كان الاحتفاء بالمولد النبوي يمثل ذكرى دينية عزيزة على اليمنيين مثل حال كثير من الأقطار العربية والإسلامية، إلا أن الحوثيين حوّلوه إلى كابوس يؤرق ملايين الجياع ويثير في نفوسهم مقتاً تجاه سلطة الميليشيات المدعومة من إيران.
وعلى رغم اتساع رقعة الجوع والفقر وتضاعف موجات النزوح الداخلي والخارجي التي يتجرعها ملايين اليمنيين تبعاً لنتائج الحرب التي أشعلتها بانقلابها عام 2014، فضلاً عن قطعها رواتب الموظفين، فإن الجماعة تواصل جمع مئات الملايين من الريالات باسم الاحتفاء بالمولد الذي يتضمن دعوات وتحشيداً طائفياً يحث على تقديم مزيد من الشهداء في سبيل تمكين “أعلام الهدى” على طريق “الولاية”، باعتبار أن الاستجابة لدفع مزيد من الأموال النقدية والعينية لناصرها هي إثبات فعلي لحب النبي وأتباعه، في حين أن رافض دفع المال مؤشر إلى عدم اتباع النبي وأوليائه (الذين ينتسب إليهم زعيم الجماعة) وفقاً لأدبياتها.
وتجبر الميليشيات المواطنين والتجار والباعة ومالكي السيارات والمباني والمحال التجارية والمرافق الحكومية والخاصة والساحات والأندية والقاعات على رفع لافتات ضوئية وقماشية وطلاء أسوار مبانيهم وواجهاتهم باللون الأخضر، باعتباره لوناً إسلامياً، إضافة إلى فرض جبايات قسرية باهظة لتمويل هذه “المناسبة المقدسة”.
رسائل سياسية برداء الدين
ويتداول اليمنيون أرقاماً لمبالغ، لا يعلمون دقتها، عن خصخصة الحوثيين أموالاً لشراء الألعاب والأعيرة النارية وأطنان من الإطارات التالفة لإقامة احتفالات في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات فضلاً عن المبالغ التي جمعوها من التجار والمؤسسات والشركات الأهلية والخاصة.
كما تحرص الجماعة على رفع وإبراز الشعارات ذات اللون الأخضر مزودة بعبارات وشعارات متشددة ضد المختلف معها ترجمة لتوجهها العام ورسالتها التي تسعى إلى تكريسها والسياسة التي تتبناها.
وتزدحم الشوارع والمرافق العامة والخاصة والمساجد في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات الخاضعة للحوثيين بمظاهر هذه المناسبة كل عام، وعلى جوانبها شعارهم الصرخة “الموت لأميركا، والموت لإسرائيل”، ويحثون الناس على أهمية “الولاية لعلي بن أبي طالب وذريته”، في إيحاء ضمني بأنهم امتداد سلالي لهم.
وبات واضحاً استغلال هذه الفعاليات لتحويلها إلى موسم سياسي بامتياز عبر إعلام الجماعة والمساجد والمدارس والتجمعات العامة، وتتضمن البروباغندا الحوثية السياسية التعبئة ضد رافضي المشاريع الطائفية والوعيد القاسي بمعاقبتهم ونعتهم بعبارات متكررة من قبيل الارتزاق والعمالة والإرهاب.
الإعلام بالإعلام
وتبدأ الجماعة بالإعداد لهذه المناسبة بحملات إعلامية مكثفة عبر الإعلام الرسمي الذي سيطرت عليه، وكرسته لمشروعها خدمة للنظام الإيراني، وتشكيل لجان عدة تنقسم إلى تنفيذية وإشرافية وفرعية في مراكز المدن والمديريات سواء في العاصمة صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرتها والأرياف.
وتولي الجماعة هذه المناسبة اهتماماً كبيراً يسبق اقترابها لأنها وفقاً للمستشار في مكتب الرئاسة اليمنية ثابت الأحمدي “فرصة للنهب وجمع الأموال الطائلة كثقافة متأصلة في تاريخ الإمامة الهادوية كجماعة جباية وسطو واستحواذ على أموال الغير بدرجة رئيسة، مضيفاً “ما أكثر المبررات للسيطرة على ما في أيدي الناس، ومنها المولد النبوي، الذي يعتبره المشرفون فرصة للثراء فيهرعون إلى أخذ أموال الناس بالقوة”.
موسم وعقوبات صارمة
ومنذ وقت مبكر، يعد الحوثيون لهذه الفعاليات بعقد سلسلة اجتماعات تضم محافظي المحافظات وقادة الجماعة وكبار المشرفين العقائديين وعقال الحارات والدعاة التابعين لهم وأعضاء المجالس المحلية ومجلس النواب.
ويسبقونها بتعميمات مركزية، كل بحسب دائرته، الحكومية والتنظيمية والأهلية، تحثهم فيها بلغة الأمر الصارم على البدء في إحياء فعاليات المولد وإقامة مختلف الأنشطة الجماهيرية والدعائية. وتذيّل أوامرها بالتأكيد على متابعة تنفيذ النتائج والوعيد بمعاقبة المقصرين أو المتوانين عن دفع المبالغ، التي تسببت في مناسبات منفصلة بقتل وجرح عشرات المواطنين الذين احتج بعضهم على دفعها، فكان التنكيل والموت مصيرهم، وفقاً لسكان محليين في العاصمة صنعاء التي سيطروا عليها في سبتمبر (أيلول) 2014. ولا تتهاون الجماعة مع من يعصي لها أمراً أو يبدي اعتراضاً أو امتعاضاً على أوامرها وتتهمه بمعصية أوامر الله وأوليائه المصطفين وتأجيج الشارع.
ووثقت مواقع التواصل عدداً من حالات الاعتداء بالضرب أو القتل على كل من يرفض دفع الأموال ورفع الزينة والإنارة وتلوين منزله باللون الأخضر، كما هي حال الشاب عبدالباري الكرمدي الذي قتل بنيران بندقية قيادي حوثي أمام منزله في حي شميلة (شمال غربي صنعاء) بعدما اعترض على تلوين منزله ودفع مبلغ مالي، في حين يعيش وأسرته بلا مرتبات ترفض الجماعة دفعها منذ ثمانية أعوام، ووثّق رواد مواقع التواصل عدداً من الحالات المشابهة أو حالات الاعتداء.
النشء والمولد
وتولي الجماعة الحوثية فئات النشء والأطفال والشباب أهمية بالغة. إذ تركز على غرس مفاهيم طائفية في وعيهم، عبر ذكرى المولد من خلال حملات تعبوية وطائفية مكثفة، تستهدف المدارس والجامعات الحكومية والأهلية، عبر تعميمات متتابعة تلزم مديري مكاتب التربية والتعليم في القرى والمديريات ومديري المدارس ورؤساء أقسام الأنشطة الطائفية بتسخير جهودهم وطاقاتهم لما يسمى الاحتفال بذكرى المولد النبوي.
والعام الماضي، تداول ناشطون يمنيون على مواقع التواصل الاجتماعي وثيقة رسمية صادرة عن حامل صفة مدير مكتب التربية بمحافظة عمران (شمال) تقضي بإلزام المدارس الواقعة في 20 مديرية تتبع المحافظة بتجهيز برامج مزمنة وأنشطة مدرسية بالمناسبة التي يردد فيها “شعار الصرخة” المستوحى من النظام الإيراني، مع التأكيد على إلزام المدارس بطلاء جدرانها باللون الأخضر وبالشعارات الحوثية ورفع عبارات لقادتها وصورهم التي تقدس زعيمهم وسلالته من “آل البيت” وأحقيتهم في حكم اليمنيين، مع التأكيد على ضرورة توثيق هذه الفعاليات إعلامياً والترويج المكثف لها ورفع تقارير يومية في شأن الإنجاز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من منزل إلى منزل
وبحسب سكان محليين في صنعاء، سبق وطالبت القيادات الحوثية بكشوفات طالبات المدارس اللواتي يتغيبن عن اليوم المخصص للاحتفاء بالمولد أو الرافضات للمشاركة لإحياء الفعاليات.
وسبق واتهمت الحكومة الشرعية باستغلال الحوثيين المناسبات الدينية “لنهب أموال اليمنيين وتكريس الأفكار المتطرفة”، وقالت في تصريحات على لسان وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني إن الأعياد والمناسبات الدينية باتت مواسم تديرها الميليشيات لممارسة الجباية غير القانونية وابتزاز اليمنيين بالانتقال من منزل لمنزل لنهب مدخراتهم، بعدما نهبت رواتبهم وسبل عيشهم وصادرت حتى المساعدات الغذائية المقدمة لهم. وأشار الوزير اليمني إلى استمرار استغلال الجماعة الحوثية هذه المناسبات لتمويل ما تسميه “المجهود الحربي” لقواتها في حين يعيش الملايين من المواطنين في العاصمة صنعاء وبقية المناطق الخاضعة لسيطرتها تحت خط الفقر والمجاعة.
مجد الأسرة
وبحسب المستشار ثابت الأحمدي تستغل ميليشيات الحوثي هذه المناسبات كما هي الحال بقانون “الخمس” العنصري إلى إضفاء شرعية دينية وقانونية على سلسلة الجبايات الهائلة التي تنهبها من المواطنين لتثبيت وجودها ومضاعفة قدراتها المالية على أنقاض الدولة خدمة للمشروع الإيراني في اليمن والمنطقة. وتحقيقاً للهدف السياسي بلباس ديني، اعتبر الأحمدي أن تظاهر الجماعة بالاحتفالات الدينية، بصورة عامة، هو نوع من التمظهر السياسي لا الديني، فهم يحتفلون بالنبي باعتباره إمبراطوراً مؤسساً لمجد الأسرة، لا نبياً ورسولاً للناس كافة، وتغطية لفشلهم في كل القضايا المجتمعية التي عجزوا عن القيام بها. ووفقاً لذلك “يسخرون مقدرات الدولة ومؤسساتها لخدمة هذه التظاهرة التي يقوم بها أناس غير متدينين أحياناً ومثل هذه المظاهر نجدها في العراق ولبنان وإيران نفسها”.
التقسيم باعتباره هدفاً للتكسب
ولعل المثير للانتباه في استغلال الحوثي هذه المناسبة، أن الفئات الأشد فقراً في المجتمع ممثلة بطلاب المدارس الحكومية ملزمون هم الآخرون بدفع رسوم إضافية مخصصة فقط للاحتفاء بالمولد النبوي.
وأكد سكان محليون في محافظات عدة أن الميليشيات فرضت على طلاب المدارس الحكومية والأهلية في المحافظات الخاضعة لسيطرتها دفع جبايات مالية باسم “دعم الاحتفاء بالمولد النبوي”، كما ألزمت المدارس الأهلية بدفع مبالغ تراوح ما بين 100 ألف و500 ألف ريال يمني (الدولار يعادل نحو 545 ريالاً)، مع الوعيد بالعقوبات المشددة على المدارس المتخلفة عن الدفع.
ويقول وزير الأوقاف والإرشاد الديني اليمني السابق أحمد عطية إن ما أحدثه الحوثيون في اليمن لا يقتصر بانقلابهم على السلطة لكنه انقلاب على السياسة والعادات والتقاليد والدين وأي موروث كان عنواناً للانسجام بين المجتمع اليمني وفئاته. ويضيف “لهذا لم نكن نسمع بما يسمى بالصرخة، ويوم الولاية، ولا يوم الغدير، ولا الخُمس، على رغم انقسام اليمن بين زيدي وشافعي، لكنها ممارسات طائفية دخيلة نقلها الحوثيون من نظام الملالي الإيراني ليطبقوها في المجتمع اليمني الذي يختلف في طبيعته الطائفية والفكرية والفقهية عن أي بلد آخر”، ويشير عطية إلى أن “الانسجام المذهبي منذ ثورة الـ26 من سبتمبر 1962 كان سائداً في اليمن ولا إشكال أو خلافاً حوله، حتى حلّ انقلاب الحوثيين الذين أرادوا تحريف التركيبة الفكرية والطائفية في اليمن”، ويرى أن الحوثي يهدف من وراء تكريس الهويات الطائفية الدخيلة مثل هذه المناسبة وغيرها “لاستخدامه سلاحاً في حربهم التي تقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقتين، حاكمة وخادمة، ويجعلون من المولد النبوي مناسبة للارتزاق والنهب وجمع الأموال والحرص أن يدفعها المواطن الذي لا يملك قوت يومه على رغم توقف الرواتب وتعطل الخدمات”، ويختم “نحن أمام جماعة جمعت أسوأ ما في الجماعات الدينية من التطرف والعنف والفكر المتشدد وعلى الشعب اليمني إدراك الخطر الذي يعيشونه”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية