مر الاقتصاد الليبي بسنة صعبة بسبب تقلبات إنتاج النفط والانهيار في الربع الثالث من العام الحالي بسبب أزمة سياسية بين الفرقاء على رأس السلطتين.

وتحسن إنتاج النفط الليبي بصورة ملحوظة خلال الأسابيع الأخيرة ليصل إلى 1.42 مليون برميل يومياً، وهو أعلى مستوى له منذ أكثر من عقد، مما دعم التوقعات التي تشير إلى إمكان استرداد الاقتصاد الليبي عافيته مسترجعاً زخم النمو الاقتصادي في العام 2025، وفق المؤسسات المانحة.

في المقابل، يرى متخصصون أن النشاط لا يزال هشاً في ليبيا على خلفية توقف الاستثمار العام وغياب كبير للقطاع الخاص وانعدام الحوكمة والرقابة مع استشراء الفساد، وسط غياب قطاعات برمتها من شأنها دفع الإنتاج وخلق فرص عمل ورفع الاستهلاك مثل الصناعة والزراعة والخدمات، لتظل التقديرات مستندة أساساً إلى القطاع النفطي، على رغم ما تتمتع به ليبيا من موارد بشرية وقطاع خاص واعد وثروات زراعية وتقاليد في المجال التجاري.

وتوقع البنك الأفريقي للتنمية معدل نمو قدره 6.2 في المئة للاقتصاد الليبي عام 2025، مستنداً إلى أهداف المؤسسة الوطنية للنفط التي تتوقع تجاوز مستوى الإنتاج 1.5 مليون برميل يومياً بحلول نهاية العام نفسه.

وأشار إلى أنه في حال استمرار هذا التحسن، فقد يؤدي إلى فائض في الموازنة يبلغ نحو 8.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، على رغم الأخطار المرتبطة بزيادة الإنفاق الاستثماري الذي خططت له الحكومة لمكافحة الفيضانات في مدينة درنة الساحلية الشرقية. ولفت البنك في توقعاته إلى اتساع عجز الحساب الجاري ليصل إلى 2.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العام الحالي، ليحقق فائضاً 22.3 في المئة عام 2025.

توقعات البنك الأفريقي أرجعها إلى الزيادة المرتقبة في صادرات النفط والغاز بدعم من الاستثمارات الإضافية في المؤسسة الوطنية للنفط والاتفاقات مع الشركات الأجنبية لزيادة إنتاج المواد الهيدروكربونية.

وخلافاً لذلك، رأى البنك الدولي أن حل أزمة القيادة في مصرف ليبيا المركزي أدى إلى انتعاش كبير في إنتاج النفط، لكنه توقع انكماشاً في النمو 2.7 في المئة العام الحالي، معتبراً أن الآفاق الاقتصادية مرهونة بالوضع السياسي ومشترطاً نجاح الجهود لتنويع الاقتصاد بعيداً من المحروقات.

وأشار البنك إلى التأثر بتراجع إنتاج النفط بنسبة 8.5 في المئة بسبب أزمة البنك المركزي الليبي، إذ انخفض من 1.17 مليون برميل يومياً إلى 0.54 مليون برميل يومياً في سبتمبر (أيلول) الماضي، ثم ارتفع إلى 1.3 مليون برميل يومياً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، في وقت لم تزِد أسعار النفط على 80 دولاراً للبرميل مع تراجع الطلب وتزايد الأخطار الجيوسياسية.

لكن البنك الدولي توقع في الوقت نفسه انتعاش الإنتاج إلى 1.2 مليون برميل يومياً عام 2025، و1.3 مليون برميل يومياً عام 2026، مما سيعزز النمو إلى 9.6 في المئة عام 2025 و8.4 في المئة عام 2026، على أن يصل النمو غير النفطي إلى 1.8 في المئة خلال العام الحالي مع فائض في المالية العامة 1.7 في المئة من الناتج المحلي بسبب انخفاض الإنفاق والواردات وعلى رغم تراجع الإيرادات النفطية.

خسائر واعتماد متفاقم على النفط

وأوضح البنك الدولي الاتجاهات الاقتصادية في ليبيا على مدى العقد الماضي التي كرسها عدم الاستقرار السياسي، مقدراً  الخسائر بنحو 600 مليار دولار منذ عام 2015، وانتقد الاعتماد على النفط من دون التنويع بين القطاعات، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية وانعكاس ذلك على المجتمع.

ويمثل النفط 97 في المئة من الصادرات الليبية و68 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر 90 في المئة من عائدات الضرائب، في حين تهيمن على موازنة ليبيا نفقات الأجور والدعم على حساب الاستثمار، وبلغ معدل البطالة نسبة 18.5 في المئة أكثر من 50 في المئة منها لدى الشباب، ومن المرجح أن يظل التضخم معتدلاً عند 2.6 في المئة عام 2025، مما يعكس الاستقرار المتوقع لأسعار الغذاء العالمية وفق البنك الأفريقي للتنمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتقدر مساهمة القطاع الصناعي بين النفط والغاز والرصاص في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 61.7 في المئة مقارنة بـأربعة في المئة للصناعة التحويلية و2.8 في المئة للزراعة خلال الفترة ما بين عامي 2004 و2022، وفي 2022 كانت حصص العمالة في الخدمات 70 في المئة والزراعة 9.2 في المئة، أي أعلى من حصصها في الإنتاج، مما يشير إلى انخفاض الإنتاجية.

 “لم تحقق ليبيا التحول الهيكلي المستهدف بعد رحيل نظام معمر القذافي بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية وعدم توافر الاهتمام بالتنويع الاقتصادي، وأصيبت قطاعات عدة بالشلل بسبب أكثر من عقد من الصراع”، يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي والمسؤول الليبي السابق أبو بكر طور في تحليله لـ”اندبندنت عربية”.

ويوضح أن “الحكومة خصصت نحو179  مليار دينار ليبي (36.6 مليار دولار) لموازنة العام الحالي” التي وصفها بالضخمة والمهددة للاحتياطات العامة للدولة، مما قد يؤدي إلى عجز، قائلاً “الموازنة تخضع لمختلف الحاجات والأجور ونفقات التسيير التي تمتص أكثر من 54 في المئة من مواردها، مما قد يضطر الحكومة إلى التغطية من الاقتراض من المصرف المركزي”، وأضاف أن هذا ينعكس سلباً على المؤشرات الأساسية وأهمها مستويات التضخم وارتفاع الأسعار وكذلك الاقتراض الخارجي على رغم امتلاك الدولة أكثر من 90 مليار دولار مخزوناً للعملات.

الفساد والنهب المنظم

ويمثل عجز الدولة في مواجهة الفساد المستشتري أبرز العوائق أمام تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، في ظل انتشار الفساد المالي والإداري والتهريب وعدم قدرة الأجهزة الرقابية والقضائية والسلطة التنفيذية على محاربته بسبب الأوضاع الأمنية المؤثرة في هذه المؤسسات ضمن المناطق كافة شرقاً وغرباً وجنوباً.

وقال طور “في انتظار التعامل مع هذه الآفة في حال التمكن من إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية وتشكيل حكومة موحدة تكون مسيطرة على كامل التراب الليبي وتحظى بالاعتراف الدولي”، مشيراً إلى أن “الاقتصاد الليبي يحتاج إلى الاستفادة من كل الإمكانات المتاحة للبلاد مثل موقعها وقدراتها المتعددة التجارية والزراعية والصناعية والسياحية والطاقية، بعيداً من النفط بحكم موارد الطاقات البديلة التي تتوافر بها”.

وقال المحلل مصطفى عبدالكبير إن “ليبيا لم تتمكن من استعادة النشاط الاقتصادي بسبب طغيان الفوضى والانقسام على الساحة السياسية، ولم تستعِد جميع القطاعات نسقها بسبب خوف الفاعلين الاقتصاديين من استشراء الفساد وسيطرة مناخ عدم الثقة”.

ولفت إلى آفات جديدة تفتك بالعملة المحلية الليبية إضافة إلى الخمول الاقتصادي والتهريب، إذ يخضع الدينار الليبي لممارسات غير قانونية جعلت من المواطنين رهينة ما يطلق عليه “الشيك المصدق” في غياب شبه تام للسيولة ووضع قيود على حجم السحوبات”، موضحاً أنه “صك يعتمد من قبل الليبيين لتأمين مشترياتهم وهو لا يوفر السيولة للمؤسسات التجارية، بل يتداول بينهم مقابل فائدة محددة لتتمتع بها شركات مضاربة في آخر المراحل تنفرد بحق صرف هذه الشيكات لدى البنك المركزي، مما يفسر الخسائر التي تتكبدها مؤسسة الإصدار والعملة المحلية”.

وتابع عبدالكبير أن “سعر الدينار الليبي تراجع إلى 0.2 دولار حالياً، وهو مؤشر على حجم الفساد، إضافة إلى استنزاف مقدرات الليبيين من طرف شركات محلية وأجنبية على حد سواء، عن طريق عقود وهمية لاستغلال الموارد المنجمية والطاقية، وعمليات تعتمد بمقتضاها العملات الأجنبية عند التوريد والدينار الليبي للتصدير وقد نتج من مواجهة هذه اللوبيات الفاسدة من قبل محافظ البنك المركزي استبعاده”.

وحول النفط، قال عبدالكبير إن “المعارك الدائرة حول المصافي والحقول تفسر تهافت الأطراف الأجنبية عليها بالنهب، بينما لا تنحسر الأزمة عند تعثر إنتاج النفط كما وصفته من قبل الجهات المانحة التي تجانب الحقيقة وترفض الكشف عن الجرائم في حق مقدرات الشعب الليبي، فالاقتصاد الليبي يعاني التخبط بين سلطتين وانتشار الفساد واستنزاف المقدرات من قبل قوى خارجية”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية