أدى الصراع المستمر لمدة 21 شهراً بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، والذي اندلعت شرارته الأولى بالعاصمة الخرطوم وتمدد إلى ولايات دارفور وكردفان غرباً والجزيرة في وسط البلاد وسنار في الجنوب الشرقي، إلى جانب استهداف الولايات الآمنة، إلى أزمة أحاطت بالسودانيين في كل مناحي حياتهم، بخاصة العاملين في القطاعين الخاص والحكومي، بعد أن فقدوا وظائفهم ورواتبهم الشهرية، مما أجبرهم على ممارسة مهن مختلفة، غالبيتها هامشية لا تتوافق مع مهامهم السابقة.

وتعتبر الحرب الحالية هي الأكثر تدميراً للبنى التحتية، التي شملت المؤسسات والشركات والمصانع والبنوك وغيرها، مما أحدث تغييرات وتحولات اجتماعية في معيشة المهنيين والموظفين، وبالتالي تسببت في انخفاض مخصصاتهم في بعض المؤسسات بنحو 23 في المئة منذ الأشهر الأولى للحرب، في حين كانت البلاد تشهد استقراراً نسبياً، ومع مرور الوقت وفي شهر أغسطس (آب) 2024 انخفضت إلى 3 في المئة، إلى أن تلاشت في البعض الآخر، الأمر الذي جعلهم مثقلين في كيفية الحصول على عمل لإعالة أسرهم. لذلك نجدهم إما باعة جوالين أو مفترشين الأرض لبيع الخضروات والفواكه، أو تجهيز الوجبات السريعة، أو عمالاً بالأجرة اليومية يتقاضون أجرهم بعد انقضاء ساعات العمل.

وأشار استطلاع أجرته تنسيقية المهنيين والنقابات السودانية إلى أن العاملين في القطاعين الخاص والعام لجأوا إلى ممارسة مهن لا علاقة لها بوظائفهم الأساسية بعد أن ساءت أوضاعهم المعيشية، وأصبح عائل الأسرة غير قادر على توفير لقمة العيش، لا سيما أن نحو 67 في المئة فقدوا وظائفهم.

وفي ظل هذا الواقع المؤلم، كيف كانت رحلة بحث العاملين والموظفين عن خيارات بديلة طوال فترة الحرب، فضلاً عن كيفية تأقلمهم مع هذا الوضع في مناطق نزوحهم؟

أمان أسري

في السياق، قالت المواطنة مها بشير، التي كانت تعمل في إحدى مؤسسات العاصمة الخرطوم، إنه “بعد أن أسهمت الحرب في تدمير البنى التحتية الحيوية في الخرطوم، فقدت وظيفتي ومصدر دخلي طيلة أشهر الصراع، فضلاً عن أنني العائل الوحيد لأسرتي بعد أن توفي والدي، إذ إن ما أدخرته من سنوات عملي ساعدني في توفير الاستقرار خلال فترة النزوح”.

وأضافت بشير: “استقر حالنا بولاية القضارف شرق البلاد، في أحد معسكرات النزوح، إذ لم تراودني فكرة استئجار منزل بسبب ارتفاع الإيجارات، ومع ذلك نفد ما أملكه من مال نتيجة لطول أمد الحرب والالتزام بكل متطلبات الأسرة. حاولت استعادة نشاطي، لكن من المؤسف أن إيجاد وظيفة في منطقة جديدة أمر في غاية الصعوبة”.

 

وتابعت: “اضطر شقيقي الأصغر إلى تحمل مسؤوليتنا من خلال العمل في ميكانيك السيارات، إذ استطعنا توفير الحاجات الأساسية، إذ إن مراكز الإيواء بالولاية تعاني أوضاعاً معيشية مزرية تفتقر لمقومات الحياة الطبيعية بسبب تصاعد موجات النزوح، لا سيما أن من بينهم العمال والمهنيين والموظفين، إذ إن جميعهم فقدوا وظائفهم بسبب الحرب وظلوا في حيرة في كيفية تدبير وسيلة لتوفير لقمة العيش”.

وأشارت المواطنة إلى أن “طبيعة الحياة تغيرت بعد اندلاع الحرب، وتفاقمت المعاناة بسبب توقف الرواتب الشهرية، التي كانت تحقق الأمان الأسري نوعاً ما، خاصة أن الراتب الشهري لا يتأثر إلا بتوقف الوظيفة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حنين العودة

إلى ذلك، لم يجد الصحافي الرياضي ومقدم البرامج الرياضية بالإذاعة الطبية، عبد العليم مخاوي، بُدّاً من مغادرة الميكروفون والانخراط في سوق مدينة كوستي الشعبي بولاية النيل الأبيض كبائع للخضار، ويقول: “لم أتخيل يوماً أن أفارق مهنتي، التي أعشقها، حتى أصبح بائعاً للخضروات بسبب الحرب”.

وأردف مخاوي: “في تقديري، أن العمل في سوق مدينة كوستي أكسبني علاقات جديدة في مجتمع جديد، لا سيما أن حتمية توفير لقمة العيش تتطلب ممارسة أي نوع من المهن من أجل البقاء، فضلاً عن أن المهنة الجديدة لم تمنعني من متابعة النشاط الرياضي بالمدينة”.

ولفت الصحافي الرياضي إلى أن “هناك بشرى تلوح في الأفق بتحرير العاصمة الخرطوم، وهو أمر يبعث التفاؤل بإمكانية العودة إلى منازلنا من جديد وبداية حياة مستقرة، إذ إن الحنين يراودني إلى المايكروفون”.

 

تعايش والتزامات

أما المهندس مدثر حسن، الذي نال شهرة واسعة في صناعة وجبة “الأقاشي” بمدينة بورتسودان في ولاية البحر الأحمر شرق البلاد، فيرى أن “قسوة الحياة بعد اندلاع الحرب ومواجهة التشرد من خلال البحث عن ملاذ آمن، بعد أن هجرنا منزلنا قسراً في مدينة أم درمان، أصبحت مثقلاً بالهموم، خاصة من ناحية توفير التزامات أسرتي، فضلاً عن أن الرعب الذي أصاب أطفالي من تبعات الحرب، وهو ما جعلني أفكر في الابتعاد جغرافياً واتخاذ مدينة بورتسودان ملجأ لنا، وهي ما عُرفت عنها بالغلاء الفاحش وارتفاع كلفة الحياة، لما شهدته من تدفق كثيف للنازحين”.

واصل حسن: “كان من الضروري التعايش مع هذه الظروف وتدبير مهنة تعينني في الالتزام بتوفير احتياجات أسرتي اليومية، إذ هداني التفكير العميق إلى صناعة (الأقاشي)، وهي اللحم الممزوج بالبهارات، حيث وجدت دعماً مادياً من بعض الأقرباء المغتربين بدول الخليج، لا سيما أن وجبة الأقاشي الشعبية يفضلها كثير من السودانيين، فضلاً عن أنني أتقنت هذه المهنة حتى أصبح لقبي “مهندس الأقاشي”، كما يحلو مناداتي به، بعد أن اجتذبت زبائن من أهل المدينة والنازحين فيها”.

تحديات كارثية

على الصعيد نفسه، أوضح أحمد البدوي، المتحدث باسم تنسيقية المهنيين والنقابات، أن “المهنيين والموظفين في القطاعين العام والخاص لجأوا إلى مهن بديلة بعيدة عن وظائفهم الأساسية، فبعضهم اتجه إلى التجارة والزراعة وتجهيز الوجبات السريعة، والبعض الآخر اتجه للعمل كباعة جائلين أو افتراش الأرض بالخضروات والفواكه، وآخرون حرفيون ويعملون من أجل رزق اليوم باليوم”.

وأضاف البدوي: “توسع نطاق الحرب، في دارفور وكردفان غرباً والجزيرة في وسط البلاد وسنار في الجنوب الشرقي، زاد الأوضاع سوءاً، مما أدى إلى فقدان الوظائف، إذ وصلت إلى 67 في المئة في القطاعين العام والخاص بسبب تدمير المؤسسات، إلى جانب النزوح، فضلاً عن أن رب الأسرة يعتبر العائل، ولا يوجد خيار غير البحث عن سبل لتوفير لقمة العيش، في ظل نفاد المدخرات المالية، التي أدت بدورها إلى أوضاع كارثية”.

وتابع “بسبب التحديات التي واجهت العاملين في القطاعين، أجرت تنسيقية المهنيين استطلاعاً أكدت من خلاله أن نحو 90 في المئة لا يكفيهم دخلهم الشهري لإعالة أسرهم، فضلاً عن أن نحو 23 في المئة من الموظفين تمكنوا من صرف رواتبهم في الأشهر الأولى للحرب، في وقت كانت البلاد تشهد استقراراً نسبياً في الأوضاع، وبشكل مطرد بدأت أحوالهم تتدهور، لا سيما أن في شهر مايو (أيار) 2023 انخفضت النسبة إلى 11 في المئة، وفي أغسطس الماضي كان الانخفاض بصورة أكبر، إذ إن من صرفوا رواتبهم الشهرية بلغ نحو 3 في المئة فقط”.

وأشار المتحدث باسم تنسيقية المهنيين والنقابات إلى أن “هناك نحو 35 في المئة من العاملين يعانون أمراضاً مزمنة و98 في المئة منهم لم يجدوا مساعدات طبية خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، بيد أن 72 في المئة من العاملين في القطاعين الخاص والحكومي ليس لديهم تأمين اجتماعي، وأن 90 في المئة من العمال في مهن غير منتظمة، بينما تأزمت ظروفهم المعيشية بسبب ترك أعمالهم، في حين أن عدد من فقد وظيفته في القطاعين وصل إلى مليونين من جملة 3 ملايين”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية