البطلة مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم حبيبها

تريد مرسيدس (إليسا زولوتا) أن تكون الروائية ماريا كارولاينا غيل، وإن التقتها في أحلك ظروفها وقد تلطخت يداها بدماء حبيبها. لمرسيدس أن تكون “فتاة من شمع” كما في قصيدة لغابرييلا ميسترال لكنها “لم تكن مصنوعة من الشمع” أو أنها “حزمة من السنابل واقفة في ساحة الدراس/ لكنها لم تكن حزمة من السنابل/ بل زهرة عباد شمس متيبسة”. الفيلم مغر باقتباس مزيد من قصائد ميسترال (الشاعرة التشيلية التي نالت جائزة نوبل للآداب 1945)، ما دامت من الشخصيات الحقيقية التي لا تظهر في الفيلم إلا أنها مؤثرة فيه، كذلك الأمر مع مواطنتها الروائية ماريا لويزا بومبال (1910 – 1980) التي تظهر عبر كتبها وخبر عنها في قصاصة صحيفة.

الفيلم مقتبس عن رواية بعنوان “القتلة” Las Homicidas من تأليف عليا ترابوكو، وقائم -كما يرد في مطلعه- على أحداث حقيقية، لكنه لا يكتفي أبداً بتلك الأحداث ولا بالشخصية الحقيقية التي يروي حكايتها، أي ما هو متصل بالروائية ماريا كارولاينا غيل (فرانسيسكا لوين)، بل تكون البطولة فيه للشخصية المتخيلة مرسيدس، بحيث تحضر “القاتلة” في حياة مرسيدس وليس العكس، ولا تكون الجريمة التي تقدم عليها ماريا لغزاً ولا مساحة للتشويق ولا أي شيء من هذا القبيل، بل واقعة حصلت في العاصمة سانتياغو في عام 1958، ولكون مرسيدس تعمل سكرتيرة القاضي الذي سيتولى القضية، فإنها تتأثر بتلك الواقعة على نحو يدفعها إلى إيجاد نفسها الضائعة أو اختلاق مساحة وهمية هادئة تجدها في شقة القاتلة، وقد عثرت على نقيضها تماماً، فلا تعود “زهرة عباد شمس متيبسة”، مستعيدة اليانع والمشرق في نفسها، وهنا تحضرني قصيدة أخرى لميسترال لا أقوى على مقاومة إيرادها “سرت على الحمم لزمن طويل/ حتى فقدت قدماي ذاكرة النعومة/ وقضمت الصحراء لسنوات عديدة/ حتى أصبح العطش اسم موطني”، وفي إحالتها إلى ما صارت إليه مرسيدس، فإنها ستستعيد ذاكرة النعومة، وترتوي من عوالم ماريا، مفارقة العطش وإن لحين!

البطلة والروائية

ما الأحداث الحقيقية في الفيلم؟ وما أثرها في حياة مرسيدس؟ وما الذي يجعل مرسيدس “في مكانها” مكان القاتلة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة أن تشكل جوهر سيناريو الفيلم، والقصة الحقيقية وما فيها أن جريمة تقع في فندق “كريون” الفاره في العاصمة التشيلية، إذ تقدم امرأة على قتل رجل في أحد مطاعم الفندق، وعلى مرأى من الجميع، مطلقة عليه خمس رصاصات!

القاتلة هي الكاتبة التشيلية ماريا كارولاينا غيل، التي بمجرد أن تراها مرسيدس وهي تدخل قاعة المحكمة بمعطفها الملطخ بالدماء حتى تؤخذ بها، وحين يطلب منها أن تقصد شقتها لتحضر لها ثياباً غير تلك الملطخة، تدخل عالم ماريا: مكتبتها وأوراقها ومخطوطات رواياتها ودفاترها وكتبها وقصاصات صحفها. تتمدد على أريكتها الجميلة، تنعم بأثاث الشقة، بالمرايا والأزياء الباهرة، التذكارات، التماثيل، مساحيق التجميل، بينما ضوء الشمس يغمر شقتها على عكس شقة مرسيدس المعتمة ليل نهار.

كل ما هو متصل بماريا ينم عن ذوق رفيع، بما في ذلك المسدس أو أداة جريمتها الأشبه بقطعة فنية. ستتبادل مرسيدس مع ماريا بضع عبارات، إلا أنها ستتأثر بها كثيراً، بما يتيح لها اكتشاف المهمل في حياتها وأعماقها. سترتدي ثيابها وتتزين بزينتها، ستصبح أكثر إشراقاً وإقبالاً على الحياة، وتجد مساحتها الخاصة في شقة ماريا، بعيداً من ضجيج بيتها وشخير زوجها. سيكون هذا التأثير آتياً من قراءتها كتبها، من سماعها شهادات الشهود عنها، التي تلتقي جميعاً على أنها امرأة حرة، جامحة، متمردة، لا يحول شيء بينها وبين ما تريد وما تحب، ولتكون هذه الشهادات الأداة السردية الأساس في التعرف إلى شخصية ماريا، واستعادة ملابسات الجريمة.

ستكون دوافع جريمة ماريا محض عاطفية في البداية، فهي قتلت ذلك الرجل لأنه توقف عن حبها، أو أصبح على علاقة مع امرأة أخرى، وهي حين تقدم على فعلتها تلك، تنكب على جثته وتقبل الثقوب التي أحدثتها رصاصاتها في جسده، وتصرخ مطالبة بإنقاذه، وهي في الوقت نفسه ستحتفظ بالصمت حيال دوافعها، وسنعرف من إحدى الشاهدات بأنها رفضت الزواج من حبيبها المقتول، مستهجنة الفكرة أساساً ولتعلق الشاهدة مستغربة “رفضت أن تتزوجه وحين أحب امرأة أخرى قتلته”، وسنرى أن ماريا جن جنونها حين أهداها حبيبها طنجرة ومكنسة كهربائية، وهذه الأخيرة ستكون الهدية التي تتلقاها مرسيدس من زوجها.

لا شيء من عوالم ماريا سيحضر في الفيلم سوى ما أسلفت، ووفقاً للشهود في المحكمة، واكتشاف مرسيدس دافع ماريا، سيمر مروراً عابراً، من خلال قصاصة صحيفة يحمل خبر إقدام الروائية التشيلية ماريا لويزا بومبال على إطلاق ثلاث رصاصات على حبيبها في فندق “كريون”، وهي أيضاً قصة حقيقية لا تذكر تفاصيلها في الفيلم، وما أورده هنا نتيجة بحث، يستكمل حديثاً وجيزاً عنها في الفيلم، يفترض أن المشاهد يعرف القصة سلفاً، فبومبال ارتبطت بعلاقة حب عاصفة مع طيار، وحين هجرها حاولت الانتحار، ومن ثم انتقلت للعيش في بوينس أيريس ومن ثم إلى باريس، ولتعود بعد 10 سنوات إلى سانتياغو وتطلق الرصاص عليه، إلا أنه لم يمت إذ إنها صوبت على ذراعه، ولم تسجن لأن حبيبها السابق أسقط كل التهم عنها.

جريمة ماريا كارولاينا غيل هي محاكاة لجريمة بومبال، وعدا أن مسرح الجريمة واحد، فإن مصير غيل مماثل لها فهي تحبس لشهر أو شهرين في مجمع كنسي تديره الراهبات، وهناك تؤلف كتابها “سجن النساء”، ومن ثم تقوم الشاعرة غابرييلا ميسترال بتوقيع عريضة تناشد الرئيس العفو عنها، فيفعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الدراما في الشق الحقيقي أو الواقعي في الفيلم شديدة القوة، وتحتكم على قابلية استثنائية لمعالجتها درامياً بمقاربات وأساليب متعددة غير التي ظهرت عليه، بوصفها خلفية أو خطاً موازياً لبطلة الفيلم مرسيدس، بحيث تصبح تلك الدراما ثانوية بصورة أو أخرى، باهتة، يتطلب التفاعل معها جهداً جهيداً، ولا أعرف إن كان من الحكمة والدقة أن أعزو ذلك إلى أن مخرجة الفيلم مايتي ألبردي تقدم أولى تجاربها الروائية الطويلة، وهي التي عرفت بأفلامها الوثائقية، وقد سبق أن ترشح فيلماها “الذاكرة الأبدية” (2024) و”وكيل الخلد” (2021) لأوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل، ومن ثم جنحت إلى آلية وثائقية في سرد أحداث الجريمة وما هو متعلق بماريا كارولاينا غيل، أقصد شهادات الشهود! أم أنها أرادت الانحياز إلى الإنسان العادي وحياة البشر العاديين، وأثر الأدب والأدباء فيهم، لتصل بنا إلى اللحظة التي تقول فيها مرسيدس لزوجها “لقد مضغت العتمة لوقت طويل”، ومن ثم نهاية مفتوحة ترى فيها مرسيدس ماريا عائدة إلى شقتها وقد أطلق سراحها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية