تعد الاتفاقات الثنائية بين لبنان وسوريا على رأس قائمة القضايا الشائكة بين البلدين، والتي كانت مثار خلاف بينهما خلال العقود الخمسة الماضية. ففي لبنان، ترتفع أصوات مطالبة بإعادة النظر في الاتفاقات التي انعقدت في ظل النظام السابق، حيث هيمن الجانب السوري على الحق اللبناني. ولكن في المقابل، تبرز تساؤلات جدية حول تأثير تغيير النظام في دمشق على العلاقات الدولية التي تربط سوريا بدول العالم، وامتداد آثار الاتفاقات والمعاهدات الدولية والثنائية من نظام إلى آخر. وتفرض هذه الإشكالية نفسها بصورة جدية على طاولة البحث على مستوى العلاقات الدولية، وتحديداً في ظل الانقلابات التي تتعرض لها الأنظمة غير الديمقراطية، حيث “يُخلع النظام السابق، ويُجتث من جذوره”، فيما تتصالح الأنظمة الديمقراطية مع عملية التغيير، ويحصل الانتقال بطرق سلمية وانسيابية.
الحكومة السورية “فعلت مصلحتها”
منذ استلام حزب البعث الحكم في سوريا عام 1963، سادت علاقة “متوترة” مع لبنان، وإن اختفت هذه المظاهر في العلن نظراً لتفاوت القدرات بين البلدين، استمرت حالة من النفور “الباطنية” بين الشعب والسلطة على مستوى الدولتين. ففي يوم من الأيام، أراد الرئيس السابق للنظام حافظ الأسد أن تنتظم العلاقة وفق معادلة “شعبٌ واحد في بلدين”، ولكن اختلافات عميقة انعكست عليها، إن لجهة طبيعة الحكم، حيث يسير لبنان وفق حد أدنى من الديمقراطية، إضافة إلى دستور يؤمن بالتعدد، ناهيك عن حراك سياسي متنوّع، من دون أن ننسى ما تعرض له قادة الرأي من بطش واعتقال وصولاً إلى اغتيال المخالفين.
في هذه الأجواء من عدم التوازن، عقد لبنان وسوريا عشرات الاتفاقات والمعاهدات، لم تسلك في أغلبها مسلك التنفيذ بسبب المواقف والتناقضات السياسية.
أهم الاتفاقيات
يتطرق وزير الخارجية اللبناني السابق، عدنان منصور في حديث خاص لـ “اندبندنت عربية” إلى الأجواء المحيطة في الاتفاقات بين لبنان وسوريا، مشيراً إلى أن “أهم اتفاقات ترعى العلاقة بين البلدين هي تلك المعقودة في عام 1981، اتفاق الأمن والدفاع، واتفاق الأخوة والصداقة”.
ويشدد منصور على استمرار مفعول المعاهدات بين الدول، حتى وإن تغيّر النظام، إلا إذا تضمنت بنداً فاسخاً، “يعطي لأحد الأطراف الحق بفسخ الاتفاق، شرط إبلاغ الطرف الآخر بموعد ذلك وأجله”، مؤكداً على تطبيق الدول التزاماتها، حيث يمكن أن تكون الاتفاق ثنائياً، أو متعدد الأطراف، ولا بد من تنفيذه.
وينبه منصور إلى أن “سوريا هي المنفذ الوحيد للدولة اللبنانية إلى العالم، وبالتالي فإن فسخ اتفاق الترانزيت والعبور مثلاً، سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد والبضائع اللبنانية، وعليه في حال اتخذت سوريا إجراءات ضد لبنان، فإننا سنكون أمام مشكلة”، معلقاً على “رفع النظام لرسم العبور في مرحلة سابقة”، حيث “لم تتضمن الاتفاق تحديداً للرسم، لذلك استنسبت الدولة في فرضه وفق مصالحها المالية، وتأمين واردات لتعزيز الخزينة، علماً أن ذلك يحصل بالتوافق”. كذلك شملت قائمة الاتفاقات، تنظيم العمالة، ومنح اعفاءات استثنائية، إذ يشير منصور إلى أنه “من حق لبنان فرض قيود على دخول العمالة من سوريا، وهناك حق سيادي، لناحية قيام الأمن العام بالتدقيق في هوياتهم وخلفياتهم”، مضيفاً أنه “قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان كان هناك قرابة 400 ألف عامل سوري، يقومون بأعمال البناء، والزراعة، والمهن التي لا يحب اللبناني القيام بها، لأنه يفضّل السفر”. وينوه إلى أن “من حق اللبناني التملك في سوريا، والعمل هناك، ولكن لا إقبال على ذلك من جانبنا”.
الجو السياسي الضاغط
ويقر الوزير منصور بتأثير الوضع السياسي على تفعيل الاتفاقات بين البلدين، ويقول “لاحظنا أن توتر العلاقات ليس ناجماً عن طبيعة العلاقة بين البلدين، وإنما جاءت انعكاساً للوضع الداخلي اللبناني، بسبب وجود أطراف تعادي النظام وترفض ما تسميه الوصاية السورية على لبنان. ومن هنا، اصطدم القرار داخل مجلس الوزراء بالاختلافات مع المعارضة، لذلك حدث شلل في العلاقة بين الدولتين، أي لبنان وسوريا”. ويجزم “أياً كان النظام في سوريا، لن تكون مصلحة لبنان هي الأولوية، لأن الوضع الاقتصادي السوري منهار، وستعمل أي حكومة سورية لتأمين مداخيل”، وهذا ما جرى عبر التاريخ، حيث حاول رؤساء سوريا التدخل في لبنان بسبب التفاوت في الحجم، حيث تبلغ مساحتها 185 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها 32 مليون نسمة. من هذا المنطلق، يدعو منصور إلى “الحفاظ على علاقات المودة بين البلدين، لأنها متنفس لبنان إلى العالم العربي”.
من جهة أخرى، يجيب منصور على “المحاولات السورية المتكررة للهيمنة على القرار اللبناني”، بالقول إن “المصالح هي التي تحكم العلاقات بين الدول، وكل حكومة تحاول تأمين مصالحها الخاصة، ومن ثم تبحث عن مصلحة الآخرين”، مسلطاً الضوء على اتفاق توزيع مياه نهر العاصي بين البلدين، حيث أعطي لبنان حصة أقل مما يمنحه إياها القانون الدولي، وهي 22 في المئة، على رغم أن لبنان هو بلد المنبع، وسوريا بلد الممر، وتركيا المصب عند لواء الاسكندرون، مقارناً إياه باتفاق تقاسم مياه الفرات بين تركيا، وسوريا والعراق، حيث قررت تركيا الحصة التي يمكن منحها للعراق وسوريا باعتبارها دولة المنبع، ووضعت سقفاً لها بحدود 500 متر مكعب في الثانية وفق اتفاق 1978. وتتوزع تلك الحصة كالتالي 52 في المئة للعراق، و 48 في المئة لسوريا. وقامت تركيا ببناء عشرات السدود للحفاظ على حصتها والتحكم بها في فصل الصيف.
ثورة أم انقلاب؟
وشهد الفقه الدستوري جدلاً حول أثر الانقلاب والثورة على هوية الدولة، وإلغاء الدستور وسنّ دستور جديد، وعلاقاتها الدولية. وهذا الأمر، نعاينه حالياً في معرض بناء “سوريا الجديدة”، بعد أعوام من المأزق بسبب الخلاف على إعادة تكوين السلطة، والانتقال من الأحادية الحزبية إلى الاعتراف بالتعددية وتداول السلطة.
يتطرق الفقيه الدستوري محمد المجذوب في كتابه “القانون الدستوري والنظام السياسي” إلى الفارق الجوهري بين الثورة والانقلاب، مؤكداً أن “الاختلاف لا يكمن في المصدر الذي يقوم بالحركة، بل في نوع الهدف الذي يرمي إليه كل منهما. فالثورة تهدف إلى تغيير الحكام وتغيير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإقامة نظام جديد. أما الانقلاب فيقتصر غالباً على تغيير الحكام، أو استبدال حاكم بحاكم، والاستئثار بالسلطة، من دون التعرض لنظام الحكم. وهذا يعني أن الثورة التي تصدر عن الشعب تهدف إلى تحقيق الصالح العام للشعب، في حين أن الانقلاب الذي يصدر عن فرد، أو مجموعة سياسية أو عسكرية، يسعى لتحقيق مصلحة فرد أو جماعة”، مشيراً إلى أن “نجاح الثورة يؤدي غالباً إلى القضاء على الحكم القائم وإسقاط الدستور”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، يتحدث المحامي الدكتور جاد طعمه عن “تساؤل مشروع يطرح اليوم حول مصير الاتفاقات الثنائية الموقعة بين لبنان وسوريا، في ظل حالة الانقلاب، وما يرافقها من ضبابية المشهد السياسي والأمني، ما قد يؤثر في العلاقات بين لبنان وسوريا”، منوهاً إلى أن “الاتفاقات الثنائية تشمل مواضيع التعاون الأمني والعسكري، والتبادل التجاري، والتنسيق في مجالات المياه والنقل، فضلاً عن اتفاقات الحدود التي كانت محل نقاشات مستمرة”.
ويلفت المحامي طعمه إلى أن “التزام لبنان بالاتفاقات الثنائية يبقى قائماً، باعتباره موقفاً مبدئياً في إطار احترام القانون الدولي، ومبادئ الاستمرارية في العلاقات الدولية المستند إلى اتفاق فيينا للعلاقات الدبلوماسية كما الأعراف الدولية. ووفقاً لهذا المبدأ، “تظل المعاهدات والاتفاقات سارية حتى وإن شهدت سوريا تغيرات سياسية في القيادة، ما لم تُلغَ أو تُعدّل رسمياً عبر القنوات القانونية المتبعة بين البلدين”.
ويطالب طعمه بالتمهل قبل الحكم على المشهد السوري العام، حيث “سيكون لزاماً أيضاً ترقب الموقف الدولي من الانقلاب الحاصل، كذلك موقف حكومة دمشق الجديدة، فالاعتراف الدولي بهذه الحكومة سيكون له تأثير في كيفية التعامل مع هذه الاتفاقات. فإذا لم تحظَ الحكومة الجديدة بالاعتراف الدولي فإنها لن تستمر بالحكم، وبالتالي لن تستطيع أن تقرر ما تريد اتخاذه من إجراءات، أما إذا حظيت الحكومة الجديدة باعتراف دولي واسع، فإن من حق لبنان وسوريا اتخاذ القرار باستمرار التعاون سنداً لأحكام هذه الاتفاقات الثنائية الموقعة سابقاً، أو ممارسة أي دولة طرف لحقها في مراجعة البنود، إن تطلب الوضع الجديد ذلك”.
ويعتقد طعمه أن “الوضع السياسي في لبنان، الذي يتسم بتنوع وانقسام داخليين، سيلعب دوراً حاسماً في تحديد ما إذا كان لبنان سيتابع الالتزام بهذه الاتفاقات بالكامل أم سيُضطَر إلى إعادة تقييمها وفقاً للتطورات السياسية والأمنية والضغط الدولي الذي سيمارَس”.
تمسك لبناني
لبنان الرسمي أعرب عن تمسكه بالاتفاقات الثنائية على لسان وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، هنري خوري، فقد أكد في تصريح صحافي أن “الاتفاقات الدولية، بما ذلك اتفاق الحدود بين لبنان وسوريا، لا يمكن تعديله أو إلغاؤه من طرف واحد”، مشيراً إلى أن تعديل الاتفاقات التي تشمل قضايا المياه والزراعة وغيرها من المجالات، ممكن، إذا كانت محددة بمدة زمنية، لكن أي تعديل يجب أن يتم بموافقة الدولتين المعنيتين. أما في ما يتصل بالاتفاقات الدولية، فإنها عملية معقدة، وتفترض سلوك خطوات عبر قنوات دبلوماسية رسمية، وأن تتماشى مع القوانين الدولية، تفادياً لأي توترات أو نزاعات محتملة”.
الجزاءات الدقيقة
وتثير التطورات السورية مشكلة إضافية حول “استرداد المجرمين” في ظل تصاعد الشبهات بهروب مشتبه بتورطهم بأعمال التعذيب والفساد، من سوريا إلى لبنان. ويؤكد الوزير السابق منصور أنه “في حال وجود اتفاق استرداد مجرمين بين الدولتين، يجب أن يلتزم بتطبيقه واحترامه في حال عدم وجوده يتم اللجوء إلى السلطة الاستنسابية، عندها تبرر الدولة قرارها”. ويذكر منصور بأهمية عقد الاتفاقات بين الدول، ويضيف “واجهت حالة أثناء تولي المسؤولية، عندما كان هناك مجرم وتاجر مخدرات موقوف في لبنان، وكان مُلاحقاً في آن من لبنان والولايات المتحدة لمحاكمته. في حينه قررت أثينا تسليمه إلى لبنان بسبب وجود اتفاق استرداد مع لبنان في مقابل عدم وجود اتفاق مماثل مع الولايات المتحدة”.
ورداً على سؤال الجزاءات التي يمكن أن تتعرض لها الدولة في حال انسحابها من المعاهدات الدولية، يجيب منصور بأن “هناك بعض الاتفاقات التي يؤدي الانسحاب منها أو خرقها إلى حرب، على سبيل المثال، اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل المعقود في عام 1949، والأمر نفسه ينسحب على اتفاقات السلام التي أعقبت الحروب بين الدول، لأنها تعيد العلاقات إلى الفترة السابقة عليها”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية