حتى لو كانت تتجمل بعض الوقت، إلا أنها تحرص دائماً على ألا تكذب، فدائماً كانت عيون السينما المصرية على هموم المواطن، حتى لو خفتت نبرة الأعمال التي تتناول مشكلات وواقع الجمهور فترة من الزمن. إلا أنها في الأقل بالنسبة إلى قضية مثل قضية الإنسان والعمران بما يترتب عليها من متغيرات اجتماعية تؤثر في حياة الأفراد، ظلت حاضرة على مدى عقود.
وحاولت أفلام مصرية عدة أن تنبه إلى كل جوانب تلك المعضلة التي بدأت بالظهور بصورة واضحة وملحوظة تقريباً منذ سبعينيات القرن الماضي، تزامناً مع سياسة الانفتاح وعدم انضباط السوق، وأيضاً مع زيادة أعداد السكان والحاجة إلى زيادة أعداد العقارات التي يمكن لمحدودي الدخل شراؤها، واستعرضت الأعمال تأثيرات هذه المشكلة المزمنة في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والعائلات.
أيضاً، الدراما التلفزيونية لم تقف متفرجة، إذ حرصت على استعراض هذه المشكلة المزمنة التي لا تزال فصولها مفتوحة على رغم تعدد المشاريع السكنية في البلاد أخيراً. فبخلاف المدن الجديدة التي جرى تعميرها على مدى أكثر من نصف قرن، توجد مشاريع حكومية إسكانية كثيرة ملأت جزءاً كبيراً من الفجوة، نظراً إلى أثمانها التنافسية وخطط سدادها الملائمة للمصريين.
لكن مع ذلك، فإن جنون سوق العقارات في البلاد يجد صدى دائماً له على الشاشة. كذلك، فإن معضلة قانون الإيجار القديم من أكثر بنود هذه القضية تعقيداً والتي يبدو أن هناك انفراجة آتية بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً يوصف بالتاريخي بعدم دستورية ثبات الأجرة السنوية للأماكن السكنية في القانون رقم 136 لسنة 1981، المعروف شعبياً بـ”قانون الإيجار القديم”.
دراما الإيجار القديم
قد تكون الدراما التلفزيونية هي الأحدث في ما يتعلق، في الأقل، بأزمة قانون الإيجار القديم، وهو باختصار قانون ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر، ويقضي بعدم خروج الأخير من العقار ما دام أنه يدفع ما عليه شهرياً. بالتالي، مهما كانت القيمة ضئيلة والتعاقد بين الطرفين مرّت عليه عقود طويلة، فليس من حق المالك إجبار الطرف الثاني على زيادة القيمة الإيجارية أو إخراجه، مما يسبب أزمات ومشكلات كثيرة.
وتناول مسلسل “إيجار قديم” الذي عرض قبل عامين هذه الأزمة، إذ يجد البطل نفسه بلا مأوى بعد هدم المبنى الذي يسكن فيه، فيعود إلى بناية قديمة كان قد تركها له أبوه، وهي مؤجرة على طريقة “الإيجار القديم”. ويفشل رمزي في أن يقنع أحد السكان بترك وحدته، فيضطر إلى التشارك في الشقة مع جار يعيش بمفرده، لكن بعد وفاة الأخير يفاجأ بأن ابنه يعود للاستحواذ على الشقة، فتنشأ بينهما نزاعات قضائية. القضية جرت مناقشتها في إطار اجتماعي، واستعرضت العلاقات بين الجيران ومتغيراتها.
بينما مرّ المسلسل الكوميدي “على باب العمارة” الذي عرض العام الماضي على هذه المعضلة التي تؤرق ملايين المصريين، من خلال سعي صاحب البناية إلى “تطفيش” السكان المرتبطين معه بتعاقد على طريقة قانون الإيجار القديم بمبالغ زهيدة، كي يجلب بدلاً منهم ساكنين جدد يدفعون مبالغ أكبر مقابل استئجار الوحدات.
وهي المساعي نفسها التي نجح فيها مالك العمارة السكنية الشهيرة التي كانت بطلة رئيسة في مسلسل “سابع جار” الذي عرض عام 2017، إذ رضخ السكان لطلباته، وحرروا عقوداً جديدة تضمن له الحصول على مبالغ مالية عادلة وكبيرة وإنهاء عقود الإيجار القديمة، خوفاً من خسارة بيوتهم التي تربوا وعاشوا فيها على مدى أكثر من جيل، وسط إصرار المالكين على بيع العمارة وهدمها.
وقد يكون هذا العمل الذي كتبته هبة يسري وشاركت في إخراجه من أكثر المسلسلات الحديثة نضجاً في تناول العلاقات المعقدة والمتشابكة بين السكان، بطريقة واقعية لامست كثيرين. كما استعرض بذكاء التعايش بين أنماط العائلات المختلفة، وربما المتناقضة، فهناك شخصيات منفتحة، وأخرى تتمسك بالعادات والتقاليد، وكل هذا في إطار كوميدي اجتماعي.
كذلك عرضت حكاية “ألفريدو” من مسلسل “55 مشكلة حب” جانباً من قصص الإيجار القديم، إذ إن البطلة كانت تعيش في صراع مع صاحب العقار الذي تسكن فيه بنظام قانون الإيجار القديم لأنه يريد أن يبيعه لأحد المستثمرين.
ويعتبر مسلسل “أهلاً بالسكان” 1984 من أشهر الأعمال القديمة نسبياً التي تناولت مشكلات السكن، إذ يجد قاطنو أحد العقارات أنفسهم في مأزق بعد أن يصبح مهدداً قانوناً بالإزالة. والعمل من تأليف فيصل ندا وبطولة حسن عابدين ونبيلة السيد وسحر رامي، وقد حقق نجاحاً كبيراً نظراً إلى مساحة الكوميديا به ولتعاطف الجمهور مع حالات العائلات المختلفة.
قضية حساسة
وترى الناقدة المصرية ماجدة خيرالله أن هناك عدداً جيداً من الأعمال التلفزيونية التي عالجت قضايا السكن لدى المصريين، وتشير إلى أنه من الجيد أن يهتم صناع الدراما التلفزيونية الحديثة بهذا الموضوع، لكن في رأيها أن الباع الأكبر كان للسينما، مضيفة أن “أزمة السكن موجودة على أرض الواقع منذ عقود طويلة جداً، بالتالي فطنت إليها السينما منذ زمن، إذ تناولت أحوال ساكني المقابر، وكذلك حالات بيع الشقق أكثر من مرة، أو إقدام بعضهم على القبول بعرض زواج ما عن غير اقتناع فقط بسبب امتلاك الطرف الآخر لشقة سكنية”.
وتنوّه خيرالله إلى أن هناك تراجعاً ملحوظاً في اهتمام السينما بهذا النوع من القضايا خلال الأعوام الأخيرة، على رغم أنها لا تزال ضاغطة. وتعتقد بأنه من الأنسب تقديم معالجة لهذه النوعية من الأزمات المتعلقة بالإسكان بصورة عامة أو بالمتضررين من قانون الإيجار القديم، تحمل قدراً من الحكمة والتوازن، فلا تتلاعب بأحلام الناس، وكذلك لا تكون قاتمة وسوداوية لأنه أمر حساس يخص ملايين العائلات.
ويقدّر عدد الشقق التي تخضع لقانون الإيجار القديم في مصر بنحو مليونين ونصف المليون شقة، إذ يعتقد المستأجر بأن من حقه المكوث في الوحدة وتوريثها لأبنائه لمدة جيل واحد بعده مقابل دفع القيمة الإيجارية التي لا تتوافق أبداً مع متغيرات العصر، إذ إن بعض الشقق الفارهة إيجارها الشهري يوازي نحو نصف دولار أميركي وربما أقل، مبرراً ذلك بأنه دفع مبلغاً كبيراً للغاية، حينما اشتراها بمقاييس الفترة التي جرى فيها توقيع العقد.
وعلى جانب آخر، من المقرر أن يبدأ سريان حكم المحكمة الجديد بعد انتهاء دور الانعقاد التشريعي الحالي لمجلس النواب، تقريباً في منتصف العام المقبل. فيما قانون الإيجار القديم نفسه بدأت إرهاصاته منذ عشرينيات القرن الماضي، وجرى التصديق على تعديلاته في الأربعينيات، وفي مطلع الثمانينيات جرى الاتفاق على تثبيت إيجار العقارات السكنية، وعدم زيادتها من دون الوضع في الاعتبار التضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار وتغيير قيمة العملة.
أبطال الصف الأول يبحثون عن شقة
ولهذا مثلت مشكلة السكن والإيجار بصورة عامة هاجساً في السينما المصرية لاستعراض تداعيات معاناة الأسر في الحصول على مسكن يتضمن المواصفات الأساسية والضرورية التي تراعي المعايير الصحية ومعايير الأمان.
وخلال هذه الرحلة، تتعرض العائلات عادة لتجارب شتى لم تكُن تتخيلها يوماً، فأسرة المهندس أحمد اضطرت إلى تأجير فناء أحد المقابر بعد أن صدر قرار إزالة للمنزل الذي يعيشون فيه، إذ استعرض فيلم “مدافن مفروشة للإيجار” هذه القضية التي كانت شائعة في فترة من الفترات، فكان يلجأ بعضهم إلى السكن حول المقابر، نظراً إلى ضيق ذات يدهم وارتفاع أثمان الشقق.
العمل الذي عُرض عام 1986 من بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي انتهى بأن اضطرت الأسرة المكونة من الزوجين والابن وشقيقة الزوج إلى الإقامة في بهو المحكمة، بعد أن رفعوا قضية ضد قرار إزالة المقابر من أجل بناء كوبري. وكان الأشخاص الأربعة قد جربوا في ما قبل المكوث في فندق حتى تدبير أمورهم، لكن استنزفت مدخراتهم، نظراً إلى ارتفاع الكلفة.
قبل ذلك بثمانية أعوام، كان الفنان محمود ياسين قدم أيضاً تنويعة أخرى على أزمة السكن من خلال “انتبهوا أيها السادة”، وهو الفيلم الذي تناول توحش أسعار الشقق بصورة لا تتماشى أبداً مع دخول الموظفين وحتى ذوي المهن المرموقة، بمن فيهم أساتذة الجامعات. وتقوم البطلة الجامعية في نهاية الفيلم بالموافقة على الارتباط بجامع القمامة الذي أصبح من أصحاب العقارات، بعدما فشل خطيبها الذي عاشت معه قصة حب في أن يوفر لها مستلزمات الزواج وأبرزها الشقة.
ما بين التراجيديا والكوميديا المحملة ببعد اجتماعي واعٍ، جاءت الأفلام التي تماست مع مشكلات المواطنين المتعلقة بالبحث عن مسكن لائق. وكانت ذروة تلك الأعمال خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فقد شهد عام 1986 واحداً من أكثر الأفلام التي اقتربت من هذه الأزمة، واستعرضت مشكلات الطبقة المتوسطة بطريقة أقرب للمأسوية، وهو “الحب فوق هضبة الهرم”، قصة نجيب محفوظ وإخراج عاطف الطيب، إذ يفشل علي (أحمد زكي) ورجاء (آثار الحكيم) في العثور على مكان يعيشان فيه بعد أن تزوجا سراً ليأسهما من تأمين نفقات الزفاف بالطرق التقليدية. وفي نهاية رحلة البحث يعتقلان بتهمة الفعل الفاضح في الطريق العام.
كوميديا الإسكان
ويعتبر فيلم “أزمة سكن” عام 1972 من أوائل تلك الأعمال، وهو بطولة محمد عوض وميرفت أمين، إذ يعاني الموظفون من العثور على شقة ملائمة إلى جوار محل عملهم، ويضطرون إلى الكذب والتدليس من أجل تحقيق هذا الهدف. كما يستعرض العمل مشكلات الشقق المفروشة في ذلك الوقت.
وإن كان “أزمة سكن” يدور في إطار كوميدي، ففيلم “شقة في وسط البلد” كانت به لمحة من التراجيديا، إذ يعاني ثلاثة أصدقاء من أجل العثور على شقة ملائمة لكل منهم، وحينما يتحقق ما أرادوا يتفاجأون بأنها شقة واحدة فقط يتصارعون عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العمل يقول عنه الناقد الفني سامح فتحي، مؤلف كتاب “أهم مئة فيلم وفيلم في السينما المصرية” الذي يقف على الأعمال السينمائية الأكثر تأثيراً في الوجدان وفي المجتمع، إنه من أوائل الأفلام السينمائية في مسيرة المخرج محمد فاضل، ويعتبر من أبرز الأعمال التي تناولت هذه القضية، إذ عرض منتصف سبعينيات القرن الماضي.
لكنه يصنف الفيلم الكوميدي الاجتماعي “الشقة من حق الزوجة” عام 1985 واحداً من أهم الأفلام التي تناولت أزمة الإسكان، إذ ينفصل الزوجان ويبقيان في الشقة نفسها المتنازع عليها قانوناً، ويلفت إلى أن الفيلم الذي أخرجه عمر عبدالعزيز حقق نجاحاً جماهيرياً مستمراً حتى اليوم، إذ يتذكّر الجميع مشاهده الأيقونية بين معالي زايد ومحمود عبدالعزيز اللذين دشنا من خلاله ثنائيتهما الفنية الشهيرة، كما حصد إشادات نقدية كذلك.
ويرى فتحي أيضاً أن من الأفلام التي تقف معه على درجة الأهمية نفسها “كراكون في الشارع” عام 1986 الذي قام ببطولته عادل إمام ويسرا، فيلجأ البطل في النهاية بعد عدم تحمله لمشكلات مساكن الإيواء وفشله في العثور على مكان للعيش فيه مع أسرته، إلى تصميم منزل خشبي متنقل، لكنه أيضاً يطارد من قبل السلطات بسبب عدم قانونيته. وكذلك فيلم “غريب في بيتي” الذي يعتبر فتحي أنه قدّم حالة درامية واقعية تحمل نقداً مجتمعياً لاذعاً كثيراً ما تميز به مؤلفه وحيد حامد ومخرجه سمير سيف، وتناول العمل الذي عرض مطلع ثمانينيات القرن الماضي وقامت ببطولته سعاد حسني إلى جانب نور الشريف، ظاهرة أفرزتها قلة عدد الشقق المعروضة، وهي قيام الملاك بالتحايل على القانون وبيع الوحدة السكنية لأكثر من شخص.
وعلى رغم أن مشكلات السكن لا تزال موجودة، حتى إن اختلفت أسبابها، بخاصة أن هناك توافراً في المعروض، لكن في المقابل تبدو الخيارات محدودة لذوي الدخل المنخفض. إلا أن الاهتمام السينمائي بهذا النوع من القضايا يبدو أكثر تراجعاً في الأعوام الأخيرة. ويعلق سامح فتحي على هذا بالقول إنه حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي كان اهتمام صناع الأفلام بالقضايا الجادة التي تهم قطاعات الجمهور العريضة ملحوظاً، مشيراً إلى أنه في ما بعد تقلص هذا التوجه تماماً.ويضيف أنه “من غير المفهوم سبب تركيز الأعمال الدرامية سينمائياً وتلفزيونياً خلال الأعوام الأخيرة على سكان المجمعات السكنية الفارهة، حيث يبدو الأمر وكأن هناك جهات إنتاجية تقف وراء هذه الأعمال ولها مصلحة في الترويج لنوع معين من العقارات لخدمة أغراضها. بالتالي باتت تنتشر مشاهد الـ”كومباوندات”، وكأن هذه الدراما تخاطب فئة بعينها ولا تهتم ببقية الطبقات”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية