس جونسون. بل إن مصفف شعر ميركل يظهر أكثر تركيباً سياسياً من إيمانويل ماكرون”.
تكتب ميركل أنها لا تتبنى إطلاقاً فكرة اعتبار المعارضين السياسيين غرباء الطبائع الشخصية، ولا تستثني من ذلك إلا دونالد ترمب الذي رفض في أول اجتماع رسمي معها “أن يصافحها أمام الكاميرات، فتوبخ ميركل نفسها لأنها افترضت أن رئيس الولايات المتحدة لا بد من أن يكون “شخصاً طبيعياً”. وجاء تعامل ترمب العدواني مع الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالتبادل التجاري والتعريفات الجمركية بحسب ما تصفه ميركل أقرب إلى التعامل من منظور المقاول العقاري الذي كانه، إذ يرى “البلاد جميعاً في تنافس، فنجاح بلد يعني فشل آخر” وهو تفكير يتعارض بشدة وتفكير ميركل ورؤيتها للعالم، فلا عجب أن تقول صراحة في الكتاب “إنني أتمنى من كل قلبي أن تهزم كامالا هاريس منافسها وتصبح هي الرئيسة”.
يكتب أولترمان أن “الكتاب يبدأ بقسم طويل عن العقود الثلاثة التي قضتها ميركل وراء الستار الحديدي، ويصعب التخلص من الانطباع بأن هذا هو الكتاب الذي أرادت ميركل حقاً أن تكتبه”. وليس ذلك لأي أثر من نوستالجيا، فهي ترى أن “جمهورية ألمانيا الديمقراطية بلغت أقصى غاية التفاهة وضيق الأفق وسقم الذوق وانعدام روح الدعابة”، لكن ميركل تكتب ذلك الجزء – في ما يرى فيليب أولترمان – بنبرة من تخفف أخيراً من عبء التزام الصمت في ما يتعلق بنشأتها، إذ تكتب عن أول تجربة لها في التعامل مع الصحافيين بعد سقوط سور برلين فتقول إن تلك التجربة جعلتها تدرك أنه من الصعب “الحديث بصراحة مع إعلام ألمانيا الغربية في شأن حياة المرء الخاصة في ألمانيا الشرقية”.
ويتابع أولترمان “أما النصف الثاني من الكتاب، الذي يتناول الأوضاع الجيوسياسية، فهو الأكثر إثارة وكأن إيقاعه محكوم باليوميات المكتظة بالأزمات المتراكمة التي وسمت فترة حكم ميركل: من الأزمة المصرفية العالمية التي بدأت عام 2007، ومن بعدها خطر التفكك الذي تعرضت له منطقة اليورو، ثم وصول ما يقدر بمليون و300 ألف نازح على حدود أوروبا عام 2015، وتصاعد الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا”.
ميركل وبوتين
يكتب فيليب أولترمان أن التشكيك في حكمة قرارات ميركل خلال تلك الأزمات بدأ بعد قرابة شهرين فقط من انتهاء فترة حكمها حينما غزت روسيا أوكرانيا. “لقد كانت ميركل دارسة ممتازة للغة الروسية، وبوتين يتحدث الألمانية بطلاقة، فجعلها ذلك أقرب شركاء الغرب التفاوضيين مع الكرملين”. وحتى قبل تدهور العلاقات الدبلوماسية، بحسب ما تكتب، لم تكن لديها أي أوهام في شأن رغبة بوتين في “أن يرد على الانتصار الأميركي في الحرب الباردة” وجاء ضم إقليمي دونيتسك ولوغانسك في عام 2014 ليوضح لها بلا لبس أن الرئيس الروسي “منتهك للقواعد… لا بديل عن إيقافه”.
فلماذا، كما يتساءل أولترمان، سمحت ألمانيا في عهد ميركل لنفسها بالاعتماد على الغاز الروسي؟ ولماذا لم توقف مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي ربط روسيا مباشرة بألمانيا؟ ولماذا لم تنهض لتعزيز دفاعات أوروبا؟ يكتب أولترمان أن إجابات ميركل عن هذه الأسئلة “نمطية إلى حد الإحباط”. ويظهر ذلك بوضوح في عرض آمان إذ تحكي عن حوار أجرته مع ميركل قبل أسابيع قليلة في مكتبها المنزلي ببرلين “رأيتها متفائلة. قدمت لنا نسخاً حديثة الصدور من كتابها وتذكرت كيف كتبته على كمبيوتر غير متصل بالإنترنت، وبدت مستعدة لحكي حكايتها بصوتها، لكن لم يبد مطلقاً أنها تبالي بما قد يقوله العالم في هذه القصة”.
تقول آمان “على رغم إحساسها أنها كانت كبش فداء للغزو الروسي لأوكرانيا – وهو ليس إحساساً وحسب، إنه واقع – أصرت ميركل على أن قرارها بالاعتراض على خطة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو في عام 2008 كان القرار الصائب، فقد كان دخول أوكرانيا في درع الناتو ليستغرق أعواماً، وكان ذلك وقتاً كافياً بلا شك لفلاديمير بوتين لأن يفعل شيئاً وفي تلك الحال (ما الذي كان ليحدث؟ هل كان من الممكن تصور عمل عسكري من الدول أعضاء الناتو في عام 2008؟ تلك كانت اعتباراتي)”.
تكتب ميلاني آمان أن ميركل في عملها السياسي، كانت إدارية ذات نزوع إلى الغرق في التفاصيل، وليست صاحبة رؤية أو إصلاحية. وفي الكتابة، تبقى مخلصة لهذا الأسلوب. ففي نحو منتصف الكتاب توضح واجبات المستشار بعرض سجل بالمؤسسات الكبرى التي كان عليها أن تقابلها “بأبسط عرض ممكن، إذ تقدمها مرتبة ترتيباً ألفبائياً”، فتراوح بنود القائمة ما بين مؤسسة ألكسندر فون همبولدت (لبناء الجسور) والرابطة الألمانية لتجارة البستنة، فليست بالقائمة الجذابة مطلقاً.
وتستدرك “لكن على رغم أن الصفحات الـ400 المخصصة لفترة حكمها تبدو مفعمة بإحساس الواجب، فإن لدى الكتاب ما يطرحه فعلياً، وما يعرضه هو صورة ذاتية لامرأة بدت على مدى عقود متحفظة إلى درجة مستحيلة. فنعرف منه كيف استطاع والدا ميركل، وكان الأب راعياً كنسياً والأم ربة بيت، أن يقيا أبناءهما الثلاثة من الديكتاتورية الاشتراكية في ألمانيا الشرقية ويحمياهم من (المرارة والإنهاك). وكيف أن إحباط ميركل العميق – أيام كانت عالمة لامعة شابة – من دعمها بالبحث العلمي من قبل النظام المتداعي في ألمانيا الشرقية قد أدى إلى فشل زواجها الأول”.
والمدهش أن في الكتاب أيضاً فقرات مسلية تصف فيها كيف تمكن مصفف شعرها “في نهاية المطاف من التوصل إلى طريقة لتصفيفه” وكيف أنها أحبت طبقاً من لحم الخنزير المدخن مع كرنب الكيل حباً شديداً ففرضته على ضيوف المستشارية “مراراً وتكراراً”. وقد تجد النساء حكاياتها عن صراعات السلطة ملهمة أو يجدن الوقائع الكثيرة المتعلقة بالاعتداءات الطفيفة أو المذلات التي تعرضت لها من هيلموت كول أو بوتين ومن منافسيها الذكور في الحزب الديمقراطي المسيحي مألوفة لهن ألفة مؤسفة. وثمة لحظات تكتب فيها ميركل أنها “بلعت” غضبها، وحاربت الدافع إلى “الانفجار في البكاء” أو قالت لنفسها في يأس “عليك بالهدوء”.
في النهاية، تقهر ميركل خصومها بالصبر والحيلة لكن ليس بالهجمات الشخصية أو الكيد أبداً. وعلى رغم أن كثيراً من الألمان، والصحافيين بصفة خاصة، كانوا يضجرون من خطاباتها السقيمة، فلا يبدو الآن أن نقاط الضعف تلك كانت الأسوأ. والواقع أن التحفظ الذي يسم الكتاب، والترفع عن توجيه أصابع الاتهام أو تسوية الحسابات، مثال للطريقة التي اتبعتها ميركل في السياسة، إذ كانت زعيمة هادئة فعالة، لا تميل في غضب ولا تنزع إلى عدوان.
وما كان الكتاب ليصدر في توقيت أفضل من هذا. فمع تأهب البيت الأبيض لاستقبال دونالد ترمب الذي تصفه ميركل ببساطة بأنه يمثل “تحدياً للعالم”، سيكون أسلوبها المتواضع النزيه خسارة فادحة. وفي حين انهارت الحكومة الألمانية وتشاجر شركاء تحالفها السابق مع بعضهم بعضاً، قد يغفر الشعب إخفاقات زعيمته السابقة التي تحتاج إلى أقل الكلمات لإيجاز الوضع الراهن: “هؤلاء هم الرجال”.
لقد كانت ميركل في النهاية امرأة لا تغادر طاولة التفاوض إلا بعد التوصل إلى تسوية، وقد شقت طريقها في هدوء عبر كثير من الأزمات التي شهدتها مستشاريتها، ولم تعد قط بحلول سهلة لمشكلات معقدة. ومؤكد أنها ارتكبت أخطاء، لكن على مدى أكثر من عقد ونصف العقد، أبدت استقراراً وسيطرة ونموذجاً من القيادة السياسية اختفى الآن تماماً. وقد لا يكون الألمان وحدهم هم الذين يفتقدونه ويفتقدونها.
عنوان الترجمة الإنجليزية: Freedom: Memoirs 1954 – 2021
تأليف: Angela Merkel
الناشر: St. Martin”s Press
نقلاً عن : اندبندنت عربية