تعتزم الحكومة التونسية إدخال “ثورة” في مجال الصفقات الحكومية، بالقطع نهائياً مع بعض القوانين والأوامر السابقة المعطلة لمئات من المشاريع الحكومية في عدد من القطاعات والمحافظات الداخلية.

وتعاني تونس بصورة لافتة في الأعوام الأخيرة معضلة حقيقية اسمها الصفقات العمومية التي باتت تعوق أنشطة عديد من الفاعلين الاقتصاديين في البلاد، لا سيما أصحاب شركات المقاولات، وحتى الدولة نفسها تضررت من هذه الصفقات بتوقف كلي أو شبه كلي لمشاريع كبيرة كان من المفترض أن يكون لها الأثر إيجابي في حياة المواطنين خصوصاً، والاقتصاد التونسي بصورة عامة.

وتقدر تقارير رسمية تونسية أن الفساد المتعلق بالصفقات الحكومية تبلغ كلفته 714 مليون دولار سنوياً، وأن الصفقات العمومية تخسر 25 في المئة من قيمتها، بسبب غياب الحوكمة.

وأفصحت هذه التقارير بأن الدولة التونسية تنفق بمختلف وزاراتها وإداراتها نحو 3.5 مليار دولار سنوياً بعنوان شراءات في إطار صفقات حكومية، تفقد منها في الأقل 25 في المئة نتيجة غياب آليات الرقابة والمتابعة.

الثورة التشريعية

تجسيماً للثورة التشريعية التي أعلن عنها رئيس الحكومة التونسية كمال المدوري والتي ستطاول مجالات وميادين حيوية في البلاد، فإن من أول معالم هذه الثورة التشريعية الإصلاح الجذري والعميق لقانون الصفقات الحكومية.

وحصلت “اندبندنت عربية” على وثيقة حكومية تتعلق بمشروع مراجعة الأمر المنظم للصفقات العمومية لأجل إضفاء مزيد من المرونة وتخفيف الإجراءات وتكريس النجاعة في الصفقات العمومية، مع الأخذ في الاعتبار متطلبات المرحلة التي تمر بها تونس، وخصوصية بعض الفاعلين الاقتصاديين من المؤسسات الناشئة والصغرى والمتوسطة.

ويقترح المشروع التقليص في آجال إبرام الصفقات العمومية على ألا تتجاوز 60 يوماً بالنسبة إلى الطلبات العادية، و90 يوماً بالنسبة إلى الطلبات المعقدة، والتخفيض من قيمة الضمان الوقتي المستوجب في الصفقات العمومية، مع إعفاء المؤسسات الناشئة والحرفيين ومكاتب الدراسات والشركات الأهلية من توفير الضمانات المالية الوقتية عند المشاركة في الصفقات العمومية.

وضماناً لسرعة إنجاز الصفقات العمومية خلال فترة إشهار المنافسة، يقترح التقليص من أجل الإعلان عن طلب العروض من 30 يوماً إلى 20، مع إمكانية اللجوء للتفاوض المباشر بالنسبة إلى الأعمال المتعلقة بترميم المنشآت والبنايات الأثرية في حال التأكد لما تقتضيه هذه الأعمال من خصوصية مرتبطة بالجانب الحرفي والمهني.

إلى ذلك نص مشروع الأمر الحكومي الوارد في 181 فصلاً موزعاً على خمسة أبواب، على إمكانية اللجوء للتفاوض المباشر مع الحرفيين في أعمال صيانة الأعمال الفنية التاريخية والكتابات المنقوشة والتحف، وإعفاء الشركات الصغرى والناشئة والحرفية والمؤسسات المحلية والشركات الأهلية من وجوب إبرام الصفقات عبر منظومة “تونيبس” (منصة إلكترونية خاصة باسترسال الصفقات الحكومية)، نظراً إلى الإشكالات التقنية التي تعترض هذه الأصناف من المؤسسات.

من الضروري مواصلة الإصلاح

يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي في الجامعة التونسية، عبدالرحمن اللاحقة، أن قانون الصفقات الحكومية في تونس يعد أحد أبرز العوائق المكبلة للاستثمار.

ولاحظ اللاحقة أن الإطار التشريعي الحالي المنظم للصفقات ثقيل جداً وزاده بطء الإجراءات الإدارية وتشعبها، مما يجعل الدولة عاجزة عن التقدم في مجال الاستثمار العمومي، مضيفاً أن الإدارات التونسية التي تنفذ سنوياً كثيراً من المشاريع تتعرض لتعطيلات جراء طول مسار الإجراءات التي تنظمها الصفقات الحكومية، مما ينعكس لاحقاً على جودة الخدمات الإدارية على المواطنين.

ورأى أنه على رغم إجراء تحسين على القوانين المنظمة لمجال الصفقات في تونس منذ عام 2016، بإنجاز “منظومة تونيبس” الخاصة برقمنة الصفقات ووضعها على شبكة الإنترنت لغرض إضفاء مزيد من الشفافية، فإن الأمور ظلت على حالها على مستوى طول الإجراءات في إنجاز الصفقات.

وأردف بالتوضيح “من الضروري مواصلة إصلاح مجال الصفقات الحكومية لكي تساير التطورات الاقتصادية الحاصلة، خصوصاً تبسيط الإجراءات حتى يكون هذا الميدان جاذباً للمستثمرين لا منفراً”.

وأوصى بضرورة إيجاد طريقة لخلاص الشركات التي تفوز بصفقات حكومية في آجال قصيرة، لا سيما أنها تتعرض لمشكلات مالية.

متابعة على أعلى مستوى

تأكيداً للأهمية للصفقات الحكومية، وما لحقها من صيت سلبي لدى الفاعلين الاقتصاديين الذين طالبوا في عديد من الاستشارات واللقاءات بوجوب إصلاحها جذرياً، خص الرئيس التونسي قيس سعيد هذا المجال باهتمام على أعلى مستوى.

وخلال اجتماعه في الـ23 من سبتمبر (أيلول) 2024 برئيس الحكومة كمال المدوري، تناول قيس سعيد مشروع النص المتعلق بالصفقات العمومية في المشاريع ذات الأهمية الاستراتيجية، مؤكداً أن التشريع الحالي تجاوزه التاريخ وتضررت منه المجموعة الوطنية.

وتابع بالقول “عشرات الآلاف من المليارات من الدنانير مرصودة والمشاريع التي رصدت إما أنها لم تنطلق، وإما أنها توقفت بعد مدة وجيزة من بداية أشغالها”.

ومن جانبه أشرف رئيس الحكومة كمال المدوري في الـ29 من أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بقصر الإجراءات والمقترحات الرامية للتسريع في إنجاز المشاريع الحكومية ودفع الاستثمار الخاص، على مجلس وزاري.

وشدد رئيس الحكومة على ضرورة تعزيز حوكمة الأداء المؤسساتي المتدخل في مجال الاستثمار ونجاعته، بهدف استحداث نسق إنجاز المشاريع ومعالجة الإشكالات والصعوبات التي تحول دون تنفيذها في الآجال المحددة.

وأقر المجلس جملة من الإجراءات والتدابير لتجاوز الصعوبات الإجرائية والفنية والعقارية بما يمكن من التسريع في إنجاز المشاريع العمومية والخاصة، ومن التخفيف من العبء على المتعاملين الاقتصاديين وتحفيز الاستثمار.

مشاريع معطلة

تنشر مختلف الوزارات والمصالح الحكومية في تونس على مواقعها الرسمية وكل الصحف والصحف والمجلات آلاف الإعلانات لطلبات العروض لإنجاز عدد من المشاريع، في إطار الصفقات الحكومية التي تعتزم الوزارات أو مختلف الهياكل الحكومية إنجازها، بدعوة أصحاب المقاولات المشاركة في هذه الصفقات، إلى الحصول على كراسات الشروط وتحديد آجال المشاركة وموعد إنجاز المشاريع وتسليمها.

لكن الأمر غير العادي هو ما تخفيه الصفقات الحكومية في تونس من معاناة لأصحاب المقاولات والمستثمرين ومن مطبات قانونية وإجراءات إدارية متكلسة، يمكن أن تسقط مشروعاً من المفروض أن يعود بالنفع على المواطنين وعلى الاقتصاد الوطني إجمالاً.

والمشاريع المعطلة في تونس اليوم كثيرة بسبب تعقد الإجراءات الإدارية وارتباطها بقانون الصفقات الحكومية الذي صار حجر عثرة أمام تنفيذ المشاريع في آجالها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المشاريع التي ينتظر التونسيون الانتهاء منها مشروع ميناء المياه العميقة بالنفيضة في محافظة سوسة (شرق)، وتهيئة ملعب المنزه الأولمبي وهو منشأة رياضية في قلب العاصمة، والمتوقف منذ أشهر بسبب إشكالات قانونية تتعلق بعدد من الصفقات.

وأحصت رئاسة الحكومة التونسية إلى أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 نحو 928 مشروعاً معطلاً تعود نسبة مئوية كبيرة منها إلى مشكلات ذات علاقة بالصفقات الحكومية.

وبسبب النصوص القانونية القوية و”المتحجرة”، فإن كثيراً من المشاريع تتعطل في تونس لأشهر أو لأعوام بسبب ما يعرف في أوساط الأعمال بعدم جدوى الطلب ليقع إسقاطه، مما يستدعي إعادة الصفقة مجدداً.

مدخل لتحسين مناخ الأعمال

وبشهادة كثير من المتدخلين والمستثمرين فإن إصلاح القوانين المنظمة لقطاع الصفقات الحكومية بإمكانه أن يكون عنصراً محفزاً حقيقياً للاستثمار المحرك لبقية القطاعات الأخرى، بما يحدث ديناميكية استثمارية جديدة في البلاد.

يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي بالجامعة التونسية، آرام بلحاج، إنه على رغم الجهود المبذولة في سبيل دفع الاستثمار، فإن هذا الأخير يبقى مكبلاً بإجراءات قانونية معقدة وبعوائق إدارية مهمة.

ويتابع “لئن نجحت تونس في تحسين ترتيبها في مؤشر سهولة الأعمال، فإن معظم المستثمرين والمتدخلين في كل ما يخص مناخ الأعمال ما زالوا ضحايا النصوص القانونية المكبلة والإجراءات البيروقراطية المعقدة”، مبرزاً أن السياسة الجزائية في تونس استدعت في كثير من الأحيان مراجعة عميقة تتقاطع مع التعطيلات التي تقف حجر عثرة أمام المبادرة الخاصة.

وأضاف آرام بلحاج “على رغم إدخال تعديلات وتحسينات على التشريعات ورقمنة جزء من السلاسل القيمية للصفقات العمومية، يظل عامل الرشوة والفساد أكبر عائق أمام الاستثمارات”.

وختم تصريحه بتأكيد أن إصلاح الصفقات الحكومية يجب أن يكون جذرياً، ولا يشمل بعض النقاط أو المحاور وأن يكون محل استشارة من الفاعلين الاقتصاديين في البلاد.

نقلاً عن : اندبندنت عربية