ثلاث دقائق سيراً على الأقدام تفصل بين صالوني تصفيف شعر معروفين في منطقة المهندسين بمحافظة الجيزة المصرية، أحدهما يقع في أول الشارع والآخر قبيل نهايته، لكن الدقائق الثلاث هذه تعني كثيراً بالنسبة إلى رواد المكانين، وتساوي كثيراً في ما يتعلق بالأموال المدفوعة للخدمة المقدمة، إذ ستتكلف الزائرة ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف حينما تقص شعرها لدى “جيو”، مقارنة بعمل الشيء نفسه لدى “رفعت”، مع العلم أن مستوى النتيجة النهائية الاحترافية واحد تقريباً.
الاختيار هنا تتحكم فيه عوامل متعددة، من ثم لا يمكن اختصار سبب تفضيل بعض المصريات التعاون مع الكوافير اللبناني أو غيره من الجنسيات مقارنة بالمصري في نقاط صارمة، إذ تتحكم الذائقة أو طريقة عرض الخدمة وفن التسويق والسمعة والصورة الذهنية في هذا القرار المهم للغاية، والمرتبط بتعقيدات كثيرة في حياة النساء.
الأحكام هنا من الصعب أن تكون مطلقة في ما يتعلق بالأسعار على وجه التحديد، فقد يزيد السعر بمقدار بسيط للغاية أو قد يزيد أيضاً على الضعفين والثلاثة. كما أن هناك بعض مصففي الشعر المصريين يتقاضون أجوراً عالية للغاية مقارنة بجنسيات أخرى، لكن هذا في ما يتعلق بالأسماء البارزة وأصحاب العلامات التجارية.
الأمر كذلك تتحكم فيه فكرة الانتشار والتوافر، فالكوافير الذي يستعين بعمالة مصرية كاملة، ويروج لصالونه باسمه موجود ومتوافر في كل الأحياء بمستوياتها الطبقية المختلفة، بينما نظراؤه من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين فهم أقل عدداً بكثير، ويفتتحون فروعهم في أحياء بعينها وعادة تكون فوق المتوسطة، لأنهم يستهدفون جمهوراً معيناً، فإن تساوت الأسعار خلال بعض الأوقات فإن الإقبال عادة لا يتساوى، إذ تختار النساء بصورة عامة الحصول على لمسات في مجال تجميل البشرة وتصفيف الشعر من أنامل مستوردة، إن جاز التعبير، رغبة في التجريب أو التباهي أو بحثاً عن جودة أعلى أو حتى جرياً وراء الـ”ترند”.
ولا توجد إحصائية توضح عدد صالونات تصفيف الشعر التي يقوم عليها مزينون من جنسيات مختلفة، لكن بصورة عامة ووفقاً لشعبة الكوافير هناك ما يزيد على مليون صالون رجالي ونسائي توفر ما يزيد على مليوني فرصة عمل، وبعيداً من الإحصاءات فحتى الصالونات الصغيرة لا توظف أقل من أربعة أشخاص، من ثم فعدد فرص العمل مرشحة للزيادة إلى ما هو أكثر من هذا الرقم بكثير، فالمراكز الضخمة قد تضم 10 أو 20 ويزداد العدد بحسب ضخامة المكان ومتوسط عدد زبائنه.
وعموماً يرحب المصريون بالتعاون مع الجنسيات العربية في خدمات كثيرة، لا سيما من هذا النوع، من ثم فمنذ عشرات الأعوام حقق مصففو شعر لبنانيون وسوريون وفلسطينيون الشهرة، وأصبح لديهم زبائنهم في عديد من أحياء القاهرة والجيزة والتجمع الخامس والسادس من أكتوبر ومصر الجديدة والمعادي وغيرها، إذ بنوا سمعتهم وسمعة المحال التي ارتبط اسمهم بها بناء على عدة نقاط تميز، وكثيرات كن يتسابقن للتعاون معهم.
“ليس لدينا رفاهية الفشل”
الكوافير النسائي غير المصري والمنحصر عادة في جنسيات محددة مع تفوق نسبي للبناني سواء بالسمعة أو القبول أو الأقدمية، فإن صالونه عادة لا يعتمد على جنسية محددة بصورة حصرية، إذ يوظف عمالاً “صنايعية” مصريين كثراً معه، إضافة إلى بني وطنه بينهم “رامي” وهو لبناني قدم إلى مصر منذ نحو 20 عاماً، وتميز في مهنته.
ويقول رامي “أبحث عن الصنايعي الشاطر ولا تهمني جنسيته ولدي هنا مجموعة من أمهر المصففين المصريين، وعلى رغم أن الكوافير يحمل اسمي لكنني نادراً ما أقوم بالعمل، إذ لدي أكثر من فرع أتناوب عليها وعلى رغم ذلك زبائني يأتون ويحصلون على خدمة رائعة من المصففين الشباب”.
السمعة التي بناها رامي جاءت بناء على معايير محددة وخطة جعلته ينجح، من ثم فكل العاملين معه يلتزمون المعايير التي وضعها، لافتاً إلى أنه يقدر ثقة زبوناته، لذا يحافظ على نظام ثابت للمحل سواء في مواعيد بدء العمل، أو نوعيات المستحضرات المستخدمة، وكذلك مستوى معين في الديكورات، وأيضاً النصيحة الأمينة للغاية المبنية على معرفة، إذ إنه يحصل على دورات بصورة مستمرة لمتابعة كل جديد ومفيد أيضاً، لأن صحة الشعر هي الأساس بالنسبة إليه لا المظهر فحسب.
ومحاولاً تفسير سر نجاح مصففي الشعر اللبناني في مصر بأن الأمر ربما يعود في رأيه إلى الحرص الشديد جداً على السمعة الإيجابية، وبخاصة أنه وزملاءه القادمين من بلاد أخرى في النهاية “مغتربون” وليس لديهم رفاهية الخسارة، إذ يستقتلون كي يثبتوا جدارتهم وتحقيق النجاح والربح. ووفقاً لكلامه فعلى ما يبدو أن السمعة باتت متوارثة وتلقائية، ويجري ربطها بأي كوافير من نفس هذه الجنسيات.
ما يقوله رامي الذي يقترب من الـ50 من عمره، تعبر عنه زينة من وجهة نظر الزبونة التي تتلقى الخدمة. وزينة موظفة في مؤسسة مالية مرموقة وتفضل أن تصفف شعرها لدى صالون شهير عرف بسمعة مزينه الرئيس فلسطيني الجنسية الذي يعمل لديه مصففون من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر.
وتلخص المرأة المصرية سبب تفضيلها الحصول على خدمة شعرها لدى هذا المركز، قائلة “مبدئياً في ما يتعلق بالأسعار فالأمر في مستوى معين لا يختلف، ومراكز تصفيف الشعر المصرية الكبيرة ندفع فيها أرقاماً كبيرة أيضاً، إذ قد تصل خدمة الصبغة إلى ما يوازي 150 دولاراً للشعر القصير، وهو نفس معدل ما أدفعه وصديقاتي للخدمة نفسها وبالمستوى نفسه أيضاً في الصالون الذي أتردد عليه”.
لكن زينة تعود وتقول إنها تتعاون “مع مصفف عادة يجيد فن تقديم النصيحة، فإذا طلبت اعتماد لون صبغة معينة يحاول إظهار عيوبها وميزاتها ومدى ملاءمتها لنوع شعري ولون بشرتي بأمانة شديدة، ويختارون معي لوناً بديلاً يؤدي الغرض دون التعرض للتلف، واختبرت نصائحهم أكثر من مرة وكانت فعالة تماماً، وعلى رغم تميز الكوافير المصري في مستوى النتيجة النهائية، لكنهم في الغالب ينفذون ما تطلبه الزبونة دون مناقشة”.
الجنسية ليست العامل الوحيد
ليس من السهل وضع أحكام مطلقة في ما يتعلق بمهنة مثل هذه تعتمد على التعامل الشخصي المباشر وهناك عوامل كثيرة تتحكم في فكرة التفضيل، كما أن الطبائع مختلفة سواء من مقدم الخدمة أو مستقبلها، وما يريح هذا الزبون قد يضايق الآخر، ولهذا يرى هاني شاب مصري ورث المهنة والصالون الضخم الذي يقع في حي مصر الجديدة عن والده أن فكرة السمعة أمر فردي، ولا تخص جنسية بعينها.
ويقول هاني “لدي زبائن هنا من مختلف الجنسيات التي تقيم في مصر بينهم لبنانيون وسوريون، إذ يتركون كوافيرات بني أوطانهم ويفضلون التعاون معي على رغم تقارب ثمن الخدمة، وذلك لأنهم يضمنون الحصول على نتيجة ممتازة ويثقون في كل المصففين لدي هنا. لأن ما يهمنا هو الحفاظ على الزبونة على المدى البعيد، من ثم نمنحها أفضل مظهر شعر ملائم لوجهها، ونجتهد أن لا يتضرر شعرها، وعادة زبوناتنا تترك لنا حرية الاختيار لخبرتنا الكبيرة في هذا المجال ولثقتهن التي بنيناها على مدى عقود”.
ويشير المصفف المصري إلى ظاهرة كانت انتشرت قبل أعوام قليلة متعلقة بإقبال بعض مصففي الشعر سواء الرجالي أو الحريمي على إغلاق محالهم بحجة عدم الإقبال وتفضيل صالونات جنسيات أخرى، بأنه من واقع خبرته فمن يقدمون على هذا الأمر غير مخلصين لمهنتهم، ولم يحرصوا على تطوير أنفسهم أو مجاراة السوق ومعرفة كل جديد به، من ثم فهذه الحجة في رأيه شماعة يلقون عليها كسلهم، على حد تعبيره.
ويوضح قانون هذه السوق من واقع معايشته “كما أن مسألة أجر المصفف تختلف وفقاً لمستوى التجهيزات لديه، ومستوى الماركات التي يستعملها وأيضاً خدمته والحي الذي يعمل به، وهو أمر ينطبق على أي صالون مهما كانت جنسية صاحبه، على رغم أنني أعتقد أن لدى بعض عقدة الخواجة التي تجعله يفضل مصففاً من جنسيات غير مصرية، لكن في المقابل بما أن أعداد الزبائن أكثر بكثير من الصالونات فالجميع يأخذ رزقه، والجميع يصبح مرضياً لا سيما في المناسبات إذ تقف الزبونات بالطوابير ويبحثن عمن ينجز المهمة بصورة سريعة دون قائمة انتظار طويلة”.
فن الكلام والتسويق الجيد
هذه السوق المعقدة تعتمد بصورة أساس على فكرة التسويق الشخصي، وكما نجح السوريون خلال وقت قصير في تصدر قائمة المطاعم الأكثر رواجاً في مصر لأسباب متنوعة بينها شعور الزبون بالاهتمام وتقديم قائمة طعام مرضية مقابل مبلغ مالي معقول، وكذلك الاعتماد على أصناف ليست شائعة، تبدو أيضاً مهنة الكوافير شبيهة في عدة جوانب.
تقول ليلى موظفة في قسم الموارد البشرية بإحدى شركات التكنولوجيا “أتعاون مع كوافير به عمالة مختلطة من عدة جنسيات، وأجد عادة أن الكوافير اللبناني أو السوري سواء كان امرأة أو رجلاً يجيد الكلام، ويجيد فن تسويق نفسه بطريقة غير مباشرة، ويتواصل بطريقة مميزة دون إلحاح ويعرف كيف يقرأ طبيعة الشخصية التي يتعامل معها، وبناء عليه يحدد أسلوب كلامه أو حتى يصمت تماماً، وهذه الملاحظة ليست عابرة فقد تكررت مع صديقات لي، وكذلك مقارنة بمصففي شعر مصريين كثر سبق وتعاملت معهم وهم على رغم جودتهم لكن ليس لدى كثير منهم موهبة الترويج بهذه الطريقة، كما أن النتيجة التي أحصل عليها في كوافير لبناني متوسط المستوى توازي ما تقدمه لي الصالونات الفاخرة الباهظة”.
وقبل أعوام اشتعلت مواقع التواصل في مصر، بعد افتتاح صالون تصفيف شعر يحمل اسم مصفف لبناني من الأشهر في هذا المجال، وكان الأمر يتعلق بمهارته الكبيرة في مجال صبغات الشعر على وجه التحديد التي تصل كلفتها لديه إلى 250 دولاراً، وربما أكثر وفقاً لطول ونوع الشعر وهل سيحتاج إلى سحب اللون للوصول إلى الدرجة المطلوبة أم لا، وكان سعر الدولار حينها يقترب من 20 جنيهاً.
وعلى رغم أن المبلغ كان كبيراً بالنسبة إلى الشائع في ذلك الوقت مقارنة بأسعار غالبية الصالونات شبيهة المستوى، فإن الحملة الدعائية نجحت في أن تصل إلى شريحة كبيرة من النساء الشغوفات بهذه التجربة التي كان يُروج لها على أنها خاصة جداً في ما يتعلق بالدرجات اللونية غير التقليدية التي تنفذ ببراعة ودقة وبأجود الخامات، وتضمن أن تكون النتيجة شبيهة بمظهر نجمات السينما العالمية.
هذه التفاصيل جرى استغلالها بصورة جيدة وتعززت بعدة فيديوهات لنجمات الفن يستعرضن جمال شعرهن بأنامل المصفف اللامع، مما يشبه تماماً ما كان يحدث منذ أعوام طويلة في مجلات الموضة الورقية، إذ يجري الترويج للكوافير اللبناني أو الشامي على أنه أكثر اطلاعاً على صيحات الموضة وسفراً للخارج وتعاملاً مع زبائن لديهم معايير عالية، من ثم كان من الطبيعي أن تشهد صالوناتهم في مصر إقبالاً كبيراً بصورة ملحوظة ويحصلون على تقييمات عالية وأجوراً ضخمة بالتبعية، والأمر نفسه ينطبق على صالونات التجميل والمكياج.
عوامل نفسية وذكاء اجتماعي
لكن في عصر بات الاتصال بالعالم فيه والتعرف على أحدث صيحات الموضة في الملابس والتجميل والشعر أسهل ما يكون، لماذا تبقى هذه الأفضلية على وضعها نفسه بالنسبة إلى بعض؟ ترى ليلى أن التجربة خير دليل، ولأن احترافية التعامل وطريقة تقديم الخدمة قد تكون أهم من الخدمة نفسها بالنسبة إلى كثيرات، بحسب وجهة نظرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتابع الأم الأربعينية “الأسلوب الذي يتواصل به الكوافير أسلوب شخصي للغاية، وذكاؤه في التواصل يخلق له فرصاً أكبر مع الزبائن فيقمن بترشيحه لبعضهن بعضاً وهكذا، من ثم يتوسعون في السوق عاماً بعد آخر، خصوصاً حينما يعطون نصيحة مقنعة وليس فقط من أجل استنزاف الزبونة، والحقيقة أن الكوافير الشامي يبدو على دراية بأمور أكثر من مجرد تصفيف الشعر. أنا ألاحظ أن كثيراً منهم يعدون خبراء في المظهر ولديهم وجهة نظر ورؤية في ما يليق مع الوجه ومع نوع الإطلالة وهكذا، وأعتقد أن هذا ذكاء منهم، فلا يكتفون فقط بمهارة أيديهم التي قد يتفوق فيها المصريون، إنما تقديم نصائح أخرى إضافية تتعلق بالمظهر”.
وتكمل موظفة الموارد البشرية كلامها بتأكيد أن أسعار الكوافير غير المصري عادة أعلى نظراً إلى اهتمامهم بمستويات معينة من الموظفين والديكور، كما أنهم أخيراً باتوا يركزون على فتح فروع لهم متاخمة للتجمعات السكنية الفاخرة، إذ يستهدفون شريحة معينة لتحقيق الربح.وتختتم المرأة المصرية تعليقها بالإشارة إلى عادة معينة تنتشر بين بعضهن “هناك من يعتقدن أنه كلما زاد السعر في مجالي التجميل والشعر كانت النتيجة أفضل ومن دون أضرار، بعكس الأسعار المخفضة التي قد يتشكك بعض بأن أصحابها يستعملون مواد رخيصة غير مطابقة للمواصفات”،
هذه النقطة التي قد تندرج تحت البند النفسي وهي نقطة مهمة تحرك قرارات كثيرات في هذا المجال، إضافة إلى أن التركيز على بنود محددة في الحملات الدعائية، سواء كانت احترافية أو يقوم بها المصفف نفسه بمجهوده ومجهود من يعملون معه، ربما خلق بالفعل صورة ذهنية راسخة في الأذهان جعلت مصففي الشعر اللبنانيين وغيرهم اختياراً مفضلاً وأولياً لدى النساء والفتيات في مصر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية