نجا الروائي التركي أورهان باموق، المولود في عام 1952، من لعنة نوبل الشهيرة، فالجائزة التي حصل عليها قبل أعوام وما رافقها وأعقبها من اهتمام عالمي يصيب كل فائز بها لم تفرض عليه أن يصمت أو يتحجر القلم في يده، إنما توالت رواياته ومشاريعه، فضلاً عن مقالاته ومحاضراته، ولم تعقه الجائزة مثلما أعاقت غيره من قبل. انطلق باموق مستغلاً مكانته العالمية ليخوض مغامرات إبداعية خارج الكتابة، فيؤسس على سبيل المثال “متحف البراءة”، ليصبح متحفاً فعلياً ومأخوذاً عن رواية له بالعنوان نفسه، وها هو يخوض مغامرة جديدة مثيرة للجدل وإن لم تكن بحجم متحف.

ظهرت هذه المغامرة مترجمة أخيراً إلى اللغة الإنجليزية في كتاب عنوانه “ذكريات جبال بعيدة: دفاتر مصورة، 2009-2022″، وصدر الكتاب في أكثر قليلاً من 370 صفحة ومن ترجمة إيكين أوكلاب عن “دار نوبف”.

حارس خاص

يكتب إلتشين بويرازلار مستعرضاً الكتاب في صحيفة الـ”غارديان” والمنشور في الأول من يناير (كانون الثاني) الجاري فيقول إن أورهان باموق كان في الـ22 من عمره، حينما ترك كلية الهندسة المعمارية ليتفرغ للكتابة، ويحكي عن ذلك في كتابه “ألوان أخرى” الذي يظهر فيه شاباً طامحاً لم تتحقق له بعد مكانته بوصفه أحد أكثر الكتاب تميزاً في عصرنا، ولكنه يكدح في أول الطريق إلى ذلك، إذ يحكي فيه أن أمه كانت تفتح عليه باب غرفته في منتصف الليل لتتفقد أحواله فتجده منكباً على التدخين والعمل، وتسأله “هل تكتب؟ في الأقل لا تدخن كثيراً هكذا”.

أما في كتابه “ّذكريات جبال بعيدة”، وهو مختارات من دفاتر مرسومة كان يدونها في ما بين عامي 2009 و2022، “فنجد أنفسنا غائصين في أعماق كاتب ناضج، حاصل على نوبل في الأدب، على رغم ما يكشف عنه الكتاب من شغف ساذج عاطفي بكل من الكتابة والرسم”.

 

“تتضمن صفحات الكتاب الجميل يوميات وترجمات وتعليقات، وأيضاً تخطيطات رسمها باموق لمناظر طبيعية وبيوت وأشجار وبحار وسفن وميادين وطرق وحدائق وجبال وسماوات ومدن وبشر، فضلاً عن رغباته وأحلامه. وهو في بعض الأحيان يكتب أولاً ثم يرسم لاحقاً في الصفحات نفسها، وأحياناً في صفحات مقابلة. يكتب باموق أن ’كل شيء يبدأ بأفق‘ و’الأفق‘ هنا يعني عقل الكاتب – الرسام، لكنه يستوعب أيضا بيته وقرابته وبلده وأسفاره وشياطينه. ويقول أيضاً ’أحب أن أبدي الجانب المقبض من الناس والمدينة‘، ويأتي قوله هذا فوق رسم لبحر أزرق ذي جزر. والمدينة المعنية هي إسطنبول، مرساة خياله الجامح وبطلة أعماله التي لا غنى عنها. وعلى رغم أنه يسافر إلى غوا وغرناطة ونيويورك وما أبعد منها، فإنه غالباً يكون أسعد وهو جالس إلى مكتبه”.

يضيف بويرازلار أن باموق يتماهى مع علم، مثل وليم بليك كان له إسهامه الكلاسيكي في الجمع بين الكلمة والصورة “يجري باموق حوارات بين الرسام والكاتب داخل نفسه، وينتصر في نهاية المطاف للكاتب، لأن ’الروايات تعني المقدرة على الإحساس بالعالم على نحو أعمق مما يمكن أن يصوره الرسم‘”، غير أن الانتصار الذي يزعمه بويرازلار للكاتب على الرسام ليس أكيداً مثلما سيتبين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يمضي إلتشين بويرازلار فيكتب أن اليوميات تعكس إحباطاً من المناخ السياسي الاستبدادي على نحو متزايد في تركيا، “وفي معرض تناوله لتلقي إدوارد سعيد في العالم النامي يكتب باموق أن ’كتاب العالم الثالث الذين يعيشون في الغرب يجب أن ينتقدوا، يجب أن يتسنى لهم انتقاد بلادهم الأولى وشعوبهم وثقافتهم اليومية‘، لقد اضطر باموق إلى الاستعانة بحارس شخصي طوال سنين بسبب ردود الفعل على رأي صرح به عام 2005 حينما قال إن ’مليون أرميني و30 ألف كردي لقوا مصرعهم في هذا البلد وأنا الوحيد الذي يتجاسر بالحديث عنهم‘”.

كان باموق بعد ذلك التصريح تعرض للاتهام بـ”الإساءة علناً لتركيا” بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركي، في قضية لم يجرِ إسقاطها إلا بعد غضب عالمي، ويظهر حارسه الشخصي مراراً في هذه الدفاتر، مرافقاً له في خروجه من البيت.

يعود بويرازلار لمتحف البراءة الذي كان له حضور كبير في كتابه الأحدث، “والمتحف نفسه يمثل في آن واحد استعارة وشيئاً أكثر مادية، إذ يكتب باموق ’إنني أدرك الآن أن من وراء اهتمامي بإقامة متحف ـ وتأسيس صندوق خيري وما إلى ذلك ـ رغبة في أن أجعل لي موطئ قدم في تركيا، أن أقاوم تدمير وطني، أن أصمد أمام الزمن، وأشعر بانتماء أصيل إلى تركيا”.

والكتاب الجديد يمثل بطريقته متحفاً آخر لباموق، يجمع كلماته وصوره وأفكاره وانطباعاته. يكتب بويرازلار قائلاً “لقد حظيت بمتعة خاصة من النظر إلى رسومه لحجراته وطاولاته التي يكتب عليها، شعرت في تلك الصفحات بتقارب مفاجئ مع باموق، ليس لأن كلينا من تركيا، بل لأن كلينا كاتب يحمل الروايات بداخله كأنها بلاد غريبة. ولعل هذا هو المكان الذي ينتمي إليه الكتاب جميعاً، في أرض الأحلام والصور والكلمات، التي لا نشعر فيها بالخوف بل تتأجج فينا المشاعر، إذ لا نكون في وطننا إلا ونحن نكتب”.

أكثر الكتب حرجاً

وخلافاً لتقريظ بويرازلار هذا لكتاب باموق، يحمل دوايت غارنر في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في الـ25 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 بقسوة على الكتاب، فيستهل مقالته عنه بسؤال عما لو أن هذا الكتاب هو أكثر الكتب حرجاً ضمن كل كتب الحاصلين على نوبل في الأدب، أم أنه محض مجموعة رسوم لا ضرر فيها، ملونة بألوان قوس قزح، لشجرة وقارب ومدينة وبحر وجبل، تتخللها نصوص، وقد تبدو لائقة وجميلة على طاولة القهوة؟

ينقل غارنر، وهو ناقد الكتب في “نيويورك تايمز” منذ 2008 ومحرر قسم الكتب قبل ذلك لنحو عقد من الزمن، عن الكاتب الإنجليزي هنري تشانون قوله “إنني أتساءل في بعض الأحيان لماذا أكتب اليوميات أصلاً، هل لتنفيس مشاعري؟ أم مواساة لنفسي في شيخوختي؟ أم لإبهار أحفادي؟”، وينتقل إلى باموق فيقول إنه بدأ كتابة يومياته ورسمها “ليرجع إلى حبه الأول، أي الرسم”.

 

لا يرى غارنر إلا قيمة فنية متواضعة في رسوم باموق بالقلم الجاف والحبر وألوان الماء، “بعضها فخم وفي بعضها أثر من الرسوم الكاريكاتورية في مجلة ذي نيويوركر”، ويقول إن “يوميات الكتاب ودفاترهم تكتسب أهميتها من كونها، بمنزلة باب خلفي بديع إلى عقل إنسان آخر”.

“وتوفر لنا دفاتر باموق باباً من هذه الأبواب، لكنها تطلب منا أن نبقى بالخارج، فالنص في الكتاب خفيف وناعم لدرجة أنه لو نشر باسم كوتزي أو دوريس ليسنغ أو هارولد بنتر ـ على سبيل المثال لا الحصر للحاصلين مثل باموق على نوبل في هذا القرن ـ لظن المرء أن حصاناً ركلهم في رؤوسهم وأنهم لا يزالون في طور النقاهة”.

جزء كبير من هذا الكتاب يتناول رحلات النخبة، ذلك أن الحاصلين على نوبل في الأدب يتلقون الدعوات إلى الحديث في أرجاء العالم ويعيشون في ثنايا ذلك حياة رفاهية، فينعمون بأرقى العطايا المجانية، ويذهب باموق إلى برلين وبومباي وبورصة وبيفرلي هيلز وبرشلونه وجزيرة بويوكادا، ويذهب في سفينة سياحية إلى البوسفور، ولم أذكر هنا إلا سفراته لمدن تبدأ بحرف الباء، وحينما يتأخر عن موعده تنتظره الطائرات.

“يمضي باموق وقته مع كبار كتاب العالم، لكنه يصف ذلك بأكثر الأوصاف إملالاً كأن يقول إن أميتاف جوش وزوجته ’صحبتهما طيبة‘ أو يقول عن إليف باتومان وصديقتها ’وشربنا، وضحكنا، وقضينا وقتاً طيباً‘. وما كان ضعف التعليقات ليحدث ارتباكاً كبيراً لولا أن باموق كاتب، ولولا أنه في أفضل حالاته يكون ذا قوة مذهلة. وللإنصاف فبعض مقاطع الكتاب أثقل، من قبيل ما يتناول فيه الربيع العربي والإسلام والديمقراطية، ومخاوفه الشخصية الأمنية في تركيا”.

ويمضي غارنر فيلفت الانتباه إلى أن باموق يرتب دفاتره “لا وفق ترتيب زمني وإنما وفقاً لترتيب عاطفي”، ويفلح هذا، إلا حينما يظهر مع امرأة في صفحة، وفي التالية مع امرأة أخرى، ولا نكتشف حتى نصل إلى الحواشي الختامية أن باموق انفصل عن صديقته كيران ديساي وبدأ علاقة بآسلي أكيافاس التي تزوجها لاحقاً. وربما كان ليفيدنا قليلاً أن يذكر كلمة أو اثنتين عن كيفية وقوع ذلك كله” لولا أن زوجته نبهته إلى ألا ينشر “أي شيء شديد الشخصية” في كتابه هذا، ونجح في ذلك إلى حد كبير، إذ اكتفى بالكتابة عن حبه للسباحة وأكل السمك، والجلوس في المقعد الأمامي بالسيارات، وعمله دائماً في رواية جديدة، وتوبيخه نفسه إن لم يفعل ذلك”. وحتى حين يعترف بشيء، فهذا غاية ما يرد في يومياته من اعتراف: “اعتراف: ثمة شيء في المطارات الأميركية وفي السفر، وفي التنقل من مدينة إلى التالية، شيء أحبه”.

وينهي غارنر نقده الحاد بقوله إن كتاب “ذكريات جبال بعيدة” مسبح للأطفال بين يدي قارئ يحب ركوب الأمواج، فلو أنك ممن يحبون السباحة في مسابح الأطفال فسيعجبك هذا الكتاب، وهكذا تكون مقالته هذه نقيضاً تاماً لقصيدة إلتشين بويرازلار في امتداح كتاب ابن بلده، فهل من وسط بين هاتين الرؤيتين؟

بنية الكتاب مربكة

يستهل ماكس ليو استعراضه للكتاب على صفحات “فايننشال تايمز” في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 2024، بقوله إن باموق كان يحلم في نشأته الأولى بإسطنبول خلال خمسينيات القرن الـ20 وستينياته بأن يكون رساماً، ثم “في الـ22، قتلت الرسام الكامن بداخلي وبدأت كتابة الروايات”.

“وما خسره الرسم كسبته الرواية”، ولكن “الأعوام الممتدة بين عامي 2009 و2022 التي يشملها هذا الكتاب كانت مثمرة، إذ شهدت نشر باموق ثلاث روايات جديدة منها أعمال أساسية من قبيل ’غرابة في عقلي‘ (عام 2015) و’ليالي الوباء‘ (عام 2022)”.

“وتقدم الدفاتر رسوم باموق، وغالبها مرسوم بأقلام الرصاص الملونة، في وسط كل صفحة محاطة بالنص. وبنية الكتاب ابتداء مربكة، فلماذا على سبيل المثال توجد فقرة تحمل تاريخ عام 2014 متبوعة بأخرى ترجع إلى أربعة أعوام قبلها؟ وبعد 30 صفحة يفسر باموق ذلك إذ يقول ’لقد رتبت الصفحات المصورة في هذا الكتاب لا على أساس زمني كرونولوجي وإنما على أساس ترتيب عاطفي‘”.

 

لا يتوقف ماكس ليو كثيراً عما وصفه هو نفسه لعرض الصور والنصوص، لكنه ينتقل إلى قوله إن تأثير الكولاج الناتج من هذا التسلسل ينجح في جذبك إلى داخل انشغالات باموق فسرعان ما تنسى أمر التواريخ. وتحتفظ ترجمة إيكين أوكلاب لصوت باموق بوضوحه سواء أمان يكتب يومياته أو يدون شذراته الشعرية من قبيل “لو أنكم اتبعتم النهر فستصلون إلى الوادي الذي تصبح فيه الكلمات والصور شيئاً واحداً”.

“لا يتوقف باموق، البالغ من العمر 72 سنة، عن التفكير في رواياته وشخصياته وبخاصة ميفلوت في رواية (غرابة في عقلي)، فكأن هذه الشخصيات بالنسبة إليه شخوص حقيقيون. ويزاوج بين تقديم محيطه الفعلي وخياله، سواء في بلده تركيا، أو في نيويورك خلال فترة تدريسه في جامعة كولمبيا، أو زيارته لمدينة غوا مع صديقته السابقة الروائية كيران ديساي. ويكتب عن إسطنبول قائلاً “إن وظيفتي هي أن أحول المدينة إلى نص، والنص إلى مدينة”. ومثلما يدوم ولعه بمدينته فإن مصاعبه مع حكومة تركيا القومية والصحافة تدوم أيضاً. فيعلق على رسم يرجع إلى عام 2020 لمشهد بأحد الشوارع كاتباً ’ها هي المحكمة التي حوكمت فيها عام 2005 لحديثي عن إبادة الأرمن الجماعية. رمانا الناس بالحجارة في طريق خروجنا‘. ويطغى عليه إحساس الغربة وهو بالخارج، فيوعزه إلى جنسيته، وحدث له ذلك في فرنسا عام 2009 فكتب “تلك الوحشة الناجمة عن كونك موهوباً، ذكياً، مثقفاً، واثقاً في نجاحك، ومع ذلك فإنك تركي لا تزال”.

ولا يتحرج ماكس ليو من القول إن رسوم باموق تفتقر إلى أصالة كتابته، ويعترف باموق “كنت أفضل لو أن الرسام الكامن بداخلي أنضج، فهل يمكن أن يكون ذلك هو دافعي إلى الرسم؟ التوق إلى الطفولة؟”، وفي موضع آخر يعترف قائلاً “أنا روائي بكل معنى الكلمة، وكتابة الروايات تعني بالنسبة إلي الشعور بالعالم على نحو أعمق مما يمكن أن يصوره الرسم”، ويكتب ليو أنه “مما يبعث على الارتياح أن أعلم أن باموق لن يترك قلمه ويتفرغ لحامل لوحاته إلى الأبد”.

يسيطر على الكتاب في ما يرى ماكس ليو مزاج البهجة ـ تجاه الإمكانات الفنية وتنوع العالم ـ ويتجلى فيه التزام رائع من باموق بالأدب، فنثره في الكتاب يتفجر بالعفوية والطاقة، وكم أميل إلى أن أقول إن ذلك كان ليظهر دونما حاجة إلى الرسم، ولكن الكتاب بعامة جذاب، فرسوم باموق وإن تكن خفيفة بالقياس إلى كتابته، لكنها تخفف من توتر جمله وأفكاره، وتحول دون أن يكون الكتاب خانقاً.

لا أعرف كيف لم يلتفت مراجعو كتاب باموق إلى أن هذا ليس أول التفات من باموق إلى اجتماع الرسم والنص في صفحة واحدة، إذ سبق أن خصص إحدى أهم رواياته لكتاب يجمع أيضاً بين الرسم والكتابة، جاعلاً من النقاشين ـ الرسامين ـ أبطال روايته الكبرى “اسمي أحمر”، لكنه لم يستطع أن يجعل البطولة في الرواية للرسم فعلياً، إذ ظل الرسم دائماً على الهامش، إطاراً زخرفياً للنصوص، زائداً على الحاجة، وظلت البطولة دائماً للنص. فلعل باموق أراد بكتابه هذا أن يناقض ذلك، جاعلاً المركزية للرسم، أو مصالحاً بين الاثنين في صفحة واحدة. لعله أراد أن يحيي الرسام الذي قتله في نفسه في صدر شبابه، ولعل ذكريات الجبال البعيد بطريقة ما رد على “اسمي أحمر”.

العنوان: MEMORIES OF DISTANT MOUNTAINS: Illustrated Notebooks, 2009-2022

تأليف: Orhan Pamuk

الناشر: Knopf

نقلاً عن : اندبندنت عربية