في الوقت الذي يرحل فيه عام 2024 يقفز التساؤل على نطاق واسع في السياقين الداخلي والخارجي بشأن مدى إمكانية الوصول إلى محطة السلام بالسودان، في ضوء استمرار التعقيدات على المستوى الداخلي بين أطراف الصراع، وذلك إلى حد وجود اتجاهات بتكوين حكومة منفى في منطقة غرب السودان، الأمر الذي يعني عملياً إعلان تقسيم البلاد، لكن بلا علم ونشيد.
مؤشرات وقف إطلاق النار تكاد تقتصر على المجهودات الدولية والإقليمية، التي من المتوقع أن تُستأنف مع تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب مقاليد الحكم مطلع العام الجديد، إذ جرى التمهيد لتلك الخطوة في اجتماع عُقد في روما على هامش قمة السبع بين الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، وذلك بعد أن فشلت بريطانيا في تمرير مشروع لوقف إطلاق النار من مجلس الأمن الدولي، وذلك بعد أن مارست موسكو حق الفيتو ضد مشروع القرار، في إطار صراعها مع واشنطن، رداً على السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ طويلة المدى من جانب الغرب، وهو الأمر الذي رحبت به أطراف المجلس السيادي السوداني على نحو ما، على اعتبار أن مشروع القرار البريطاني ثمرة تشاور بين رئيس الوزراء المدني عبدالله حمدوك، الذي يترأس حالياً تحالف للمعارضة “تنسيقية تقدم”، وهي ثمرة يرفض الجيش أن تحتسب للمعارضة المدنية.
السودان يعيش الاستقطاب
على صعيد موازٍ يقود رمطان لعمامرة، المبعوث الأممي للسودان، مجهوداً لتنسيق المبادرات بين المنظمات المعنية بمجهودات السلام في السودان، وهما الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والإيجاد، فضلاً عن الأمم المتحدة بطبيعة الحال، إذ نجح في عقد ثلاثة اجتماعات بهذا الشأن في كل من القاهرة وجيبوتي وغانا، أطلع نتائجهم على الفريق عبدالفتاح البرهان أخيراً في بورتسودان، الذي أعلن بدوره توافقاً مع هذا المجهود الأممي، لكن من دون أن يوضح آليات محددة لهذا التوافق وطبيعة موقفه من تفاصيل الرؤية الأممية.
على المستوى الإقليمي فإنه يحاول أن يمارس دوراً بشأن بلورة معادلة اليوم التالي للحرب، وذلك بمحاولة خلق توافق بين القوى المدنية السودانية، لتحديد أطراف العملية السياسية السودانية، التي هي أحد أهم قضايا الصراع السياسي السوداني حالياً، على اعتبار أنها ترسم موازين القوى الداخلية في المستقبل القريب. وقد بدأ هذا النوع من المجهودات في القاهرة يوليو (تموز) 2024، ومن المنتظر أن يستكمل في مطلع 2025 باجتماع ثانٍ في القاهرة أيضاً، من المنتظر أن يجري فيه توسيع الطيف السياسي السوداني الحاضر فيه.
أما على مستوى السعودية فقد أكدت الرياض في الاجتماع التشاوري الثالث بين المنظمات المتعددة الأطراف الراعية مبادرات السلام في السودان موقف يجري التعبير عنه في كل المنصات الدبلوماسية، وهو ضرورة إنهاء الصراع وتعزيز الاستجابة الإنسانية فيه، والعمل على تمهيد مستقبل سياسي يضمن أمن السودان واستقراره، وصيانة وحدته وسيادته واستقلاله.
التحدي الرئيس الذي يواجه هذه المجهودات حالياً هو طبيعة التفاعلات الداخلية السودانية التي ما زالت تحافظ على حالة الاستقطاب الحاد، ولم تنجح في تجاوزها على رغم الخسائر التي ترتبت على هذه الحرب، والمرجح أن تدور حول 150 مليار دولار، فضلاً عن التكلفة الإنسانية الباهظة، من نزوح داخلي ولجوء خارجي لغالبية السكان الذين فقدوا مقدراتهم الذاتية تماماً بما جعل نحو 60 في المئة من مجمل عدد السكان السودانيين قيد معاناة الجوع.
ويمكن رصد بعض مظاهر الاستقطاب السياسي أخيراً بين أطراف الصراع السوداني في أنه على رغم الانتصارات التي حققها الجيش أخيراً في بعض مناطق الخرطوم وأم درمان، فضلاً عن مناطق بشرق ووسط السودان، فإنه يتبنّى سياسات تعزز الاستقطاب الداخلي العسكري والسياسي، وأيضاً الاجتماعي، ولا تقلل منه، وذلك في سياق سياسات مثل إصدار قانون تغيير العملة السودانية، في محاولة لتجفيف مقدرات قوات “الدعم السريع” وحواضنه الاجتماعية على الصعيد المالي، وذلك في تجاهل لحقيقة أن قطاعات واسعة من الشعب السوداني تقطن في الولايات التي تحت سيطرة “الدعم السريع”، كما أن بعض هذه الولايات منتجة موارد ثمينة، مثل الذهب والصمغ العربي، بالتالي هناك إمكانية للتعامل بعملات أخرى في هذه المناطق، كما تشكل الممارسات من جانب بعض المحسوبين على القوات النظامية والمترتبة على قانون الاشتباه معولاً قوياً في جدار التماسك الاجتماعي السوداني على هشاشته، حيث يجري الاستناد في تنفيذه إلى شكل الوجوه ولهجاتها اللغوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكومة منفى للمعارضة
على صعيد موازٍ، فإن المؤتمر الأخير لتحالف المعارضة “تنسيقية تقدم”، الذي عقد في كمبالا، لم يواصل العمل في إطار ترسيخ فكرة المائدة المستديرة، التي جرى طرحها على استحياء في مؤتمر سبقه، بما كان يعني إمكانية إدماج أطراف من عناصر الإسلام السياسي السوداني في عملية حوار وطني سوداني مطلوبة بإلحاح لترتيب معادلة سياسية داخلية يمكن أن تسهم في وقف الحرب.
وعلى العكس من الاتجاه نحو لملمة أطراف العملية السياسية فإن اجتماع “تقدم” قد طرح فكرة حكومة للمنفى للمعارضة، وهي فكرة غير مسبوقة في تاريخ الصراعات السياسية السودانية في دولة الاستقلال الوطني منذ نشأتها عام 1956.
فكرة حكومة المنفى يتبناها المكون الدارفوري في تنسيقية تقدم مع تنويعات جهوية أخرى، ومن هؤلاء أعضاء سابقون في المجلس السيادي ووزراء في حكومتي عبدالله حمدوك، فضلاً عن دعم غير معلن من قيادات رفيعة المستوى في أحزاب سياسية.
ويطرح هذا الاتجاه فكرة تشكيل حكومة منفى للمعارضة تقوم بنزع الشرعية عن حكومة الفريق عبدالفتاح البرهان، وتقوم بتمثيل كل المجموعات الرافضة الحرب، والداعية إلى العودة للمسار الديمقراطي. وذلك استناداً إلى أن قوات الجيش السوداني لا تسيطر على أجزاء كبيرة من السودان، ولذلك يجب استغلال هذه الوضعية، وممارسة سلطة مدنية تقوم بمهام وظيفية للسكان من تقديم للخدمات والرعاية للمواطنين خارج سيطرة حكومة بورتسودان في ضوء المعاناة الهائلة التي يواجهها المدنيون حالياً من ناحية وممارسات قوى الإسلام السياسي المساندة الجيش من ناحية أخرى، التي تشيطن القوى السياسية السودانية على أسس العمالة للخارج.
وعلى رغم التحديات التي تواجهها فكرة حكومة المنفى السودانية المقترحة والممثلة في الاعتراف بها أولاً، ثم ضمان التمويل المستمر لها ثانياً، فضلاً عن وجود كوادر فنية مؤهلة لتسييرها ثالثاً فإن المشاورات بشأن هذه الحكومة جارية حالياً على قدم وساق في كل من كينيا بدعم مرجح من دولة عربية تساند الفكرة، وكمبالا التي تستعد لعقد مؤتمر لتنسيقية تقدم لمناقشة هذا المقترح، وقد جرى اختيار مدينة الضعين عاصمة لحكومة المنفى السودانية في هذه المشاورات، وهي الواقعة في شمال غربي جنوب السودان وقريبة من الحدود التشادية.
انقسام المعارضة عرقياً
وطبقاً لهذه المجريات فإن انقسام تحالف المعارضة قد يكون متوقعاً في مؤتمره المقبل المقرر في كمبالا في غضون أسابيع، إذ إنه من المؤسف أن هذا الانقسام المتوقع في تحالف المعارضة سيكون ملمحه الأساسي ملمحاً عرقياً، وهو الأمر الذي يؤسس إلى انقسام فعلي في السودان على أسس عرقية أيضاً من المرجح أن يكون في كيانات متعددة على الجغرافيا السودانية.
في ضوء هذه المعطيات فإن الحرب السودانية تبدو أنها ممتدة خلال عام 2025 الذي يطرق أبوابنا، ذلك أن المجهودات الدولية والإقليمية، وإن نجحت في محاولة تدشين منصة تفاوض بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منطلقة من تفاهمات منبر جدة فإن الانقسام المجتمعي بات أسرع، ويعبر عن نفسه، ويملك أدوات تنفيذه من دعم إقليمي- أفريقي– عربي.
لكن ربما يكون الغائب عن ذهنية أصحاب فكرة حكومة المنفي، أن هذا الدعم الظاهر لفكرتهم هو دعم موقت ومرتبط بترتيبات دولية متغيرة، وأن هذا النوع من الحكومات لن يحظى بدعم شعبي سوداني، بالتالي، وفي التقدير سوف تشهد حكومة الضعين مصير الحركات المسلحة الدارفورية، التي عاشت على وقع التجزئة والانقسامات من دون القدرة على تقديم بديل حقيقي للناس يمكن أن يستندون إليه في معاشهم اليومي، وبالتأكيد لا يراهنون عليه في مجهودات التحول الديمقراطي، التي يجري استخدامها واجهة لحالتي الانقسام المجتمعي والطموح السلطوي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية