الحكومة المصرية تعترف بـ “أزمة ثقة” فمن المسؤول عنها؟

تبدو الأقاويل السلبية أكثر قابلية للتصديق حينما يتعلق الأمر بقرارات تنسب إلى بعض المسؤولين في مصر، فما يحدث أن بعض المشروعات، مهما كانت إيجابية وتبدو مفيدة للمواطنين، تتشكك فيها الجماهير أيضاً باحثة عن ثغرة تشعل التفكير التآمري، ومن ثم تتحول الأخبار السعيدة إلى أخرى كارثية ووبالاً بمجرد أن الترويج لها يأتي ليل نهار على منصات رسمية، ومن خلال وجوه بعينها.

كذلك حينما يجري تصحيح أخبار مغلوطة وتوضيح حقيقتها بإثباتات يظل جانب كبير من المصريين ميالاً إلى اعتماد الرواية المزيفة مهما كانت أبعادها ملفقة، ومهما كانت غير منطقية، بالتالي يظل مرتاحاً مع فكرة أن كل مشكلاته سببها متخذو القرارات، مما يشير إلى أزمة ثقة بين الحكومة والمواطنين التي تتوجس من كلمات تتعلق بـ”التطوير” و”الترميم” و”الإنشاءات الجديدة”.

أزمة الثقة الحالية تطرح تساؤلات حول من أسهم في اتساع الفجوة بين الجهات الرسمية والشعب؟ وكم مرة تكررت المواقف المثبتة والواقعية التي زعزعت الثقة بين الطرفين بشدة، وبنت جسوراً متينة من التشكيك، وخلفت تشوهات بارزة في العلاقة بين الجانبين؟ والأهم، كيف يمكن الترميم واستعادة القدرة على التأثير الإيجابي وزيادة رصيد الطمأنينة؟

قبل أيام قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن هناك “أزمة في منسوب الثقة بين المواطن والحكومة”، وذلك خلال المؤتمر الصحافي الأسبوعي المعتاد، معتبراً أن الأمر يعود بصورة أساس إلى “ميل المواطنين إلى تصديق الإشاعات”، ودعاهم إلى الانتباه من تبني الأخبار الكاذبة، إذ أشار إلى أنه لمس بنفسه تصاعد نغمة “فقدان الثقة” خلال تفاعله مع الجماهير في الشارع، رابطاً ما يجري بالأزمة الاقتصادية، إذ وصف “المواطن” بأنه مخنوق بسبب الضغوط والتحديات وصعوبات تدبير حاجاته، بل وصف مشكلة عدم الثقة بأنها بمثابة عرف في كثير من الدول ينشط بشدة في مثل هذه الظروف.

أين الحوارات المجتمعية؟

وكثيراً ما ربط المسؤول المصري أزمة الثقة بالحالة الاقتصادية في البلاد، وهو ما يؤكده المستشار الاقتصادي والمتخصص في أسواق المال وائل النحاس بأن الأزمة الاقتصادية واقعية، لكن التعامل معها من قبل المسؤولين وطريقة إدارتها “هو ما يسبب النفور من قبل الجماهير”. وأوضح النحاس، “في ظل القروض والتضخم وشروط صندوق النقد وارتفاع الأسعار والقلق المتزايد لدى الأفراد من المستقبل والحاضر نظراً إلى أن قيمة الدخول تتقلص يوماً بعد يوم وتقل قدرتهم على توفير ضرورات الحياة، لم يجد المواطن مسؤولاً ما أعلن مثلاً عقب الارتفاعات المتوالية لأسعار البنزين أنه سيستقل سيارته الخاصة في أثناء ذهابه إلى عمله في منصبه الحكومي الكبير ليوفر على الوزارة نفقات الوقود ويقلل منافذ الإهدار في المؤسسة التي تمنحه سيارة بها سائق خاص. هذه مبادرات إذا تكررت سيشعر المواطن بجدية وذكاء الإدارات التنفيذية، لكن العكس هو ما حدث، فيتسلل إليه شعور بالإهدار، وأنه هو من يدفع ثمن القرارات الصعبة”.يشير النحاس كذلك إلى أن السوشيال ميديا “تمتلئ ببعض المبالغات في أوقات كثيرة وتقدم حيثيات مضللة للقرارات، لكن كذلك هناك بعض الموضوعات المطروحة التي لا تدخل أبداً في بند الإشاعات، لكنها تثير القلق وتزيد من ظاهرة فقدان الثقة وشعور المواطن بأنه لا أحد يقف في صفه”.

من بين تلك الموضوعات، في رأي المتخصص في الاقتصاد والبورصة، التوجه لتحويل الدعم العيني السلعي المتعلق بالحصص التموينية لمحدودي الدخل إلى دعم نقدي، إذ يصفه النحاس بأنه من “القرارات المزعجة” للمواطنين للغاية وتأثيره “سيكون سلبياً ومعكوساً”، مطالباً بالمناقشة المجتمعية لمعرفة مدى قدرة الشارع على تحمل مثل هذا القرار الذي يمس حياة عشرات الملايين، إذ يتجاوز عدد المستفيدين من البطاقات التموينية أكثر من 60 مليون مواطن وفقاً لبيانات وزارة التموين، “كي لا تتفاقم أزمة الثقة مرة أخرى”.

الحوارات المجتمعية وإعطاء الموضوعات الجدلية، سواء كانت اقتصادية أو قانونية، حقها في النقاش نقطة نوه إليها كثير من المفكرين ومتخصصي علم الاجتماع والإنسانيات، إذ يرى أستاذ الإعلام بجامعة دنفر الأميركية كريم الدمنهوري أنها “ضرورية للغاية” مع عديد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تسهم في تقليل الفجوة وتعزز من الثقة بين الطرفين. يقول الدمنهوري، “من الضروري إشراك المواطنين في حالة نقاش مجتمعي والاستماع إليهم قبيل القرارات التي تؤثر بصورة مباشرة في حياتهم اليومية، وكذلك ينبغي أيضاً توحيد مصادر المعلومات الموثوق بها، بمعنى أن يجري تعريف المواطنين بالمصدر أو المصادر التي عليهم اللجوء إليها للحصول على المعلومات المهمة وتنويع كيفية الحصول عليها على حسب الشريحة العمرية وطبيعة تعاملها مع الإعلام”، مطالباً بمحاربة ما يسمى “الأمية الإعلامية” في العملية التعليمية، وهو شيء منتشر في كثير من البلاد، لضمان توافر أساسيات التعامل مع الإعلام عند المواطن، وقدرته على تمييز الأخبار المغلوطة والإشاعات.

 

أجمع مراقبون على ضرورة إصدار بيانات استباقية تتعلق ببعض الإنشاءات أو الترميمات، أسوة بما يحدث في دول كثيرة، دون انتظار انتشار الأمر بطريقة مغلوطة، ثم إصدار التصريحات التي تكون متأخرة عادة، مثل واقعة أسدي كوبري قصر النيل بوسط العاصمة، إذ جرى نشر صور أثارت الغضب تظهر قيام فريق مرممين بطلائهما باللون الأسود اللامع، مما أفسد مظهرهما تماماً، لكن جرى توضيح الأمر بعدما اشتعلت الأزمة، إذ قال وزير السياحة والآثار شريف فتحي تعليقاً على الواقعة إن الطلاء جرى بمادة شفافة عازلة وإزالة الأتربة وترسبات التلوث فحسب، ولم يتم الاعتداء على التمثالين اللذين يعودان إلى عصر الخديوي إسماعيل.

الأمر نفسه تكرر بصورة قريبة بعد تداول فيديو صادم يظهر بعض العمال يقومون بأعمال هدم في الجسم الخارجي للهرم الأكبر خوفو، وبعدها أيضاً صدر بيان رسمي يشير إلى أن الأمر لا يتعدى إزالة بعض مواد البناء الحديثة التي كانت تغطي هذه البقعة، وتتعلق بشبكة إنارة الهرم، إذ يجري تحديثها حالياً، وذلك على رغم تأكيد رئيس قطاع الآثار أيمن عشماوي في تصريحات تلفزيونية أن الأمر جرى بصورة غير حضارية، وكان يمكن أن تكون الصورة أفضل من ذلك. ولقي فيديو تكسير الهرم المتداول تصديقاً وانتشاراً جماهيرياً اعتماداً على مواقف سابقة في التعامل مع المباني والمقابر والمتاحف التاريخية في البلاد التي تعود إلى عصور قديمة مضت، بينها المملوكية والفاطمية على سبيل المثال، إذ جرى هدم كثير منها بسبب تطوير الطرق والكباري. وعلى رغم الغضب والمناشدات لم توقف آلة الهدم إلا بعد إحداث خسائر أثرية لن تعوض.

يحيل وائل النحاس الظاهرة المتأزمة فيما يتعلق بمقدار الثقة بين الجهات الرسمية وعامة الشعب أيضاً إلى نقطة أخرى، وهي تتمثل في “الوسيط” الذي يتصدر المشهد، والذي يمثل حلقة الوصل بين الترويج لقرارات الحكومة والجماهير. ويرى النحاس أن هناك بعض الوجوه الإعلامية “تسببت بصورة واضحة في زيادة نسبة عدم الثقة بين الشعب وحكومته”، مشيراً إلى أن التراكمات السلبية حدثت على مدار سنين، ورسمت صورة ذهنية معينة لـ(بعض الإعلاميين) الذين يختارهم المسؤولون الرسميون الكبار دوماً للقيام بمداخلات معهم. وكذلك يدخلون هم وقنواتهم في حلقات تبريرية ودفاعية وتفسيرية مستمرة عن القرارات التي تكون مثار جدل”.

ويعتقد النحاس أن هؤلاء الإعلاميين “رسبوا في الاختبار أكثر من مرة”، وعليه لم يعد من الممكن أبداً أن يكونوا مصدراً للصدقية بالنسبة إلى المواطن، بخاصة فيما يتعلق بالقرارات الاقتصادية، إذ يبشرون هم بانفراجة ورخاء وانخفاض أسعار ورقابة صارمة تقضي على انفلات الأسواق وفرص عمل، فيما المواطن ينزل بنفسه إلى الشارع ويلمس العكس تماماً”، مشدداً على ضرورة “تغيير بعض الوجوه التي باتت متصدرة المشهد”.

كيف تسهم منصات الإعلام في زعزعة الثقة؟

ويشرح كريم الدمنهوري كيف تسهم منصات الإعلام بالفعل في زيادة نسبة عدم الثقة، مشدداً أولاً على أهمية دور الإعلام كحلقة وصل بين المسؤولين والجمهور، لكنه يعيب كذلك “انعدام التنوع في الخريطة الإعلامية وعزوف شريحة الشباب عن الإعلام التقليدي يعزز من الشعور بعدم الثقة”.

ويفسر الدمنهوري سبب كون التلقي الجماهيري في بعض الأوقات سلبياً للغاية، في حين أن القرارات من الأساس قد تكون في صالح الناس، بأنه يعود غالباً إلى ظاهرة أو نمط عالمي متعلق بمدى ثقة المواطنين بحكوماتهم خلال السنوات الأخيرة. ويضيف أستاذ الإعلام، “وفقاً لآخر تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بهذا الصدد، فهناك 6 من كل 10 أفراد حول العالم لا يثقون بحكوماتهم، بخاصة في فترات الأزمات الاقتصادية، وعندما يشعر المواطن بالقلق إزاء قدرته على توفير حياة كريمة لنفسه وأسرته، يستفحل الشعور لديه بعدم الثقة في الحكومة”.

 

هذا السيل من التشكيك ومن الرغبة في تبني وجهة نظر قاتمة والقابلية لتصديق الأسوأ يمكن متابعتها بصورة عملية في ردود الفعل التي صاحبت أحداثاً عدة على مدار الأيام والأسابيع القليلة الماضية في مصر، فبالتوازي مع الإعلان عن عودة شركة “النصر” لصناعة السيارات للعمل بعد توقف دام 15 عاماً، وبينما تحتفل وجوه رسمية وإعلاميون بارزون بالخبر، معتبرين أنه سيسهم في خلق فرص عمل وفي دفع عجلة الاقتصاد وفي تثبيت اسم مصر على خريطة تصنيع السيارات بأنواعها، كانت الرواية الأكثر تداولاً بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي المهتمين بالأمر تبحث عن أسباب للابتئاس تظهر في تعليقات مثل أن النسبة التي ستذهب للدولة قليلة، وأن ترخيص التصنيع سيكون على نوعية مركبات معينة، وأن هذا لن يسهم في خفض أسعار السيارات بأي صورة، وهي تعليقات نابعة من الرؤية السوداء للمستقبل التي باتت رائجة للغاية.

في السياق نفسه أيضاً ظهرت أنباء مدعمة بصور وفيديوهات تؤكد قطع الأشجار التاريخية بحديقة الأورمان النباتية الشهيرة بالجيزة، وبيع بحيرة البردويل بشمال سيناء، وكذلك وجود مخطط لإخلاء وهدم دير سانت كاترين بجنوب سيناء، التابع لطائفة الروم الأرثوذكس، وهي كلها أنباء جرى نفيها بشدة وبصورة رسمية مع توضيح حقيقتها وتفنيد الادعاءات.

وربما أسهمت أزمة قطع الأشجار العريقة والنادرة في بعض المناطق بهدف التطوير بمشاعر توجس مزمنة فيما يتعلق بالتعامل مع المساحات الخضراء في البلاد، بالتالي حينما انتشرت فيديوهات الجرافات في حديقة الأورمان التي تضم أشجاراً يعود عمرها لأكثر من 100 عام، وتضم أنواعاً شديدة الندرة من النباتات، أشهرت السوشيال ميديا أسلحتها، لكن في باقي القضايا، ما الذي يغذي فكرة سرعة تصديق الإشاعة أو في الأقل الجانب المضلل أو غير الدقيق للقصة؟

خطورة عدم الصدقية

يعتقد أستاذ الإعلام الدولي والصحافة كريم الدمنهوري أن هناك نوعين من الدعاية السلبية، بينها غير المغرضة، وهي التي تصدر كنوع من التعامل مع الإحساس بعدم التأكد من الحقيقة الكاملة، بمعنى أنه عندما يعلن عن قرار ما، مع عدم بيان حيثياته وتفاصيله، من الطبيعي أن يبحث المواطن عن ملء هذا الفراغ بنفسه. وعندها تظهر الإشاعات وتنتشر الأخبار غير المحققة. أما النوع الثاني فهو الأقرب إلى نظرية المؤامرة على الغالب، إذ يقول الدمنهوري إن هناك بالطبع دعاية مغرضة، وهي تلك التي تصدر بطبيعة الحال بصورة غير معلنة من جهات داخلية وخارجية تسعى إلى تعزيز الأزمات والاستفادة من حالة عدم الثقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهتها تقر أستاذ علم النفس الاجتماعي بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية سوسن فايد بصورة مباشرة بأن للسوشيال ميديا دوراً مؤكداً في إشعال بعض الأخبار والتوجهات وفي التشكيك في القرارات السياسية والاقتصادية لتحقيق أهداف معينة، لكنها أيضاً تتفق مع الدمنهوري في أن غياب المعلومات “بيئة خصبة” لهز الثقة بين المواطنين والجماهير، مشيرة إلى أن الأمر تاريخي ومتكرر، لكنه في زيادة ملحوظة أخيراً. وترى أنه ينبغي محاولة احتواء هذه المشكلة الكبيرة في رأيها، مؤكدة أن “عدم الثقة جاء بسبب تكرار مواقف قلة الصدقية، ومن المهم للغاية أن ينتبه صانع القرار لهذه المسائل، وأن يعالجها لأنها تتفاقم مما يضرب السلم الاجتماعي، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت هناك نية جادة وصادقة، وبخطوات واضحة مبنية على نتائج الدراسات العلمية الاجتماعية والإنسانية في هذا الشأن”.

يحاول وائل النحاس وضع يده مرة أخرى على مكامن الخلل التي جعلت نغمة عدم الثقة سائدة بقوة، وبينها في رأيه المركزية الشديدة، إذ يقول إن بعض الإنجازات الحقيقية تتحول إلى عراقيل بسبب المركزية، كأن يتم تحويل بعض الخدمات من ورقية إلى إلكترونية، لكن بسبب الرغبة في تجميع أكبر قدر من الوثائق والاحتفاظ بها، وأيضاً إحالة كل تفصيلة مهما كانت عابرة للمسؤول الأكبر، وكذلك الروتين وتهاون بعض الموظفين، قد يتم القضاء على هذا التطور في مهده، معتبراً أن سياسة إدارة الأزمات بها خلل واضح في بعض المؤسسات.

ويختتم النحاس بأنه “لن يشعر المواطن بصدق الحكومة إلا إذا لمس بنفسه ما تروج له من إنجازات وتطوير، بل سيتحول الأمر بالنسبة له إلى عبء يدفع مقابله أموالاً إضافية على الطرق أو في نظير الحصول على خدمات ووثائق، وسينظر للمبالغ المنفقة في هذه المشروعات على أنها إنفاق وإهدار، بينما هو معدم الحال ولا يجد فرصة عمل، أو خدمات صحية وتعليمية ضرورية بسعر يتوافق مع دخله، بالتالي فالمسؤولون مع الوقت ومع إصرارهم على عدم الالتفات إلى هذا الوضع، سيبدون وكأنهم يربون عدواً مباشراً لهم، نظراً إلى الفجوة الكبيرة بين ما يقولونه وما يعيشه المواطن الحقيقي”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية