تكشف الباحثة الفرنسية بيرينيس لوفي في كتابها الجديد عن الحداثة المدهشة والراهنية البارزة لفكر هانا أرندت، مانحة إيانا المفاتيح اللازمة للدخول إلى عالمها وفهم كتاباتها. وعندما تكتب بيرينيس لوفي عن أرندت، فهي لا تكتفي بدعوة القارئ إلى اكتشاف أو إعادة اكتشاف نصوص هذه الفيلسوفة، بقدر ما تحيله إلى “كتابات ملهمة ومعين لا ينضب”. ولعلها تسدد ديناً كبيراً، إذ كانت أعمال هذه المنظِّرة موضوع أطروحة الدكتوراه التي ناقشتها عام 2006 بعنوان “هانا أرندت والأدب”، والتي لم تتوقف لوفي يوماً عن قراءة نصوصها، لأنها علمتها الجرأة في التفكير والاهتمام الجاد بالكلمات والأشياء، دون تجاهل بؤس الناس وآلامهم، ولأنها قدمت لها أدوات تحليل لفهم العالم المليء بالأزمات.
تقول بيرينيس لوفي إن أرندت وضعت كتبها في فترة مضطربة بين الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، فقدمت فلسفة فكرت في أعمق الأسئلة التي تواجه الإنسان، لكنها لم تسع إلى تشخيص الأزمات وحسب، بل عملت على اقتراح رؤية لتجاوزها، مضيفة إن فكر أرندت “المتمرد على جميع أنواع الامتثال” قد أصبح غذاءها اليومي، ولعله البوصلة التي ما زالت توجه خطواتها، صائراً نوعاً من الدعوة الجريئة لمواجهة الأخطار الفكرية.
وأرندت التي عاصرت كوكبة من الفلاسفة والمفكرين أمثال سارتر وبوفوار وكامو وميرلو – بونتي وأرون وهانس يوناس يبقى فكرها، بعرف لوفي، أكثر راهنية من فكر هؤلاء، لتناولها بعمق أسس التوتاليتارية والأنظمة القومية الأيديولوجية والعنف والشر وأزمة الثقافة وغيرها من الموضوعات التي لا تزال تلقي بثقلها على المجتمعات المعاصرة، لا سيما تفكرها في الوضع البشري و”المشترك” بين الناس، وهو الأساس الذي تبني عليه كل حضارة رؤيتها الخاصة، والذي تنظر إليه لوفي كخشبة خلاص في زمن يجد فيه كل فرد نفسه محصوراً داخل إطار “العرق” و”الجنس” أو “الدين”.
يشدد كتاب لوفي إلى جانب أهمية وراهنية فكر أرندت على تماسك وخصوبة نصوصها التي تشكل بحسب الباحثة أداة فهم لقضايا ما زالت محورية في كل المجتمعات، كالمصالحة مع الماضي والتاريخ وأزمة الهوية والتكنولوجيا والاستهلاك وتلاشي الثقافة لمصلحة “الثقافوي” والضمير الأخلاقي والسلطة والتعليم والحداثة وما بعد الحداثة، مبرزة إمكانية تجاوز الثنائيات العقيمة التي كثيراً ما توقع الإنسان في مآزق وجودية وحضارية وعلى رأسها التحرر المفرط.
تقول بيرينيس لوفي إن كتابات أرندت “بالكاد جف حبرها”. وهي لا تكتفي بلعب دور السراج الذي ينير الطريق، بل تمكننا، دون التأرجح مع الريح، من المضي بثبات في العالم. فهانا أرندت هي مفكرة لعصرنا، تتحدى شروحاتها بداهات الحاضر، مفككة كل صور “الأجراس البافلوفية” التي تحل محل التفكير الحقيقي. ولئن ركزت في كتابها على تبيان كيفية إسهام الفيلسوفة الأميركية في إلقاء الضوء على أزماتنا المعاصرة، فإن لوفي لم تتردد لحظة في مساعدتنا على استيعاب المفاهيم والأفكار التي أثرت بها أرندت الفلسفة وعززت قدرتنا على فهم العالم.
دخول العالم
في “التفكير فيما يحدث لنا مع هانا أرندت” تعترف لوفي أنها منذ قراءتها في سن 16 كتاب “أزمة الثقافة” وعبارته الشهيرة “عند الولادة، لا يمنح الآباء الحياة لأطفالهم فحسب، بل يدخلونهم إلى العالم”، اكتشفت عالم أرندت، وعرفت كيف أن الإنسان لا يلقى في الحياة ككائن منعزل، مجرد من كل إرث، بل يدخل إلى مشترك وشبكة اجتماعية وثقافية تسبق وجوده وتتفوق عليه. كانت هذه الفكرة التي أصابتها بالصميم منطلقها إلى التهام كل نصوص الفيلسوفة. فمن خلال التفكير في الولادة كدخول إلى العالم، تبين لوفي كيف نسجت هانا أرندت أسس حبكة “الشرط الإنساني”، رابطة الفرد بواقع أكبر وأسمى منه، ذلك أن العالم من منظورها هو نتاج البشر ومحصلة تراكمات التاريخ واللغة والعادات والقوانين والطبيعة التي تمنح النسيج الاجتماعي والسياسي قوامه واستدامته، وهذا بالذات ما يسعى البعض إلى هدمه وإنكاره. فالعالم لا يقتصر على الحاضر، بل يتجاوز اختبار الزمن، ولو أن العالم الذي بدأنا نعيش فيه منذ الستينيات والسبعينيات، يقوم على وهم “الإنسان الأحادي” ويسعى إلى تشويه الروابط والالتزامات والولاءات والواجبات، وهي صلب الحياة وحاجات الإنسان الأساسية، منتقدة بقوة النزعة الاستهلاكية التي تفقد الفرد إنسانيته وتحطم سلوكه الاجتماعي وتضعف فيه القدرة على التفكير النقدي.
من هنا كان الاهتمام بالعالم والغيريات في فكر أرندت جوهر السياسة ذاتها. هذه الفكرة بالذات أخذت لوفي إلى صميم الفلسفة الأرندتية، وهي مزيج من الحرية والانتماء إلى حضارة وثقافة مجتمعية معينة تربط الإنسان منذ ولادته بواقع آخر يسبقه، هو على النقيض تماماً من مفهوم الفردية الليبرالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا التفاعل أو الانتظام الحي في العمل المشترك المنبثق من اختبارات الناس في نطاق الحياة المدينية، يكسب الإنسان بحسب الفيلسوفة أصالته. ولعله، بآلامه وأفراحه، في أصل الحقيقة التي تنبثق من الفعل اليومي. هذا بالضبط ما جعل بيرينيس لوفي تقبل على التعمق في هذا الفكر المتألق الذي جعلت منه محور كتابها الذي يجمع بين الإعجاب بهذه النصوص والتأمل من خلالها في الحاضر، ناقلة لقرائها جوهر فكر فيلسوفة “تؤسس للإنسانية على أساس الانتقال الثقافي والحضاري”.
في هذه القراءة جعلت لوفي من فكر أرندت إذاً دليلاً لفهم الحداثة وأزمة الانفصال عن الواقع الذي يعانيه الإنسان المعاصر، والذي تغذيه خيارات سياسية خاطئة، مؤكدة أهمية العودة إلى سياسات “مرتبطة بواقع البشر”، بعيدة من النزعات التقدمية التي غالباً ما تنسى الإنسان وتقطع سلسلة النقل الثقافي في بتر للكينونة الحقيقية. كما تطرقت إلى مفهوم السلطة، مظهرة أن أزمتها تنشأ عندما يعتمد الحكام على أنفسهم، دون أن يعكسوا في سياستهم شيئاً من إرث الآباء المؤسسين للمجتمع. فالسلطة الحقيقية هي تلك التي تعززها ثروة القرون الماضية، والتي تعبر عن القلق في ضمان مستقبل المجتمع الذي تحمل مسؤوليته. من هنا، كان السياسي الحقيقي بعرف أرندت يتجاوز اللحظة الراهنة. فهو المسؤول عن قراراته ليس فقط أمام أقرانه من الأحياء، بل أيضاً أمام الأموات والأجيال القادمة.
عالجت بيرينيس لوفي في دراستها كل هذه الأفكار التي تذخر بها نصوص أرندت، فجاء كتابها الواقع في 240 صفحة شيقاً وغنياً يجمع بين الإعجاب بفكر فيلسوفة والتأمل في الحاضر المأزوم، ناقلاً إلى قرائه شغف مؤلفته بهذه المنظرة التي ما زالت أعمالها مصدر إلهام لكُثر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية