يرى الأكاديمي وعالم الاجتماع اللبناني فريدريك معتوق في كتابه “أي علم اجتماع عربي نريد” (منتدى المعارف 2024) أن ابن خلدون رائد مؤسس، وأن الفكر العالمي السابق له لم يشهد، لا في الصين ولا في الهند ولا في الغرب أحداً أسس لهذا العلم مثله. فعلم الاجتماع الدوركايمي، في رأيه، ليس أقوى وأعمق من علم العمران البشري الخلدوني، ذلك أن الأول يحصر نفسه في الظاهرة الاجتماعية التي يدرسها، بينما مفهوم العمران البشري يشمل الشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والديني والفني على السواء. وفيما تأسس علم الاجتماع الغربي على مفهوم مركزي، ولما يزل ساكناً فيه، هو مفهوم الطبقات، نرى أن التركيب الاجتماعي عندنا لا يقوم على هذا المفهوم، بل على مفهوم الجماعات، المعشش في أعماق وعينا الجمعي.

بالمقارنة مع أوغست كونت (1798 -1857)الذي عايش الثورة الفرنسية 1789 والثورات العمالية العنيفة 1848، وأطلق تسمية علم الاجتماع على هذا العلم المنبثق من الفلسفة الوضعية، وكان له الفضل في فصل التفكير السوسيولوجي عن التفكير الفلسفي، ونزع فتيل الانفجار الطبقي الحاد بدعوته إلى التكامل الاجتماعي والوطني والمدني العابر للطبقات، يذهب معتوق إلى أن العلامة العربي ابن خلدون أطلق بين عامي 1375و1377 علماً جديداً اسمه علم العمران البشري، وهو بذلك أب المقاربة السوسيولوجية في تاريخ الفكر العالمي من دون منازع، لكنه لم ينل حقه بالكامل لا من أهله ولا من زمنه. فبفضله وإسهامه الفكري المتميز بتنا نملك اليوم مفتاح الظاهرة الاجتماعية العربية المعاصرة وشيفرة طرائق التفكير الخاصة بالجماعات العربية المتفرقة التي نطلق عليها اليوم تسمية “المجتمعات العربية”. وكان ولا يزال الأقوى في فهم ما كان يجري إبان القرن الرابع عشر وقبله، وهو لا يزال راهناً، حياً يرزق، قادراً على تفسير دينامية عمراننا البشري. ولذلك هو عالم اجتماع حقيقي تمكن من اختراق البنية المعرفية خاصتنا، وخصوصاً جميع المجتمعات قبل أن تدخل عليها ثورة الحداثة الغربية، مما يضعه في خندق فكري واحد مع “أوغست كونت”. فقد عمل “كونت” على فصل علم الاجتماع ابستمولوجيا عن الفلسفة، وقام ابن خلدون بالأمر نفسه مع المؤرخين الذين كانوا ينقلون أخباراً وحكايات تعوزها الدقة، وفي حين تردد كونت في تسمية العلم الجديد بعلم الاجتماع، لم يتردد ابن خلدون في تسميته “علم العمران البشري”.

وبالفعل، لم يكن ابن خلدون سباقاً في مستوى الثقافة العربية فحسب بل على المستوى العالمي بهذا الإجراء العلمي الرفيع، إذ إنه حقق في أدق وأهم مفهوم هو مفهوم “العصبية” الذي أولاه مكانة وأولوية سوسيولوجية من ملاحظته الثابتة والبنيوية في حياة العرب، وبالانطلاق من تركيب المجتمع التقليدي الذي يعيش ويعمل فيه، ويعبر عن روحه باعتباره مجتمعاً مبنياً على الجماعات الإثنية، لا على الطبقات الاجتماعية الاقتصادية.

في قراءته لأطروحة طه حسين عن ابن خلدون رأى معتوق أن طه حسين يصر على اعتبار ابن خلدون فيلسوفاً، بينما أكد ابن خلدون نيته باستنبات علم جديد سماه علم العمران البشري، فهو لا يفلسف الأفكار بل يلاحظ الوقائع ويبني عليها أفكاراً وقواعد نظرية، وهو لا يحسب نفسه فيلسوفاً، مع احترامه للفلسفة وإسهاماتها، مما يقربه من صفة عالم اجتماع التي هي صفته الموضوعية المستحقة. وهكذا لم تكن الكلمات المفاتيح في المقدمة من جوهر فلسفي، بل جاءت بمضمون سوسيولوجي، إذ تطغى مفاهيم العصبية والغلب والعمران، ومن دون استكشاف أبعاد هذه النظرية المبتكرة لا مجال للتعامل السوي مع مشروع ابن خلدون.

بالنظر في ما بين ابن خلدون ومونتسكيو (1689-1755) من اتفاق، ذهب معتوق إلى أنهما يتشاركان في الانتساب إلى أسرة نبيلة ذات جاه سياسي وثقافة واسعة في الفقه والقانون. ورأى أن الاثنين تاقا إلى بناء عمران بشري وتقدم أنظمة الحكم، تحت قبة الإيمان الديني. فإن مونتسكيو القائل بالعقلانية أعاد الخلل في انتظام القوانين عبر العالم إلى نظرية المناخ التي جاءت معه، بصورة حتميات واستنتاجات على قاعدة ثنائية الشرق والغرب التي انتهت إلى العنصرية وتبرير العبودية، فيما لم يكن ابن خلدون عنصرياً بل تفاعل مع الحضارات كلها على أساس المساواة.

الإسهام الخلدوني في دراسة المجتمعات الإنسانية

يتمثل الإسهام الخلدوني في البحث السوسيولوجي، في رأي المؤلف، في أنه قدم للمرة الأولى في تاريخ هذا العلم تقنية تقضي بأن ينغمس الباحث في بنية اجتماعية بغية درسها والتعرف إليها من الداخل، وفهم المنطق الذي يسوس سلوكها في نهاية المطاف. باعتماده هذه التقنية، وبعد أن خالط القبائل والعشائر، خلص إلى القول بمركزية مفهوم العصبية وأولويته في الدولة التقليدية، وإن “غاية العصبية الملك”. وإذا كانت استخلاصات ابن خلدون النظرية، لا تصح إلا على المجتمعات القديمة ولم تعد تصح في المجتمعات الصناعية الغربية، إلا أن ابن خلدون لاحظ أن ميزة القبائل المتجسدة في مفهوم العصبية لا تنحصر فقط في أهل البادية، بل تنسحب أيضاً على أهل الحضر، كما أن الدعوة الدينية تضاعف قوة حضورها الاجتماعي في الحرب كما في السلم.

وهكذا فالعصبية هي المفهوم التأسيسي لنظرية العمران البشري الخلدونية، وهي مفتاحها المركزي المنهجي، ولا مجال لفهم علم العمران الإنساني الخلدوني من دون إعطاء العصبية حقها، إذ إنها قادرة على إماطة اللثام راهناً عن ظاهرات مجتمعية عربية كبرى. فالعصبية غدت مع ابن خلدون مفهوماً عمرانياً بامتياز يربط العصبية بالعمران الحضاري البشري ككل، ويجعلها مفتاحاً معرفياً مركزياً لتفكير وسلوك أهل البوادي وأهل الحضر على السواء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

برؤيتنا الشاملة للكتاب نرى أنه يتميز بالموضوعية والثراء في المضامين والأفكار والطروح، وقد أماط اللثام عن كثير من الفرضيات غير الواقعية إن بصدد علم الاجتماع في العالم العربي، أو لجهة قراءة المثقفين العرب لفكر ابن خلدون وطبيعة تفكيره وتوجهاته الحقيقية التاريخية، فضلاً عن أن الكتاب صيغ بأسلوب يخاطب الأكاديمي ودارس العلوم الاجتماعية والقارئ العادي.

إضافة إلى ذلك كله يدخل الكتاب في سجال غير معلن مع المثقفين العرب والأجانب في وجوه ومسائل متعددة إن لجهة الفصل بين علم الاجتماع والفلسفة، أو لجهة طبيعة تعامل عالم الاجتماع مع الظاهرات الاجتماعية. فهل ابن خلدون مؤرخ من القرن الرابع عشر كما رأى طه حسين، أو هو رائد علم الاجتماع في العالم العربي، هل ينتمي ابن خلدون إلى الفكر الغربي أم إن عالمه يرتبط بالقرآن و”ألف ليلة وليلة” أكثر من ارتباطه بالتاريخ الحديث؟ هل كانت غاية ابن خلدون تقديم نفسه مؤسساً لعلم الاجتماع أم لتأكيده أن التاريخ الإسلامي محكوم عليه بالصعود والهبوط، ما لم تتبع البشرية أحكام الشريعة؟ هل هو سابق بأفكاره أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية كما رأى الباحث النمسوي فون كريمر؟ هل هو مؤرخ بالمعيار الحديث أو مؤرخ من القرن الرابع عشر كما عده طه حسين؟ هل تعود سمعة ابن خلدون إلى ثناء المستشرقين كما يرى عزيز العظمة، في حين لم يكن أصيلاً في تفكيره ولا عالم اجتماع ولا سباقاً في أفكاره؟ هل كتب ابن خلدون لنا أو لتاريخه وزمنه؟ هل في “المقدمة” ما يتفق مع المبادئ الماركسية، كما رأى بعض المعاصرين، أم إن مفهوم “العصبية” الخلدوني أسهم في جمود المجتمع العربي كما رأى آخرون؟ وهل في فكر ابن خلدون ما لا يزال راهناً في عصر العولمة؟ هذه الأسئلة وسواها قاربها أو ناقشها المؤلف، وأزاح كثيراً من التأويلات الخطأ والاستنتاجات الملتبسة ليعيد للدراسات الاجتماعية مكانتها المميزة في الفكر العربي، ولابن خلدون ألقه كرائد مؤسس من رواد علم الاجتماع، جنباً إلى جنب مع فيبر وكونت ودوركهايم، مما يفتح آفاقاً لمناقشتها في العمق.

نقلاً عن : اندبندنت عربية