بدأت في إقليم كردستان العراق حملة استقطاب محمومة قبل نحو أسبوعين من انطلاق الحملات الدعائية للانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، في مشهد مشحون بخطاب تصعيدي بين الحزبين الحاكمين “الاتحاد الوطني الكردستاني” بزعامة بافل طالباني و”الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني.  

ويصنف مراقبون هذا التصعيد ضمن حملة دعائية غير مباشرة تسير على اتجاهين، اتجاه تتبادل فيه القوى المتحكمة بدفة القرار الضرب على وتر إرث الأخطاء والإخفاقات من خلال الخطاب الشعبوي، وآخر تبدو فيه متجانسة حكومياً في توظيف أدوات السلطة لاستمالة الناخب عبر إطلاق المشاريع الخدمية وتوزيع آلاف من الأراضي السكنية وفتح الباب لتوفير آلاف الوظائف في القطاع العام، وما يفرز من تساؤلات حول مدى تأثير هذا النسق مع استخدام المال العام والنفوذ في توجهات الناخب؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا التنافس المتوازي مع الأزمات المتلاحقة في الأداء الحكومي في النتائج؟

حملة مبكرة

ويتوقع أن تشتد الحملات الانتخابية سخونة مع انطلاق الحملة الدعائية في الـ16 من سبتمبر (أيلول) الجاري لخوض الانتخابات التي جاء تنظيمها تحت ضغوط محلية ودولية، بعدما تأجلت لأربع مرات متتالية على وقع خلافات عميقة بين الحزبين الحاكمين، كما يرجح ألا تحتل فيه البرامج الانتخابية تلك الأهمية على وقع تبادل للتهم في إقليم يرزح تحت وطأة أزمات داخلية يغذيها الانقسام السياسي، وتراجع سلطته في ملفات عدة لمصلحة بغداد إثر سلسة من القرارات القضائية الاتحادية، في مقدمها تعليق صادرات نفطه وإلزامه بتسليم إيراداته.

وبدأت الحملة مع إحياء حزب طالباني ذكرى أحداث طرده من مدينة أربيل في نهاية أغسطس (آب) 1996، متهماً نظيره الديمقراطي بـ”الخيانة” لتعاونه مع قوات نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، مع إطلاق بعض قادته وعوداً باستعادة المدينة عبر صناديق الاقتراع وعدم التمديد لمسرور بارزاني على رئاسة الحكومة.

 

 

وقال طالباني إن “الأخير لن يتحصل على منصب مدير عام من دون موافقتنا”، بينما رد حزب الأخير بتوجيه اتهام مماثل لـ”الاتحاد” لتسليمه محافظة كركوك إلى القوات الاتحادية في الـ16 من أكتوبر 2017، وتعهدت إحدى قياداته باحتفاظ مسرور بمنصبه ورهن مصير نائبه وهو قوباد شقيق بافل طالباني بنتائج الانتخابات.

اختلاق عدو وهمي

واحتلت أربيل مواضيع الخلاف، عبر البيانات وإقامة وقفات لجماهير وهم يحملون أعلاماً ويهتفون باسم المدنية كل لمصلحته، فيما يتوقع أن تكون أزمة المرتبات الناجمة عن استمرار الخلافات بين حكومة الإقليم وبغداد عاملاً مؤثراً في قرار الناخبين، إذ لم يتلق الموظفون مرتباتهم عن يوليو (تموز) الماضي إلا بعد مرور نحو 60 يوماً، ليضاف إلى الغضب الشعبي القائم جراء تدهور الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وتزايد الانتقادات من استمرار ظاهرة الفساد وارتفاع غير مسبوق في الضرائب، ناهيك عن الغلاء المعيشي.   

وفي قراءة للمشهد يرجع مدير المعهد الكردي للانتخابات آرام جمال توظيف القوى لملف الانتكاسات إلى “افتقادها لبرامج واقعية كفيلة باستقطاب الجمهور، وأن العقلية السياسية لا تزال تراوح في النسق التقليدي بخلاف ما كان يتوقع في أن يطرأ اختلاف على يد الجيل الثاني في القيادة السياسية الكردية، وتهدف هذه “البروباغندا” إلى صناعة صورة لعدو وهمي ضمن سياسة الاستقطاب التقليدي السائدة”، مشيراً إلى أن “شعبية القوى الحاكمة تشهد تراجعاً ملحوظاً على رغم احتكارها لأدوات التأثير في قرار الناخب، منها الإمكانات المادية اللازمة في امتلاك إمبراطوريات إعلامية إلى جانب سلطتهما الإدارية والعسكرية”.

مؤشرات لزخم محتمل

ويعد التدني التدرجي في معدلات الإقبال على التصويت من 95 إلى أقل من 35 في المئة منذ أول دورة انتخابية في الإقليم الكردي عاملاً يعكس تراجعاً في الثقة بالعملية السياسية، وعلى رغم صعوبة إعطاء تقديرات حول النسبة المتوقعة للمشاركين في الانتخابات المقبلة فإنه يرجح أن ترتفع بالمقارنة مع 2018 التي كانت أقل من 40 في المئة، بالنظر إلى عدد مستلمي بطاقة الناخب، وعوامل مشجعة أحدثت نقلة نوعية في العملية الانتخابية، منها تنقيح سجل الناخبين من الشبهات والمخالفات، واعتماد نظام الدوائر المتعددة بدلاً من الدائرة الواحدة، وإجراؤها للمرة الأولى تحت إشراف مفوضية اتحادية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتكمن احتمالات ارتفاع نسبة التصويت في تراجع مؤثرات أدوات قوى السلطة في توظيف النفوذ والمال العام عبر منح الأراضي وإطلاق المشاريع وغيرها على خيارات الناخب، بحسب جمال الذي يشير إلى أن “الناخب صار يتقن لعبة الانتخابات، وعلى رغم ذلك فإنه يصعب توقع أن نشهد تغيراً كبيراً في المعادلة في ظل ترسخ سلطة الحزبين ضمن مفهوم الدولة العميقة، فضلاً عن غياب عامل داخلي فعال نتيجة تفتت المعارضة، إلا في احتمال حصول زخم وإقبال كثيف على صناديق الاقتراع لتحقيق نسبة تزيد على نصف عدد المقاعد النيابية”.

التوتر سمة مترسخة

لم يخض الإقليم سوى خمس دورات انتخابية منذ عام 1992، ولم يخل معظمهما من تأجيل وتوترات وعنف ومخالفات، وهذه الانتخابات لا تختلف عما سبقها، بحسب ما يؤكده المتخصص في شؤون الانتخابات كاروان كاظم ذلك أن “حملة الاتهامات بين الحزبين تسببت في تأجيل اجتماع مجلس الوزراء الأسبوع الماضي، وبلغت الأمور إلى التطرق إلى الأمور الشخصية في مخالفة فاضحة للقانون الصادر عن برلمان الإقليم (رقم 1) لعام 1991 الذي يلزم الأطراف الابتعاد عن تعريض السلم الأهلي للأخطار، ويعاقب على استغلال المال العام والمؤسسات الرسمية أو اتباع أساليب شراء الذمم وتبني خطاب التشهير وممارسة الابتزاز”، لافتاً إلى أن “معظم فترات ما قبل مواعيد الدورات السابقة لم ترق إلى متطلبات وضوابط العملية الديمقراطية”.

فضاء فاعل للاستقطاب

وتحتل مواقع التواصل الاجتماعي حيزاً مهماً في فضاء أدوات التأثير في الرأي العام، على وفق كاظم الذي يعتقد أن “القوى المتنافسة تستخدم هذا الفضاء للشحن الجماهيري عبر خطاب متشنج بدلاً من طرح إستراتيجيات وبرامج تصحيحية للأخطاء والأداء الحكومي، وهذا يسري على محدودي الذاكرة من الذين لا يصوتون بناء على كفاءة أداء السلطة أو الحزب، بل وفق مبدأ الولاء والخطاب الشعبوي”.

ويتابع كاظم “على رغم ذلك فإن المؤشرات تظهر تطوراً نسبياً في وعي قسم من الناخبين القادرين على قراءة الورقة البيضاء خارج الإطار التقليدي”.

وإزاء استخدام المال العام باعتباره أداة للاستقطاب استبعد كاظم أن تكون فعالة كما كان يحصل في التجارب السابقة “نتيجة تجاوز النقمة الشعبية الحد الذي يسمح بتغيير الموقف، ولم يعد للوعود ذلك التأثير، ولننظر إلى أزمة المرتبات المستمرة منذ 2015، ونحن اليوم في أوائل سبتمبر تلقى موظفو القطاع العام مستحقاتهم عن يوليو الماضي”.

ويخضع المسار التقليدي للعملية الانتخابية في كردستان لعوامل الخلاف بين الحزبين الحاكمين، وما يملكانه من نفوذ متجذر وأدوات تساعدهما على الاستمرار والمناورة على رغم التحديات والانتكاسات، لكن الإجابة تبقى مبهمة حول مدى قدرة الناخب أو القوى المعارضة الراغبة في إحداث التغيير وفق المتغيرات التي طرأت على مجمل العملية الانتخابية.

تحولات مشجعة

 وفي هذا السياق يحدد منسق عام شبكة “شمس” لمراقبة الانتخابات هوكر جتو شيخة عوامل الاختلاف في الانتخابات المقبلة على إثر قرار قضائي اتحادي “بكونها تجرى للمرة الأولى تحت إشراف مفوضية الانتخابات الاتحادية، مع حصول تحول في النظام الانتخابي من الدائرة الواحدة إلى الدوائر المتعددة مع تقلص عدد المقاعد من 111 إلى 100 مقعد، على رغم أن مشاركة بعض القوى جاءت على مضض نتيجة لهذا التحول،  الذي سيكون له وقعه المؤثر”.

 

 

ويضيف شيخة أن “نسبة مشاركة الناخبين الكرد تراجعت حالها حال بقية المناطق العراقية، بدليل أنه لا يزال آلاف من الشباب الذين بلغوا السن القانوني لم يراجعوا مكاتب المفوضية للحصول على بطاقة الناخب البايومترية مما يعد مؤشراً على أن عدداً كبيراً سيقاطع، وهذا له أسبابه نتيجة عدم التماس في تطبيق الوعود الانتخابية في مختلف القطاعات وكذلك ابتعاد المواطن عن المشاركة في الحياة السياسية، وعليه فإن غالبية المصوتين هم أولئك المناصرون أو المؤيدون للأحزاب، مع تباين النسبة بين دائرة وأخرى”.

وتخوض المعترك الانتخابي 139 قائمة ضمن تحالفين و13 حزباً للمنافسة على 100 مقعد نيابي بما فيها خمسة مقاعد مخصصة للأقليات، تتوزع وفق نظام الدوائر المتعددة الذي يطبق للمرة الأولى على محافظات الإقليم، منها 38 مقعداً لمحافظة السليمانية فضلاً عن ثلاثة أخرى لمنطقة حلبجة وكلتاهما واقعة ضمن نطاق نفوذ حزب طالباني، فيما خصص لأربيل 34 مقعداً و25 لدهوك الخاضعتين لسلطة حزب بارزاني.

انحسار التصويت

وتؤثر بصورة مباشرة جملة من العوامل في قرار الناخب منها التفاوت في الإمكانات بين القوى المتنافسة، وأخرى تتعلق بالطبيعة المجتمعية التي تغلب عليها العلاقات التقليدية والعشائرية، وفق رأي شيخة الذي لفت إلى ما تلعبه أدوات السلطة والنفوذ من دور فاعل في هذا المعترك قائلاً “لو كانت نسبة الطبقة المسحوقة على سبيل المثال تصل إلى 30 في المئة، فإن هذه الأدوات حتماً سيكون لها وقع على خيار هذه الفئة”.

وأوضح أن “تطور وعي الناخب وتوجهاته مرهون بتعدد التجارب الانتخابية، لكن في واقع مجتمعنا لا يبدو أنه بلغ مرحلة مقبولة لكي يتأثر خياره بناء على البرنامج الانتخابي، نتيجة مراوحة معظم فئاته في إطار العلاقات الاجتماعية التقليدية المتأثرة في النفوذ والانتماءات العشائرية والدينية”.

وشبه شيخة ظاهرة تراجع الإقبال على التصويت “بالحال في سويسرا في بدايات القرنين السادس والـ17 عندما كانت الانتخابات تنحصر بأصحاب الوظائف يضاف إليهم أعضاء القوى السياسية”. 

نقلاً عن : اندبندنت عربية