إلى النساء الإيزيديات الأسيرات يهدي زيرفان أوسي مجموعته الشعرية “يوتوبيا بحجم الكف” الصادرة عن دار “كتب” للنشر في بيروت (2024) ضمن سلسلة “إشراقات”. ويمثل هذا الإهداء الدال التفاتة أولية مفتاحية إلى ما تنطوي عليه التجربة من انحياز واضح إلى الضحايا في مواجهة جلاديهم، ليس فقط في منطقة كردستان جراء الاعتداءات والهجمات الداعشية، وإنما الانحياز للضحايا والمستضعفين والأبرياء على طول الخط أينما كانوا. وعبر 235 مقطعاً شعرياً مكثفاً تستغرق 185 صفحة من دون عناوين فاصلة بين النصوص، يمرر زيرفان أوسي المولود في مدينة دهوك بإقليم كردستان في العراق عام 1986 رسائله التمردية المنفلتة بخطوطها الحمر بلون الدم، والسوداء بلون الظلام، “وردة ذابلة هذه الأرض/ بأي تمرد، أفضح أزليات الحرب؟”.

ويضع الشاعر نصب عينيه أن يكون التعبير الإبداعي دائماً حامي حمى ثورتين، إحداهما ثورة فنية وقودها الإدهاش الجمالي لإحداث تأثير في حركة الكتابة، وثانيتهما ثورة حقيقية فوق أرض الواقع وقودها النضال والكفاح والتمسك بالقيم النبيلة لنصرة المضطهدين وإحداث تغيير في الوجود بأكمله “يحدث أن التراجيديا كانت حرباً بين الخلود والعدم، فانتصرت الحياة”.

قنص السعادة الضالة

ما الخرقة الجديدة في ثوب الأرض، إن لم تكن الحرب؟ ماذا يعني أن تكون مجنوناً غير أن تشهد الحرب بعين الضحية؟

يلملم زيرفان أوسي جراح البشر في كبسولات الحروف المضغوطة ليعيد تفجيرها في الحواس، عسى أن يستفيق ضمير العالم وتستيقظ المشاعر والأحلام من غيبوبتها الطويلة “ماذا تريد مني أيها النسيان؟/ لنتفق مرة على شيء لا يمكن نسيانه/ لنجعل الشمس دليلاً على الشفقة، والنجوم كتاباً للذين يولدون من الأحلام”. ويتسلل الشاعر إلى جبهات القتل المشتعلة ومعسكرات الأسر والسجون الانفرادية باحثاً عن لحظة مفاجئة للسعادة الضالة، وواضعاً وصفات مبتكرة لتحدي العدم “كنا أمواتاً قبل الحب، أصبحنا بعده خلقاً آخر”. ويخاطب الشاعر “البحيرات القلقة، وهي تُسكن المراثي بطبول الحرب، وخوذات الجند”، ويستنهض الحرية كفكرة ومعنى وإرادة لمقاومة التجبر والطغيان، والتصدي للأنظمة الفاشية الفاسدة والتعصب العرقي والديني “أرمي هيبة الملوك في قمامة وأعلن الجنون على العروش”.

صرخات سرية

ماذا تصنع القصيدة للمنسيين والمهمشين والنازحين والنازفين؟ إنها ببساطة تشحن الكلمات النحيفة بالصرخات السرية المحبوسة، وتزرع للرماد لساناً نارياً صادقاً بإمكانه أن يعترض على عبثية الواقع اعتراضاً غاضباً وجميلاً في آن واحد “يرقص الجنود على الجثث فتخرج الدماء من النوتات”. وقد لا يكون ممكناً إسكات طبول المعارك الدائرة لكن لا أحد يقدر على منع القلوب والآذان من الإصغاء إلى النداءات الموسيقية في الآفاق، ولا أحد يقوى على قطع شرايين الانتفاضة والعشق “للجزر الممدودة على جسدك، بقية ثورة لم تكتمل/ إن كنتِ ماء أو سراباً، فهذا الكون يجري في شريان الحب”.

وللكلمات الشعرية أيضاً أن تبقى طوق نجاة وتظل طاقة سحرية تطل منها وجوه الحياة المتنوعة حتى النهاية “من البدء إلى البدء، لا نستطيع أن نجد المأوى إلا في الكتابة/ بها يمكن أن يتحول الرسم الهندسي إلى كائن حي”.

من الخاص إلى العام

“المنفى مادة لزجة تلصقنا دائماً بما هو أسوأ”، إذ يستحضر الشاعر الكردي زيرفان أوسي الحال الإيزيدية القريبة من مداركه المباشرة للوصول بها شعرياً إلى ملحمة كبرى تمس المشترك الإنساني في مجمله، قديمه وحديثه “مذابح الأولين، مذابح الختام، قلاع مطروحة، قلاع مشدودة بالحبل السري”. ويتركز الإيزيديون كمجموعة دينية كردية في كردستان بين العراق وسوريا وتركيا، وقد تعرضوا لميراث طويل من حملات الإبادة الممنهجة والمذابح الوحشية، ومن أشرسها خلال الآونة الأخيرة الهجمات التي شنها ضدهم تنظيم داعش عام 2014 حين قُتل الآلاف وهجروا بأيدي المسلحين، وسقطت النساء أسيرات وسبايا في قبضتهم، وتعرضن لأهوال كابوسية يندى لها الجبين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويمضي الشاعر المستند إلى موهبة فطرية وحصيلة معرفية وثقافتين عربية وكردية من الخاص إلى العام، ليتقصى التفجرات التي لا يخمد وطيسها أبداً في كل الخرائط المكانية والزمانية “بصيرة اللهب موقدة، لم تهدأ للختام، تصقل الآن”. وفي تأملاته يبحر بالفلسفة والرؤى المتعمقة إلى ما وراء المشاهد والأحداث الجارية على السطح “لا أعرف ماذا يريد الملوك غير العرش؟/ أدمٌ يغيره هذا الطريق؟/ طريق تنصاع له ذاكرة وهوية/ لا أعرف، ماذا يريد المحارب غير الانتصار؟ أكل الحروب سواء؟”.

قفزات جامحة

يطلق الشاعر زيرفان أوسي العنان لخياله الجامح كي يقفز من المعلوم المستقر إلى المجهول الذي يحاول استنباطه، ومن الحاضر الجاهز إلى المستقبل الذي يسعى إلى صناعته، فلن يولد أمل إلا بالمغامرة والاقتحام وارتياد الخطر ونسف كل ثابت تحت الأقدام “الشارع حدس مختلف، خالٍ من البشري، خالٍ من الأشياء الضيقة، من الرؤوس الكبيرة، من اليقين”.

وهكذا تتسق معالجة زيرفان أوسي مع التنظير الذي يؤطر به أدونيس تجربة الشاعر على الغلاف الخلفي للديوان “الشعر، بوصفه حياة وحرية وحباً، هو ما تؤسس له اليوم الشاعرات الشابات وعدد قليل من الشعراء الشبان، وتلك هي ظاهرة فريدة من تاريخ الإبداع الشعري العربي، لتبدو الكتابة الشعرية العربية وكأنها تجيء من أفق آخر، أفق الذاتية المتحررة من جميع أنواع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلة المهمشة أو المطموسة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، إضافة إلى المكبوت نفسياً وجسدياً، بصراً وبصيرة ومخيلة”.

والمأمول من هذه الانزياحات الشعرية المغايرة الصادمة في ميدان قصيدة النثر التي يسميها أدونيس تارة “تحولات” وتارة “إشراقات”، أن تتخطى هذه التجارب خريطة الكتابة الشعرية السائدة “وترسم خريطة جديدة لشعر كينوني، استشرافاً لعالم عربي جديد وثقافة جديدة وجمالية عربية جديدة وإنسان عربي جديد وخلّاق”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية