في القرن الحادي والعشرين، برز الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز المحركات التكنولوجية التي تُحدث تحولات جذرية في مختلف القطاعات. وبينما تتسارع وتيرة انتشاره عالمياً، تقود القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وأوروبا سباق تطوير هذه التقنية. غير أن الاتحاد الأوروبي، رغم تميّزه بإرساء معايير أخلاقية وتنظيمية دقيقة للذكاء الاصطناعي، يواجه تحديات متزايدة في مواكبة سرعة الابتكار لدى نظرائه.

الذكاء الاصطناعي في أوروبا.. تقدم واعد بقيود تنظيمية

شهدت أوروبا خلال العقد الأخير نمواً ملموساً في مجال الذكاء الاصطناعي، تجلّى في بروز شركات ناشئة واعدة مثل “ألف ألفا” و”ميسترال إي أي”، مما يدل على الإمكانات الكامنة داخل القارة. كما ارتفع عدد الشركات الأوروبية الناشئة في هذا المجال بشكل ملحوظ، ما يعكس بيئة حيوية مليئة بالطموح التقني.

ومع ذلك، فإن التشريعات الأوروبية، وعلى رأسها “قانون الذكاء الاصطناعي” الذي طُرح لأول مرة عام 2021 واعتمد نهائياً في ديسمبر 2023، تهدف إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي ضمن إطار أخلاقي وقانوني صارم. ويعتمد هذا القانون مقاربة قائمة على تصنيف المخاطر، إذ يخضع الذكاء الاصطناعي ذي المخاطر العالية – مثل التطبيقات الأمنية والتعليمية – لضوابط دقيقة، بينما تُحظر الأنظمة التي تُعد خطيرة وغير مقبولة.

بين الضبط والانكماش: هل يكبح التنظيم طموحات أوروبا؟

ورغم أن هذا النهج التنظيمي يهدف إلى حماية الأفراد والمجتمع، فإن عدداً من مطوري الذكاء الاصطناعي يرون أنه يفرض عبئاً بيروقراطياً يعوق الابتكار، ويزيد من تكاليف الامتثال ويطيل الزمن اللازم لإطلاق المنتجات. بالمقابل، تتبع الولايات المتحدة نهجاً مرناً يركّز على المبادئ أكثر من القواعد، ما يتيح لشركاتها التقدّم بوتيرة أسرع. أما الصين، فتعتمد نموذجاً تنظيمياً مركزياً يتيح لها تسريع التنفيذ وضبط المسار داخلياً.

الركائز التنظيمية الأوروبية: نوايا نبيلة وواقع معقد

منذ عام 2018، صاغ الاتحاد الأوروبي سبع وثائق رئيسة تؤطر رؤيته للذكاء الاصطناعي، تُوّجت باتفاق سياسي حول “قانون الذكاء الاصطناعي” نهاية 2023. وقد تبنّى القانون تصنيفاً رباعي المستويات للمخاطر: من الأنظمة المحظورة، مروراً بالتطبيقات عالية ومتوسطة المخاطر، وصولاً إلى تلك منخفضة التأثير التي تخضع فقط لإرشادات طوعية.

في خطوة غير مسبوقة، تبنّى مجلس أوروبا أيضاً معاهدة دولية ملزمة قانونياً لضمان احترام حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهي معاهدة مفتوحة للدول من خارج القارة أيضاً.

المعوقات الهيكلية والمالية: هل تقوّض قدرة أوروبا على المنافسة؟

تشكل المتطلبات التنظيمية الصارمة تحدياً مباشراً للشركات الأوروبية الناشئة، إذ ترفع كلف الالتزام وتضعف من قدرة هذه الشركات على التوسع والابتكار. كما أن ضعف التمويل في هذا المجال مقارنة بما يتوفر في الولايات المتحدة أو الصين يفاقم من صعوبة المنافسة. وعلى الرغم من امتلاك أوروبا لبنية تحتية متقدمة في قطاعات الاتصالات والأجهزة، فإنها لم تحقق نفس النجاح في إنشاء شركات تقنية عملاقة أو تطبيقات استهلاكية واسعة الانتشار.

التحدي والفرصة: ما مستقبل الذكاء الاصطناعي في أوروبا؟

ورغم هذه التحديات، فإن أوروبا لا تزال تمتلك قاعدة علمية وتقنية قوية يمكن البناء عليها. ولعلّ السبيل إلى اللحاق بالمنافسين يكمن في تحقيق توازن فعلي بين حماية القيم والحقوق، وتعزيز بيئة محفّزة للابتكار والتمويل، تسمح بتحويل الطموح إلى واقع عالمي تنافسي.