من المبكر الحديث عن التعافي الاقتصادي وعودة مؤشرات النمو الإيجابية في لبنان بعد خمس سنوات من دخول البلاد دوامة الانهيار، إلا أن “الحزم”، الذي أبداه رئيس الجمهورية جوزاف عون، ورئيس الحكومة المكلف نواف سلام، أشاع جواً من الثقة على مستوى الداخل والخارج، وبانتظار أن تصدق الأفعال الأقوال، ظهرت بعض المؤشرات من ارتفاع سندات اليوروبوندز في التعاملات الدولية من ستة إلى 16 سنتاً، مع حديث مؤسسات التصنيف الدولية عن إمكان تحسن التصنيف الائتماني اللبناني. وفي وقت يقدر الناتج المحلي الإجمالي بـ 24 مليار دولار أميركي، والتضخم عند 192 في المئة، ونسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي بـ 195 في المئة، وذلك بحسب بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2023، لا يزال الغموض يحيط باتفاق وقف إطلاق النار، إذ يراهن عليه الداخل والخارج من أجل إطلاق عجلة “إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية”، وترجح وكالة “موديز” تحقيق لبنان انتعاش النشاط الاقتصادي في 2025 شرط الاستقرار، كما يعول اللبنانيون على الإصلاح من أجل بدء مسار إعادة الثقة بالقطاع المصرفي وإنعاش العملة الوطنية وتطوير قطاعي الكهرباء والاتصالات وتحسين الأجور والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وغيرها كثير وكثير من الملفات المعقدة.  

تفاؤل شعبي

داخل إحدى المقاهي التي تعود لبدايات القرن الـ 20، يتحلق الرجال حول الطاولة، ويبدي هؤلاء تفاؤلهم بـ “قرب خروج لبنان من النفق” بعد سنوات القحط، إذ انعكست انتخابات الرئاسة ومشاورات التكليف إيجاباً على “النفسية اللبنانية الجماعية”. ويقول حسام “يمكن الحديث وللمرة الأولى منذ سنوات عدة عن إمكان حل المشكلات المتراكمة”، فيما يبدي غسان تحفظه عن الرؤية المستقبلية للبلاد، لأنه “قبل معرفة ما لدينا وما علينا بشفافية، لا يمكن المراهنة على أي شيء”، فالشاب الأربعيني يشير بصورة واضحة إلى عدم وضوح البيانات المالية والاقتصادية في لبنان. تقود الجولة داخل الأسواق الشعبية إلى مجموعة من الانطباعات، إذ تشهد حركة ملاحظة لناحية الإقبال على السلع الأساسية والضرورية، وتحديداً الطعام والخضروات التي أصبحت بمتناول الجميع بفعل تراجع حركة التصدير. في المقابل تشهد سوق الملابس حالاً من الركود، إذ “يراهن التجار على موسم رمضان وعيد الفطر بعد انقضاء شهر الأعياد” بحسب خالد، وينطبق الأمر نفسه على السلع الفاخرة.
ويعلق ناشر أحد المواقع الإلكترونية الاقتصادية رمزي حافظ على المشهد التفاؤلي الراهن في لبنان، لافتاً إلى أن “الاستقرار الأمني هو الشرط الأساس لتعافي الاقتصاد، الذي له من مقومات ومناعة تمكنه من التأقلم بسرعة كبيرة. ويمكن أن تظهر يوماً بعد يوم، والسوق في حال تفاؤل كبير”. ويستدرك حافظ “إلا أن قيام الدولة وتصديها للمعضلات المزمنة شيء آخر، فهذا سيأخذ وقتاً طويلاً. بعض التغييرات الجذرية ممكنة على المدى القصير، مثل إعادة تمكين المصارف من إقراض السوق، وبعضها يستوجب وقتاً مثل الودائع، وتعويضات نهاية الخدمة في الضمان، والتيار الكهربائي وغيرها”. ويشدد على “دور القطاع الخاص” الذي يجب إعطاؤه الأولوية، مشيراً إلى أنه “كلما تقلص دور القطاع العام ازدادت إنتاجية الاقتصاد وسرعة التنفيذ وتقليص الكلفة وتقليل نسب الفساد وارتفاع نسبة المهنية والحداثة”، أما على مستوى إعادة الإعمار فإن الرهان على “صندوق تمويلي دولي” الذي يعد ضرورة لتوفير التمويل، وهو ما “يجب أن يترافق مع مراقبة دولية تواكب التنفيذ”.     

مسار إصلاحي طويل

ينظر الخبراء الاقتصاديون إلى مسيرة التعافي الاقتصادي بوصفها عملية مركبة وطويلة الأجل، وتحدث الخبير الاقتصادي محمد فحيلي عن “أربع مراحل دقيقة يجب مراكمتها ورصدها وتطبيقها بدقة، وفي هذا السياق ينظر إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية على أنه فرصة لاكتمال السلطات وتكوين المؤسسات الدستورية وتهيئة الأرضية للتعافي”.
ويشهد مسار التعافي حقبات وعقبات عدة يفترض مراجعتها وتخطيها، إذ “يفترض أن يبدأ المسار الرباعي المتمثل بالإنقاذ، ومن ثم الإنعاش والتعافي والنمو”.
وتشكل مرحلة الإنقاذ بالنسبة إلى الفحيلي “نقطة الانطلاق” التي يجب أن تتواكب مع تصويب أداء مكونات المجتمع اللبناني كافة في القطاعين العام والخاص، إذ يفترض أن تتحسن الخدمات التي يقدمها القطاع العام لقاء الأجور في الموازاة، “لا بد أن يتصرف القطاع الخاص بمسؤولية تجاه المجتمع، ومحاربة الاحتكار والمضاربة من خلال تفعيل السلطات الرقابية، وقيام مصرف لبنان وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية بأدوارهم ومهماتهم”. بعد ذلك ينتقل المسار إلى التحقق من بدء التعافي، والالتزام بالقوانين والإجراءات، وتطبيق المصارف التجارية لتعاميم المصرف المركزي، وقانون النقد والتسليف، وإطلاق مسيرة إعادة الإعمار.

فترة الانقاذ

وأكد الفحيلي أنه “يمكن أن تتراوح فترة الإنقاذ والإنعاش بين سنتين وأربع سنوات، على ضوء جدية الطبقة السياسية في تصويب الأداء، فعلى سبيل المثال هناك سبعة مصارف مليئة لأنها نجحت في إعادة تكوين السيولة، وهي قادرة على الاستجابة والتجاوب مع طلبات المودعين، لكن ولأنه لا وجود لجهة رقابية تلزمها بذلك، لا بد من التدخل لإلزامها بتلبية بعض حاجات المودعين جزئياً على مستوى الاستهلاك والطبابة والتعليم. أما على مستوى التعافي فهو يلي إطلاق عجلة الإصلاح، وإعادة هيكلة القطاع العام والخاص، إذ يفترض تصفية المصارف التي تستمر بفعل الغطاء السياسي حصراً، وهو ما لا يمكن أن يكتمل من دون إعادة تكوين السلطة التشريعية، وانتخاب مجلس نيابي جديد، يعكس آمال وتطلعات الشعب اللبناني”. وتابع “مع بلوغ مرحلة النمو يصل لبنان إلى تهيئة الأرضية للاستدامة والاستقرار باستثناء التعرض لصدمة سلبية خارجية للاقتصاد على غرار كورونا أو الحرب الأوكرانية، وتأتي تلك الاستدامة نتيجة لعملية الإصلاح، ومكننة مؤسسات الدولة، واعتماد وسائل الدفع المصرفية، وإقرار التشريعات الضرورية، وإخراج لبنان من القائمة الرمادية، وما يترافق بإعادة هيكلة وجدولة للدين العام، وتحسين تصنيف لبنان الائتماني، ومحاربة اقتصاد الظل غير الخاضع للرقابة، والتخلص منه من أجل التعافي”.      

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مراقبة إعادة إعمار

وتحتل عملية “إعادة الإعمار” موقعاً متقدماً في مسار التعافي اللبناني، وطالب فحيلي بإطار مؤسساتي وتشريعي، يلتزم بقيم النزاهة والحوكمة، متخوفاً من “قيام الدول الصديقة بمساعدة لبنان من دون أية خطوة جدية نحو تصويب الأداء والإصلاح”، لأنه “في حال بدأت عملية إعادة الإعمار حالياً، قد تشهد سقوطاً في شبهات الفساد والهدر والعشوائية”، ففي لبنان تشيع المخاوف من تكرار تجارب الماضي، عندما استغلت الأحزاب عملية إعادة الإعمار لصرف النفوذ وترسيخ الزبائنية وتجييرها لمصالحها.
وتحدث الفحيلي بحزم عن “رفض أن تأتي المساعدات لصالح جهات سياسية بعينها منعاً لشيوع الزبائنية السياسية”، وبالتالي “لا بد أن تأتي الأموال إلى حساب الدولة اللبنانية في مصرف لبنان، التي يجب أن تتعاطى بمهنية وشفافية في مقاربتها الملف”.
من جهة أخرى أشار الفحيلي إلى “إمكان تأهيل البنى التحتية اللبنانية من أجل الإنعاش والتعافي، إذ هناك إمكان للاهتمام ببناء الطرقات وتحسين أوضاع المطار والقطاع الصحي والمياه والكهرباء والإنترنت، من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص بسبب وجود رغبة لدى شركات في الداخل والخارج للاستثمار في هذه القطاعات”. 

مستقبل مشوب بالحذر

خسر لبنان خمس سنوات، لم تتمكن خلالها الحكومات من إطلاق مسيرة التعافي بدءاً بالحكومة التي ترأسها حسان دياب، ومن ثم حكومة نجيب ميقاتي التي استمرت في تصريف الأعمال لأكثر من عامين. ودخلت البلاد مرحلة “التخلف عن سداد ديونها”، وسقطت المحاولات الإصلاحية التشريعية، ولم تصل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى خواتيمها، إضافة إلى الفشل في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة الودائع لأصحابها.
ورأى المحامي كريم ضاهر ضرورة في “وضع خريطة طريقة مستقبلية متكاملة لإخراج لبنان من الدوامة، بدءاً بتحديد الخيارات الاقتصادية والأهداف للبلاد، إذ تترافق كل مرحلة من المراحل برزمة من القوانين”. واشار ضاهر إلى “ضرورة اتخاذ تدابير عاجلة، من خلال اتباع قواعد الرقابة والحوكمة الرشيدة من أجل تحقيق الإصلاحات المطلوبة لتحقيق مصالح الشعب اللبناني، والانفتاح على الخارج والبلاد والمنظمات الداعمة والدائنين وحاملي سندات اليوروبوند، الذين ينتظرون معرفة مصير ديونهم، وكذلك البدء بمعالجة الأزمة الداخلية واستمرار احتجاز الودائع”.

المصارف أولاً

ولفت ضاهر وهو أستاذ جامعي في فرع القانون المالي والضريبي إلى أن “أول غيث الإصلاح إنما يكون بمعالجة أزمة المصارف، لأنها حجز الزاوية في أي إصلاح، وإعادة الأمور للانتظام”، جازماً بأنه “لا يمكن لأي بلاد أو اقتصاد الاستمرار من دون مصارف تقوم بعملية الإقراض، وتخرج البلاد من الاقتصاد الخفي – النقدي الذي يعرض البلاد للسقوط في اللائحة السوداء بعد إدراج لبنان على اللائحة الرمادية”. وشدد ضاهر على تطبيق القوانين النافذة حالياً، لأنها “تعالج جوانب متعددة من الأزمة في انتظار التشريعات الجديدة، لكن لبنان لم يسلك هذا السبيل لأسباب خاصة بالتوازنات السياسية”، كما تطرق إلى “ضرورة إصلاح عمل المؤسسات الرقابية في مصرف لبنان، وذات الصلة بالمالية العامة ومكافحة الفساد”.
ولفت إلى أن “لبنان بحاجة إلى إعادة النظر بالقوانين الموجودة، لتقرير ما هو صالح منها، مما يحتاج إلى تطوير وتعديل أو حتى إلغاء”، معبراً عن أسفه لـ “إقرار عدد من القوانين خلال الأعوام الماضية التي لم تطبق، إما لعدم وجود التدابير والمراسيم التنفيذية، على غرار الإثراء غير المشروع، وقانون التصريح عن الذمة المالية”، مطالباً باستكمال مسار تعديل السرية المصرفية، وإقرار ما تبقى من مراسيم تطبيقية، لكي تتمكن وزارة المالية رفع السرية والهيئات الرقابية داخل مصرف لبنان التي تواجه عقبات في ممارسة مهماتها، ناهيك بتفعيل القانون الذي أنشأ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، إذ لا تمتلك الاعتماد ولا المقومات لتطبيق القانون، وحماية كاشفي الفساد، وحق الوصول إلى المعلومات، وكذلك عدم إقرار المراسيم التطبيقية لقانون الشراء، وهو ما يحول دون استكمال الهيئة عملها. هذه الرزمة من القوانين تحتاج إلى مبادرة الحكومة الجديدة لاتخاذ تدابير عاجلة لتطبيقها، بحسب ضاهر الذي أكد أن “هذه القوانين موجودة ولا تحتاج إلى ورشة جديدة، إلا إذا أرادت الحكومة مواصلة ما أقرته حكومة حسان دياب في مايو (أيار) 2020، لناحية مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة”، وصولاً إلى قوانين استقلال القضاء العدلي والإداري.

العائدات الضريبية

كما شدد ضاهر على “الحاجة إلى زيادة دائرة المكلفين لزيادة العائدات الضريبية، وتأمين مداخيل لتأمين الخدمات العامة، على غرار المقيمين في لبنان، الذين يملكون حسابات في الخارج ويؤمنون أرباحاً”، كما يجب منح رقم ضريبي للجميع، وإجراء البلديات مسحاً للمؤسسات كافة القائمة في نطاقها، التي لا تصرح لوزارة المالية، إضافة إلى بدء التحول الرقمي من أجل مكننة الإدارات ورقمنة المعاملات والحد من الفساد. وطالب ضاهر بـ “إعادة النظر في المالية العامة وإعداد الموازنة، والانتقال من موازنة تقوم على البنود، إلى موازنة المهمات والنتيجة، وهو ما يسمح بمحاسبة الحكومة وتحسين حوكمة الإدارات الرسمية”. وشدد على ضرورة إقرار قوانين تشجع الاستثمارات تؤمن الاستقرار وتمنح حوافز للمستثمرين من أجل جذب الأموال الأجنبية وتحقيق النمو والتنمية المستدامة”، مذكراً بقانون “إيدال” الذي، على رغم تحريفه والسير به عكس الجدوى المطلوبة، إلا أنه يمكن اعتباره خطوة مقبولة، ناهيك بوضع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص موضع التنفيذ، وخفض كلفة الإنتاج من خلال تحسين الخدمات والبنى التحتية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية