في خطوة غير مسبوقة، أحدث تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني “ديب سيك” (DeepSeek) صدمة في الأسواق العالمية منذ إطلاقه في الـ20 من يناير (كانون الثاني)، إذ أظهر قدرة تنافسية عالية مقارنة بنماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة مثل “شات جي بي تي”، وفقاً لتقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

ونتيجة لهذا النجاح، شهدت أسواق الأسهم الأميركية خسائر تقدر بنحو تريليون دولار أميركي، وفقاً لمقالة نشرتها صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، إذ تراجعت أسهم “إنفيديا” بنسبة 13 في المئة، مما أدى إلى فقدانها 465 مليار دولار أميركي من قيمتها السوقية، وهو أكبر انخفاض من نوعه في تاريخ سوق الأسهم الأميركية.

يعزى هذا التراجع الكبير إلى الشعبية المتزايدة لـ”ديب سيك”، وهو تطبيق ذكاء اصطناعي أطلقته شركة ناشئة صينية، مما أثار مخاوف في شأن هيمنة الشركات التقنية الأميركية في المستقبل، وأعاد رسم ملامح المنافسة العالمية في قطاع الذكاء الاصطناعي.

صعود الصين في سباق الذكاء الاصطناعي

لم يعد التفوق الأميركي في مجال الذكاء الاصطناعي أمراً مسلماً به، إذ أصبحت الصين اليوم رائدة في مجال براءات الاختراع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، ووفقاً لتقرير صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية في يوليو (تموز) 2024، قدمت الشركات الصينية أكثر من 38 ألف طلب براءة اختراع بين عامي 2014 و2023، مقارنة بـ6,276 طلباً فقط من الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها، أي ما يعادل ستة أضعاف عدد براءات الاختراع الأميركية، مما يعكس تحولاً نوعياً في موازين القوى التكنولوجية العالمية.

أهمية المصدر المفتوح

أتاح قرار جعل “ديب سيك” مفتوح المصدر للمطورين إمكان تحليل النموذج وتطويره وتعديله بما يتناسب مع حاجاتهم في مجالات متعددة، مثل الأمن السيبراني وتحليل البيانات والذكاء الاصطناعي المتقدم، هذا القرار عزز التعاون بين مجتمع المطورين وأدى إلى انتشار أوسع للنموذج واعتماده بصورة كبيرة في مختلف القطاعات التقنية.

وفي هذا السياق يوضح فيصل المهدي، مبرمج ومطور نظم بخبرة تتجاوز أربعة عقود، أن “تبني ديب سيك لنموذج المصدر المفتوح كان نقطة تحول رئيسة في نجاحه، إذ وفر بيئة تعاونية مرنة سمحت للمطورين بتحسين الأداء وإجراء تعديلات مبتكرة. الأنظمة مفتوحة المصدر هي الخيار الأفضل، لأنها تتيح نظاماً بيئياً مجانياً وقابلاً للتطوير المستمر، كما تمنح فرصة للإبداع من خلال تعديل المكونات وبناء برمجيات جديدة، مع إمكان تحقيق أرباح عبر التراخيص أو خدمات الدعم الفني.

ردود فعل دولية

قررت الحكومة الأسترالية حظر استخدام برامج الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة “ديب سييك” الصينية على جميع الأجهزة الحكومية، معتبرة أنها تشكل “خطراً غير مقبول” على الأمن القومي. وقالت وزيرة الداخلية ستيفاني فوستر، في توجيه رسمي صدر الثلاثاء الماضي، إن تحليل الأخطار والتهديدات أظهر أن منتجات وخدمات “ديب سيك” تمثل مستوى غير مقبول من التهديدات الأمنية للحكومة الأسترالية. وأضافت أنه ستتم إزالة برامج الشركة من جميع الأجهزة الحكومية، الثابتة والمحمولة، بحلول الأربعاء.

وسبقت تايوان أستراليا في اتخاذ إجراء مماثل الأسبوع الماضي، إذ منعت موظفيها الحكوميين من استخدام تطبيقات الشركة الصينية. كما أعلنت الهيئة التنظيمية لحماية البيانات الشخصية في كوريا الجنوبية الجمعة أنها طلبت من “ديب سيك” تقديم إيضاحات في شأن آليات تعاملها مع بيانات المستخدمين، وهو الإجراء ذاته الذي اتخذته فرنسا وإيرلندا.

قد يواجه الأشخاص في الولايات المتحدة غرامات كبيرة أو حتى السجن بسبب استخدام تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني «ديب سيك»، وذلك وفقاً لقانون مقترح حديثاً.

عوامل أسهمت في صعود “ديب سيك”

لم يكن نجاح تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني “ديب سيك” محض صدفة، بل جاء ثمرة استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، مدعومة باستراتيجية حكومية طموحة لتعزيز الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة. ووفقاً لتقرير صادر عن مركز أبحاث الذكاء الاصطناعي العالمي، تجاوزت استثمارات الصين في هذا القطاع 50  مليار دولار أميركي.

كما لعبت القيود الأميركية المفروضة على الشركات الصينية دوراً في تسريع هذا التقدم، إذ دفعت الشركات الصينية إلى تطوير حلول برمجية متقدمة للالتفاف على حظر الشرائح الإلكترونية المتطورة، ومع ذلك لا يمكن استبعاد دور السوق السوداء في توفير بعض هذه الشرائح، إذ تلجأ بعض الشركات، على رغم العقوبات، إلى وسطاء أو شبكات غير رسمية للحصول على التقنيات المحظورة، وإن كان من الصعب تقدير حجم هذه العمليات أو إثباتها.

وعلى رغم الضجة التي أحدثها “ديب سيك”، لا تزال المعلومات المتاحة حوله محدودة، إذ تعتمد الشركات الصينية نهجاً حذراً في الإفصاح عن تفاصيل تقنياتها المتقدمة، مما يثير تساؤلات حول القدرات الحقيقية للذكاء الاصطناعي الصيني. ويبدو أن السرية التي أحاطت بمراحل تطوير “ديب سيك” شكلت ورقة رابحة، عززت عنصر المفاجأة وأعادت رسم مشهد المنافسة التكنولوجية العالمية.

تهديد دائم أم أزمة عابرة؟

حالة الذعر التي اجتاحت الأسواق الأميركية والعالمية بعد إطلاق “ديب سيك” تعود للاعتقاد بأن السيادة الأميركية على الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في نماذج اللغة، كانت مطلقة. المنافسة الصينية المتزايدة، كما يظهر في تفوق منصات مثل “تيمو” على “أمازون” في بعض الأسواق، عززت القلق في شأن الهيمنة التكنولوجية الأميركية. إضافة إلى ذلك، المخاوف الجيوسياسية والأمن السيبراني زادت التوتر، خصوصاً مع احتمالات استخدام “ديب سيك” في الهجمات الإلكترونية.

الصراع المفتوح والتعاون التنافسي

مع تسارع التطورات في الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، أصبحت المنافسة بين الصين والولايات المتحدة واحدة من أهم العوامل التي ستحدد ملامح الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا الحديثة، وربما يمثل “ديب سيك” بداية هذا السباق الذي يبدو أنه لن ينتهي قريباً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن السؤال الأهم: هل ستتجه العلاقات بين أميركا والصين نحو صراع مفتوح، أم يمكن أن تتبنى القوتان العظميان نموذج التعاون التنافسي؟ الشركات الكبرى في البلدين قد تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع الأسواق الخارجية لتحقيق التوسع والنمو، مما قد يفتح المجال لتعاضد الجهود وتبادل الخبرات، وهو ما قد يرفع مستوى الابتكار العالمي.

وفي النهاية، يبدو أن هذا التنافس سيظل محركاً رئيساً للابتكار، وسيعيد تشكيل توازنات القوى الاقتصادية والتكنولوجية عالمياً خلال السنوات المقبلة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية