قررت الكاتبتان أن تكونا صوت النساء اللاتي تم إسكاتهن، فمزجت نصوصهما بمهارة بين صوتيهما وأصوات الإيرانيات المطالبات بالحياة والحرية في مجموعة من الشهادات كشفت عن عمق معاناة المجتمع منذ الثورة الإسلامية عام 1978 وقيام “جمهورية ولاية الفقيه” والأحداث التي تلتها والتحولات السياسية والتاريخية والمجتمعية التي أسفرت عن سقوط آلاف القتلى وتعالي الأصوات المؤيدة للنظام الديني الجديد أو تلك الشاجبة له، لا سيما بعد وفاة الشابة مهسا أميني بسبب “ارتدائها الخاطئ للحجاب” والاحتجاجات الواسعة التي خرجت في كل المدن الإيرانية بسبب عنف شرطة الأخلاق والغضب الذي تشعله تصرفاتها في نفوس الإيرانيين.
تأخذنا شهادات 12 امرأة امتلكن الجرأة للحديث عن واقعهن إلى قلب إيران، حيث الحياة اليومية محفوفة بالخوف، مليئة بالإحباطات والإذلال، وحيث يمكن أن يؤدي الكشف عن الشعر أو الغناء أو مصافحة رجل إلى السجن أو إلى الإعدام. فكل النساء اللاتي قبلن التحدث إلى جعفريان وتولليه هن طالبات وأمهات أو أخوات وزوجات، رفضن الاستسلام للخضوع المفروض عليهن من قبل رجال الدين، وما زلن يقاتلن ويعرّضن أنفسهن وحريتهن للخطر، في سبيل استعادة زمام حياتهن وكرامتهن.
فمن خلال هذه الأصوات النسائية التي تتحدى الطغيان، تقدم لنا منى جعفريان وآن-إيزابيل تولليه غوصاً عميقاً في المجتمع الإيراني. لعله نوع من التكريم لأولئك النسوة المناضلات. إنهما كتابان ضروريان لفهم التغيرات العميقة التي بدأت تهز المجتمع والتي تكشف عن شعب متعب، لكنه في الوقت عينه مليء بالعزم والإرادة والأمل. فالانطباعات والشهادات المؤلمة التي تنقلها إلينا الكاتبتان ليست في الواقع سوى تعبير عن أفكار الجيل الجديد وموقفه من النظام الديني المتشدد. ففي “أنا إيرانية” نقرأ مثلاً شهادة مهناز، وهي شابة تبلغ من العمر 19 سنة، تقول إنها اعتقلت وتعرضت للضرب والإهانة والاغتصاب لمجرد مشاركتها في التظاهرات، غير أن كلماتها المتأرجحة بين اليأس والأمل تعبّر عن الشجاعة الفائقة التي اكتسبتها الإيرانيات. فالصبية تعترف بأن العودة للوراء باتت اليوم شبه مستحيلة وأنه في مواجهة القمع الذي تفرضه الدولة على النساء وعلى كل من يعارض إرادتها، تتجلى وحدة الإيرانيين الذين يقفون، رجالاً ونساءً، بصورة غير مسبوقة، جنباً إلى جنب، رافعين في الشوارع شعار “امرأة، حياة، حرية”، وهو الشعار الذي أصبح رمزاً لصراع أجيال ضد نظام يسعى إلى الحفاظ على سيطرته بأي ثمن.
وتتساءل ساره وهي طالبة جامعية تبلغ من العمر 22 سنة “كيف يمكن أن يتوقع النظام أننا في بلد الشعر والغناء والرقص والأدب، سنقبل بالعيش إلى الأبد خاضعين لهذه الشرائع القروسطية؟”، وتعترف باريسا وهي ابنة أحد أعضاء الحرس الثوري الإيراني بأنها “نشأت في بيئة إسلامية محافظة وأنها حين بدأت تتفجر معالم أنوثتها، كانت تقوم بعصب صدرها بقوة”. ثم هناك شهادة آزاده، وهي شابة في الـ23 من عمرها، تقول إنها تعلمت في المدرسة أن المرأة أقل شأناً من الرجل، وأن كل رجال الثورة يثيرهم جسد المرأة شعرها وصوتها ومظهرها، مضيفة أنه لربما حان الوقت لعلاج هؤلاء الرجال نفسياً بدلاً من قمعهم لملايين النساء.
النظام القمعي
وإذ تتوالى الشهادات الجريئة والصريحة التي تضع النظام القمعي تحت المجهر، يدور الحديث أيضاً عن رجال السلطة في إيران وعن أولئك الذين يدعمونهم أو يلتزمون تعاليمهم. ويبدو النظام الإيراني من خلال هذه الشهادات ضعيفاً، فتؤكد شابة تدعى آزاده أن ملالي طهران “خسروا الحرب الأيديولوجية منذ وقت طويل” وأن الشباب الإيراني أصبح اليوم بسببهم لا أدرياً، ولعله ينظر إلى الدين على أنه مجموعة من الشرائع القمعية.
لقد حولت شهادات النساء التي نقلتها جعفريان بأسلوبها الجميل كتابها إلى منبر سياسي فتح المجال أمام عدد كبير من النسوة للتعبير عن آرائهن في الدين والسياسة والمجتمع. كلهن أجمعن على أن النظام السياسي أصبح هشاً، لا بل على وشك الانهيار وأن حراسه يحاولون بالقوة وباسم الدين إسكات الأصوات المعارضة، مخاطرين بخنق إيمان الشعب.
ومن هذه الزاوية، نفهم صرخة شابة تدعى سبيدة تتساءل عن ماهية الإله الذي يطالب بالقمع ويسمح بالقتل والذي يتولى النظام الحديث باسمه، وتضيف أن تصرفات رجال الدين جعلتها تكره كل المعتقدات الدينية، معترفة، كشابة أخرى تدعى سارة، بأن غالبية الإيرانيين أصبحوا غير مؤمنين، أو أنهم يؤمنون بوجود الله، من دون الانتماء إلى دين محدد. فالمجتمع الإيراني كسر طوق الخوف، وبدأ تحول جوهري يطاول جيل الشباب الذين يتجرأون على التعبير عن رغبتهم في بناء مستقبل جديد خارج قيود التقاليد المفروضة.
في هذا السياق، تقول بعض السيدات إن الشعور بالعزلة يزيد من معاناة الشعب الإيراني، فتعترف آزاده مثلاً بأن الأمة الإيرانية باتت اليوم أمة منسية، خذلها الغرب، ذلك أن دول العالم لا تتحرك إلا عندما تخدم مآسي الشعوب مصالحها. وتتذكر مهناز، وهي واحدة ممن تعرضن للاعتقال، بأن الاحتجاجات الكبرى بعد وفاة مهسا أميني لم تلقَ ما تستحقه من صدى عالمي، مضيفة “نحن وحدنا في هذا الصراع، ولكننا لن نستسلم”، وتشدد على أن نساء إيران كبرن وهن يعتقدن بأن الدين هو الحل، لكنه تحول اليوم إلى سلاح ضدهن. لذا بدأن البحث عن “إيمان جديد، يقوم على أسس الحرية والكرامة الإنسانية” لأن الأمل ما زال حياً في قلوب كل الإيرانيين، على رغم القمع والاعتقالات.
وعكست هذه الشهادات المؤثرة التي جمعتها منى جعفريان، مشهد مجتمع إيراني منقسم، فمن جهة هناك إيران الملالي التي تفرض نظاماً أخلاقياً صارماً، فتجبر النساء على إخفاء أجسادهن منذ سن البلوغ تحت طائلة العقوبات القاسية، ومن جهة أخرى هناك أحياء طهران الفاخرة التي تضم شبّاناً وشابات يعيشون وفق النمط الأوروبي، فهناك الرقص والموسيقى والكحول والبعد من المظاهر الدينية. لكن الخوف يسود أيضاً هذه الأحياء، علماً أن الشرطة تتردد في توقيف شاباتها لأنها لا تعرف دوماً “ابنة من” هي التي تم توقيفها، بحسب إحدى السيدات. فإيران بلد مزدوج يعكس قمعاً شديداً ودكتاتورية دينية صارمة، لكن شعبه يواجه هذا القمع بحيل مبتكرة، كأن يتظاهر ثنائي بأنهما قريبان لتجنب الملاحقة في تحدٍّ صريح للقواعد المجتمعية.
المجتمع الممزق
على تتالي صفحات كتاب “أنا إيرانية”، تستكشف منى جعفريان إذاً وجوه إيران المتعددة وتعقيد مجتمعها الممزق بين إرث فارسي غني بالانفتاح والرفعة وبين الظلامية المفروضة منذ أكثر من 40 عاماً. وعلى رغم التهديدات والمضايقات التي تواجهها، وصولاً إلى تنقلها تحت حماية الشرطة، ترفض الكاتبة الاستسلام أو التراجع، وتؤكد أن كتابها ليس مجرد مجموعة من الشهادات، بل هو صرخة إنذار في وجه الغرب الذي يلتزم الصمت وتكريم مؤثر لشجاعة النساء اللاتي يناضلن من أجل حريتهن، على رغم الأخاطر التي تتهددهن.
يتقاطع مضمون كتاب جعفريان مع كتاب الصحافية والمراسلة الميدانية آن-إيزابيل تولليه “الرحلة المحرّمة، غوصٌ خفيّ في إيران اليوم” الذي تروي فيه تفاصيل زيارتها المثيرة إلى طهران عام 2023 ونقلها صورة جريئة عن أحوال البلاد من الداخل. فمنذ وفاة مهسا أميني وإثارتها موجة من الاحتجاجات العارمة في كل المدن الإيرانية، أغلقت إيران أبوابها أمام الصحافيين الغربيين، إلا أن تولليه قررت كسر هذا الحصار والدخول متنكرة إلى إيران تحت ستار تنظيم رحلات سياحية والتدقيق في جدواها المالي، مستغلة الفرصة للانغماس ليلاً في حياة الإيرانيين اليومية، بعيداً من أعين المرشدين السياحيين والمراقبين والمخبرين في رحلة استمرت 10 أيام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول تولليه إنه قبيل مغادرتها فرنسا نبهتها صديقة إيرانية إلى ضرورة أن تكون حذرة دوماً، وإنه عند هبوط الطائرة وتشغيل هاتفها المحمول، تلقت رسالة نصية ورد فيها أن “الحجاب حماية وليس قيداً وأنه عليها احترام القوانين والتزام المعايير الاجتماعية المتعلقة بالحجاب والعفة والملابس التقليدية. وتوضح أنه فور خروجها من المطار استوقفتها مشاهد المجتمع الإيراني المنقسم، فثمة عربات مترو وحافلات مخصصة للنساء اللاتي يرتدين التشادور الأسود من الرأس حتى أخمص القدمين، إلى جانب شابات سافرات تخلّين عن الحجاب علناً، وأنها اكتشفت وجود “كاميرات فائقة الذكاء” تراقب النساء حتى داخل سياراتهن، وتمنعهن من قيادة الدراجات النارية. وتقول تولليه إن هذه التناقضات بيّنت لها غضب الإيرانيين المكتوم، رجالًا ونساءً، وعمق ألمهم وصراعهم الداخلي المتأرجح بين الانتماء والحرية وتشديدهم على أن النظام فقد قوته الأيديولوجية وأنه بدأ يهدد الدين نفسه. فنقلت إلى قرائها تساءل كثير من الإيرانيين عن المستقبل الذي ينتظرهم، وعما إذا كانت جهودهم ستفضي يوماً إلى إسقاط النظام وعما إذا كان القمع سيستمر في كبح جماح محاولات التغيير. وتلاحظ تولليه أن الإيرانيين يكتبون بين الغضب والخوف والأمل فصلاً جديداً من تاريخهم، مليئاً بالشجاعة والتحدي وسط شعور بالعزلة والخيبة من العالم الخارجي.
كما منى جعفريان، جمعت تولليه شهادات فريدة من الإيرانيين الذين التقتهم خفية، كذاك الشاب الذي تحدى النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي لينقل الأحداث باستخدام “الشبكة الافتراضية الخاصة” التي تنشئ اتصالاً شبكياً محمياً عند استخدام الشبكة العامة من خلال تشفير حركة البيانات وإخفاء هوية المستخدم الإلكترونية، مما يجعل تتبع نشاطه أمراً صعباً، أو تلك الشابة التي اعتقل شقيقها قورش خلال الاحتجاجات، وأعُدم قبل ثلاثة أيام من صدور كتاب تولليه على ما تقول الرسالة التي أرسلتها إلى الصحافية الفرنسية، طالبة منها ألا تنسى الصحافة الأوروبية واقع الشعب الإيراني ومعاناته اليومية وأن تعمل على إبراز صموده وإبداعه في مواجهة القمع والتضخم والبطالة وتقييد الحريات والاعتقالات الجماعية والمحاكمات التعسفية والإعدامات التي باتت واقعاً يومياً.
في سرد رائع يمزج بين التحقيق الصحافي وقصص التجسس والرواية المغامراتية، تروي آن-إيزابيل تولليه كما منى جعفريان قصص إيران كما هي في تعقيداتها وصمودها وتناقضاتها. وجاءت روايتها مختلفة عما تنقله وسائل الإعلام لأنها عكست صورة الثورة الحقيقية. فعلى رغم النظام القمعي، يؤكد لنا كتابا منى جعفريان وآن-إيزابيل تولليه أن نساء القرن الـ21 في إيران لم ولن يتوقفن عن النضال في سبيل تحقيق حريتهن واستعادة حقوقهن وعلى رأسها المساواة بعد انتفاضة غير مسبوقة ضد نظام طهران الثيوقراطي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية