منذ اندلاع حرب السودان في منتصف أبريل (نيسان) 2023، سعت قوات “الدعم السريع” إلى السيطرة على مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان، وهي واحدة من مدن السودان الاستراتيجية، فهي ملتقى طرق يربط ولايات إقليمي كردفان ودارفور بالعاصمة الخرطوم وولايات الوسط، إلى جانب كونها مركزاً تجارياً وزراعياً بارزاً ويمر عبرها خط أنابيب النفط الممتدة من جنوب السودان إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.

تبعد مدينة الأبيض عن العاصمة الخرطوم نحو 400 كيلومتر وتحدها من الجنوب ولاية غرب كردفان وشمال دارفور، ومن الشرق ولاية النيل الأبيض والشمال ولايتا نهر النيل والشمالية، فضلاً عن أنها كانت أحد محاور القتال من أجل السيطرة على مطارها لكونه الرئيس في غرب السودان.

وعقب معارك عنيفة تمكن الجيش السوداني من فك وإنهاء الحصار الذي فرضته قوات “الدعم السريع” على المدينة، وامتد ما يقارب العامين، وجاءت هذه الانتصارات بعدما ربط الجيش قواته القادمة من ولاية النيل الأبيض بجنوده الموجودين داخل الأبيض، إذ كان الطريق ممهداً بعد تحرير مدينتي أم روابة والرهد.

خلف حصار الأبيض سلسلة طويلة من الأزمات الإنسانية والأمنية والاقتصادية بالغة التعقيد، شكلت عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطن، بخاصة في ما يتعلق بشح كبير في السلع الأساس مع ارتفاع أسعارها ونقص حاد في الأدوية بسبب القيود على حركة القوافل الإنسانية والتجارية التي شكلتها أزمة الطرق الواقعة تحت سيطرة “الدعم السريع”، علاوة على الانتشار الكثيف للعصابات المسلحة وفرض رسوم باهظة على الشاحنات والحافلات والمسافرين الذين يتعرضون لانتهاكات تلك القوات على هذه الطرق، إلى جانب توقف شبكات الكهرباء والاتصالات وانعدام السيولة النقدية.

فك هذا الحصار جعل مواطني هذه المدينة يتنفسون الصعداء بإنهاء مخاوفهم من اتساع القتال وتزايد الضائقة المعيشية، إذ كانوا ينتزعون الحياة وسط الحرب بشق الأنفس، بيد أن سيطرة الجيش عليها بشكل كامل أدى إلى انفراج في حركة الأسواق وانخفاض ملحوظ في أسعار السلع، كما بدأت الحركة تدب في شوارع المدينة.

أزمات خانقة

في السياق يقول القنديل عثمان أحد سكان مدينة الأبيض وسائق شاحنة إن “سكان المدينة عاشوا أزمات إنسانية، ما بين انتهاكات ’الدعم السريع‘ ونقص السلع الأساس، وإذا توافرت تكون في أسواق بعيدة وبأسعار مرتفعة، إلى جانب توقف الكهرباء، التي بات استمرارها في المدينة يعتمد على الاتفاق بين الإدارات الأهلية والجيش و’الدعم السريع‘، إضافة إلى انقطاع الاتصالات، إذ نقوم بشحن الهواتف من الطاقة الشمسية بعد دفع مقابل مادي وهو ما لا يستطيع تحمله كثر بشكل يومي، إلى جانب انعدام المياه، مما حدا بالسكان إلى حفر خزانات في باطن الأرض لحفظ المياه أو استخدام مياه الأمطار خلال موسم الخريف في الشرب وأغراض أخرى أو شراء الماء المنقول عبر الدواب بأسعار تفوق الخيال، في وقت فشلت الحكومة المحلية بحلحلة هذه المشكلات”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف عثمان “بحكم عملي كسائق شاحنة لنقل البضائع التي تصل من دولة جنوب السودان، كنا نتعرض لانتهاكات جسيمة من أجل دفع رسوم باهظة لقوات ’الدعم السريع‘ حتى تسمح لنا بالعبور، إضافة إلى النهب المسلح من عصابات قطع الطرق، إلى جانب أن هناك بعض الطرق التي لا تخضع لأحد طرفي الصراع، إذ تسيطر عليها قبائل مسلحة بحجة حماية مناطقها، فتعرض القوافل الإنسانية والتجارية أيضاً للرسوم، لا سيما أن الشاحنات تغامر للوصول إلى مدينة الأبيض”.

وأشار سائق الشاحنة إلى أن “فك الحصار على مدينة الأبيض سيمكن السكان من العودة تدريجاً إلى الحياة الطبيعية وانسياب البضائع عبر الطرق المختلفة، التي غادرتها ميليشيات ’الدعم السريع‘، إلى جانب بسط الأمن ومحاربة الظواهر السلبية، التي تنامت مع التفلتات الأمنية، لكن هناك ثمة مشكلة سنظل نعانيها وهي عدم توافر الوقود إلا عبر السوق السوداء، إذ بلغ سعر الجالون 90 ألف جنيه سوداني (ما يعادل 150 دولاراً أميركياً)، مما انعكس على تعريفة المواصلات وارتفاع كلفة السفر حتى في التنقل بين المدن القريبة من الأبيض”.

فوضى الحرب

من جهتها أوضحت سهام نور التي تقطن مدينة الأبيض أن “المواطنين كانوا في حال من الذعر بسبب الانفجارات والقصف المدفعي وتحليق المسيرات فوق الأحياء السكنية، بخاصة الواقعة قرب المناطق العسكرية والتي راح ضحيتها العشرات، فضلاً عن أن المدينة تحولت إلى فوضى نتيجة لانتشار السلاح وسط القبائل بذريعة حماية أنفسها ومناطقها من انتهاكات ’الدعم السريع‘، وعلى رغم ذلك فهي ملاذ لكل المدنيين الذين فروا من جحيم الحرب”.

 

وتابعت نور “ظل غالبية سكان مدينة الأبيض منذ اندلاع الصراع محكوماً عليهم بالإعدام جوعاً، إذ كانوا يعتمدون على وجبة واحدة في اليوم، إما خلال النهار أو الفترة المسائية، فضلاً عن أن المدينة شهدت أزمة خبز طاحنة بسبب الصعوبة التي واجهت أصحاب المخابز في الحصول على الدقيق، إذ إن قيمة ثلاث قطع خبز تباع بسعر 600 جنيه سوداني (ما يقارب دولاراً أميركياً واحداً)، علاوة على انعدام الغاز، مما جعل المواطنين يلجأون إلى استخدام الحطب في الطهى”.

ولفتت سهام إلى أن “المواطنين بسبب المعضلات التي واجهتهم في ظل الحصار كانوا ينتزعون الحياة أثناء الحرب بشق الأنفس وهم يتطلعون إلى الاستقرار والأمان، فضلاً عن أن انتشار الجيش في الأبيض وتماسكه يعد دافعاً رئيساً لاستمرار وجود المواطنين”.

انفراج ومخاوف

على صعيد متصل بيَّن الناشط المجتمعي والمراقب لنشاط السوق زهير فضل المولى أن “مدينة الأبيض تزخر بالموارد الإنتاجية والزراعية والغابية، فضلاً عن أنها ملتقى للطرق القومية الرابطة بين الولايات السودانية، كما أنها تعد مركزاً تجارياً مما أكسب سوق محصولات الأبيض ميزة في استقبال المحاصيل وإحداث حراك تجاري يسهم بشكل فاعل في الاقتصاد القومي للدولة، لكن في تقديري أن الحصار الذي كان مفروضاً على المدينة خلال 22 شهراً جعل الحياة تنحصر في نطاق ضيق، مما أدى إلى عرقلة النشاط التجاري نتيجة لاعتماد التجار على الشاحنات المقبلة من جنوب السودان، إذ تعتمد في حركتها على الطرق الرئيسة التي تربط بين الولايات والمدن ومناطق الإنتاج، إلى جانب أن كثيراً من الأراضي خرجت من الزراعة والرعي نتيجة للاشتباكات بين المتحاربين”.

ومضى فضل المولى قائلاً “معظم الطرق قبل إنهاء الحصار كانت تقع تحت سيطرة ’الدعم السريع‘، إذ يتعرض أصحاب المركبات إلى الضرب والقتل إذا رفضوا دفع ما بحوزتهم من نقود وممتلكات شخصية بخاصة أجهزة الجوال، وكان لكسر الحصار الأثر في استقرار حركة المحاصيل النقدية بخاصة الصمغ العربي والفول السوداني والسمسم والكركدي وحب البطيخ، وكذلك الثروة الحيوانية باعتبار أن ولاية شمال كردفان تعد تجمعاً لقبائل تنشط في رعى الأبقار والإبل والضأن”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية