من الشائع أن الشامة تكون غالباً أعلى الخد، وهو ما يعني أن تركيب عنوان ديوان الشاعرة آلاء فودة “شامة أعلى الرحم” (منشورات المتوسط)، يحيل إلى معنى رمزي يدفع المتلقي إلى تفكيكه وصولاً إلى الدلالة المضمرة. فالشامة مجرد علامة للزينة، تشير هنا إلى موضع الخصوبة وهو الرحم الذي يصبح – إلى جانب إشارته للخصوبة – سر عذابات الشاعرة في حالتيه، العقم والخصوبة. فهي ترغب – شأن أية امرأة – في الإنجاب، فتتجسس على أسفل بطنها لتستشعر نبضاً غريباً يتولد داخل رحمها. لكن “اختبارات الحمل” السلبية تحبطها، حتى يتحقق حلمها أخيراً وتصبح أماً لبنتين، ومع ذلك تظل هناك مسافة بينها وبينهما.

وتقول بضمير المخاطب، على سبيل التجريد “وفجأة تستيقظين في الثالثة صباحاً بعينين خائفتين/ تتحسسين الأنفاس الغريبة بجوارك/ لوهلة تتساءلين: من هاتان البنتان”. والشاعرة – كما تقول في تصدير الديوان – لا تكتب لكي تطمس جرحها أو تعالجه، على عادة “العلاج بالشعر”، بل لكي تعطي جرحها معناه وقيمته. فالإنسان – عامة – لا يستطيع الخلاص من جراحه. غاية ما يستطيع أن يتعايش معها محاولاً إدراك حكمتها.

الإنسان والزمن

“الزمن” – الذي يجمع بين الرقمي والطبيعي داخل الديوان – ثيمة أساس، وغالباً ما يكون الليل أو الصباح المبكر هما ظرفا المكان الذي يشهد أحوال الذات وآلامها، تقول في “اختبارات سلبية”، “كل ليلة/ أعيد كرة كل شهر/ ينتصف الليل على ظهري/ تموت صفحة من نتيجة الحائط/ وينضبط منه الصباح تلقائياً/ أحل مشكلاتي المتعددة مع الوقت/ فتؤلمني الحسابات الزمنية”. إن المرأة الشرقية مهمومة دائماً بفعل الزمن، فهي تخشى فوات زمن الارتباط بالآخر/ الرجل، وفوات زمن الإنجاب، وزحف الشيخوخة. هذه الآلام التي تسببها الحسابات الزمنية تستدعي عدمية كافكا ومزاجه السوداوي، فتكتب له الشاعرة رسائلها، ولا يعود ذلك إلى فعل الزمن فحسب بل إلى الآخرين الذين أصبحوا – بتعبيرات سارتر- جحيم الذات الدائم. وتقول في “عنكبوت قلبك” – ولنلاحظ دلالة العنوان على الهشاشة – “كنت تريد ماء في نهر الطريق/ لكن الذين ورطوك في الحياة/ جففوا المنابع قبل ميلادك”.

لقد أصبح حبيبها مرآتها التي تتأمل فيها ذاتها. وتحاول الشاعرة الإيحاء بواقعية القصيدة ويومياتها المعتادة من خلال بعض العبارات الدارجة كما يبدو في قولها “دائماً مستغن عن البدايات/ عن اللهاث الأولي في مقدمة الحكاية/ عن جملة (خلي بالك من نفسك)/ وعن رسالة (طمني لما توصل)”. ولم يعد الشعر متعالياً متأففاً من الواقع وتفاصيله الصغيرة بل أصبح جزءاً منها، تقول “القصائد مشتبكة بيدي/ أدعكها بسائل المواعين/ فتخرج الصورة كاملة على الأطباق”. نحن إذاً أمام مستويين لهذه الشعرية، يستدعي الأول – بفعل المثاقفة – عوالم كافكا ونيرودا بأسئلته المعلقة “على حامل الملاعق” التي لم يستطع نيكانوربارا أن “يجيب عنها ساعة تناول الشاي”. والمستوى الثاني هو التداولي المعيشي الذي يستدعي اللغة العامية وأغنيات فيروز، دون فصل بين المستويين إذ تقدمهما في وحدة عضوية واضحة. ويهمني أن أذكر هيمنة التقاليد وحصارها للذات الأنثوية، وهذا دال على الانتقال من سلطة الأب البطريركية إلى سلطة العائلة ومعارفها الأسطورية التي تؤمن بها، والتي تقف الشاعرة على النقيض منها فتكنس “الدار بعد منتصف الليل”، وتدلق “الماء المغلي في الأحواض”.

وإجمالاً فإنها تفعل “كل ما تحذر منه عجائز القرية”. وتطلق “الرصاص على صورة العائلة”، ثم تنهي القصيدة – “حارس عسس” – بقولها “أنسى القرية ولقب العائلة/ أجرد نفسي من الخوف/ من احتمال أن أتذكر/ الذاكرة حارس ليلي/ يتجول في أحلامي/ وعلي أن أقتله”. وهكذا تخرج الشاعرة متجردة من عبء الحياة وذكرياتها، فهي تتخلص واقعياً ومعنوياً منه حين تتأمل هذه الذاكرة التي تشبه حارساً ليلياً يتجول في أحلامها. وعلى رغم عمومية القمع، فإن الأب يصبح أهم عناصره ومركزاً له، حين تقول في “الأحبال السرية”، “الآباء الذين اعتادوا أن يواجهونا/ بالجمل المطبوخة مسبقاً/ عن قسوة الآتي/ وأحلامهم التي رشقوها بأكتافنا/ سيدركون في منتصف الحكاية/ أن التراجيديا لا تغفر الذنوب”. وبعد تكرار اختبارات الحمل السلبية تبدأ حال التوهمات وتفعيل الخيال لجلب الإحساس بالأمومة، ويصبح التفكير بالصور المفارقة هو الأساس، فتقول – مثلاً – في “وصاياك”، “ربما ستكونين أجمل/ وأنت تفركين يديك بعد العجن/ ليتساقط أطفال كثر/ من بين أصابعك”.

صور الحزن

كلنا يتذكر أن صلاح عبدالصبور جعل من الحزن صفة وجودية ملازمة للإنسان، على رغم أنه حاول نفي هذا عنه قائلاً “إنني شاعر متألم ولست شاعراً حزيناً”. وتمتد آلاء فودة بهذه الثيمة ومترادفاتها كثيراً حين تبدأ قصيدة “أنا حزين”، بقولها “أنا حزين ومتأخر/ أنا حزين وغاضب/ أنا حزين وخائف/ أنا حزين ووحيد/ أنا حزين وغريب/ أنا حزين وجائع”. وبغض النظر عن التكرار، فإن المعطوف على “حزين” يختلف في كل مرة موضحاً سبب هذا الحزن الذي يتتابع على هذا النحو: التأخير- ربما عن تحقيق الغايات – والغضب  والخوف والوحدة والغربة والجوع. وهي ثيمات تتكرر على مدار الديوان إذ تصبح الوحدة – مثلاً – سوراً عالياً بين الذات والآخرين، حين تقول في قصيدة “شامة أعلى الرحم”، “يا رب أنا وحيدة/ أسكن بنية مليئة بالشعب/ ولكني لا أعرف أحداً/ ولا يطرق بابي أحد”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهو ما يترتب عليه الشعور بالغربة “أنا غريبة/ هجرني الآخرون في متتاليات حسابية”. ويصبح “العدم” مآل هذا العالم الذي يبتلع الجميع ويعسر عليه هضمهم. وبهذه الدلالات تصبح الرغبة في تغيير العالم التي كانت تهيمن على الفيلسوف والشاعر غير واردة في الشعرية الجديدة. فالشاعرة تفتح بابها على مصراعيه لتستقبل الألم بصدر مفتوح. وعلى رغم أنها لم تشأ تغيير العالم، فإن الطوفان قد جرفها – كما جرف الجميع – في سعيه المحموم. هذا الهوان يجعلها كارهة للحياة، فالعالم قاس وهي وحيدة ولا أحد يحبها. وتقول في “إكسير الألم”، “في العشرين/ استيقظت لمدة يومين في انتظار الموت/ غزالاً يخطو على البقع السوداء فيمحوها/ لكنه تعثر بحفرة في روحي ولم يأت”. والحق أن هذا الموت المشتهى يتأبى على الحضور لأن الذات غير مهيأة لاستقباله. وترصد الشاعرة التحولات التي طاولتها بعد أن لم تضف الأمومة التي كانت حلماً “شيئاً غير الخوف/ ومحاولة الركض لأبعد نقطة ممكنة/ كآلات تعمل في مصنع الأمومة/ حتى يداهمها الصدأ”.

استشراف المستقبل

لا تقف الشاعرة عند تصوير حاضرها واستدعاء ماضيها فقط بل تقوم باستشراف المستقبل حين تتخيل موتها في الستين “سنموت في الستين على الأرجح/ أحدنا سيلوح للآخر على مقربة من مبنى التأمينات الاجتماعية/ ستقول لي: كنا نجرب الحياة/ سأقول لك: هذا منتج صالح للاستخدام مرة واحدة”. والحقيقة أن الشاعرة مهتمة بالبعد الزمني وتوظيف الانتقالات الزمنية الدالة، مما يدل على إحساسها بعبء الزمن، وهو ما يتضح في قولها “في السادسة تقريباً زارني الله في الشارع القديم/ ربت على كتفي/ وقص علي حياتي/ وقال: الصبر”. وهنا تظهر صفات الله التي تدور حول الرأفة والرحمة، فهو أقرب إلينا من حبل الريد وهو معنا أينما كنا. وهذه الصفات التي تملأ وجدان الشاعرة تجعلها قادرة على تحمل قسوة الحياة ومضغ الآلام ومرور عجلة الحياة فوق جسدها “ثقيلة كالماء موجعة كالسكين”. هذه الحياة التي تحاول – دائماً – غسل آثار أعوامها فوق جسدها لكي تتساقط عاماً إثر آخر.

نقلاً عن : اندبندنت عربية