“أعطنا خبزنا كفاف يومنا”، هي صلاة موحدة يرفعها السوريون الذين يهرعون، مع شروق كل شمس إلى مخابز تبدأ عملها عند الرابعة فجراً ولا تتوقف في وقت محدد، فبين الأزقة والحارات تجتاح رائحة الخبز الساخن الهواء، وتندمج معه، مثلما اندمج شعار “الخبز خط أحمر” في حياة السوريين، وأصبح ضابطاً أول لجودة حياتهم. لكن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، فبعد أن كانت سوريا دولة مكتفية من القمح أعواماً طويلة، جعلتها الحرب في عداد المستوردين، كما أن الفساد في زمن نظام بشار الأسد نشر الفوضى أينما حل.
السابق واللاحق
مع سقوط نظام الأسد فجر الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 وإعلان حكومة محمد البشير تسيير الأعمال، كان رغيف الخبز حاضراً على طاولة الحكومة، ففتحت مخازن الطحين وسمحت بالإنتاج الحر والشراء مع تحديد سعر ربطة الخبز وعدد أرغفتها، بعدما كانت سابقاً محددة بربطة واحدة، وبكمية معينة، وبسعر محدد عبر البطاقة الذكية، وهذا كان في الظاهر تنظيماً وضبطاً، لكن في الكواليس كان يتم التحايل على المواطن عبر دفعه لشراء الخبز من المعتمدين بأسعار مرتفعة.
وقد كانت هناك شبكات احتيال واسعة بين الأفران والمعتمدين الذين يأخذون دور المواطنين المصطفين في رتل طويل ليحصلوا على حصتهم اليومية، فكانت هذه العملية تدفع المواطن للوقوف ساعات إضافية، هذا إن لم تحضر دورية شرطة تطالب بحصص لها.
ويقول أحد المواطنين الذين يقفون اليوم بالدور أمام فرن الخبز “كنت أقف سابقاً ساعات لأحصل على ربطة خبز لا تكفينا يوماً كاملاً، فنضطر لشرائها من دون دعم وبسعر مرتفع، ولكن اليوم أصبح الحصول على الخبز سهلاً، رغم أنني أضطر للوقوف وقتاً كنت أظنه سيقل”.
خطة جديدة
وفي السياق أعلنت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عبر المؤسسة السورية للمخابز، عن خطتها لزيادة عدد المخابز في مختلف المحافظات السورية وأريافها، وفقاً لمواصفات قياسية عالمية تهدف إلى تحسين جودة الخبز وتلبية حاجات المواطنين بصورة أفضل.
وقال مدير المخابز محمد الصيادي، إن “المؤسسة أجرت دراسة شاملة لطلبات إنشاء مخابز جديدة، لتحديد المناطق الأكثر حاجة بناء على عدد السكان والكثافة الجغرافية”، مشيراً إلى أن المخابز الجديدة ستتبع معايير عالمية من حيث التصميم والبناء والتجهيزات، “مما يضمن الحصول على منتج عالي الجودة”. وحدد الصيادي عدد المخابز الإضافية التي تحتاج إليها كل محافظة، فأشار إلى أن دمشق تحتاج إلى إنشاء سبعة مخابز جديدة، بينما ريف دمشق يتطلب ثمانية مخابز، وتتوزع الحاجة في باقي المحافظات، فحلب تحتاج إلى 45 مخبزاً، وحمص 13 وحماة خمسة واللاذقية 28 وطرطوس أربعة ودير الزور 12 وإدلب 33 ودرعا ثمانية مخابز، كما طمأن المواطنين بأن احتياط القمح المتوافر يكفي خمسة أشهر مقبلة.
وضمن خطة المؤسسة العامة السورية للمخابز لعام 2025 فإنها تعمل حالياً على تأهيل عدد من المخابز التي خرجت عن الخدمة بسبب تدهور البنية التحتية والأضرار التي لحقت بها خلال أعوام الحرب، وتشمل الخطة مكافحة الفساد والهدر في هذه المادة الحيوية التي تمثل عماد الأمن الغذائي للسوريين، كما ستعمل على تأمين مستلزمات إنتاج الخبز، بما في ذلك الدقيق والمحروقات والخميرة، إذ تبلغ الطاقة الإنتاجية لمخابز المؤسسة، البالغ عددها 250 مخبزاً نحو 5 آلاف طن يومياً، في حين يبلغ الإنتاج الفعلي نحو 3.9 مليون ربطة خبز يومياً، بوزن إجمالي يعادل 47 مليوناً و200 ألف رغيف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رفع الدعم
وفي ظل هذه الإجراءات انخفض استهلاك الطحين اللازم لصناعة الخبز في سوريا بمقدار 765 طناً، كما تراجع الإنتاج بنسبة 20 في المئة بعد الضبط الأولي للفساد واعتماد السعر الموحد، بحسب وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في الحكومة السورية الموقتة ماهر خليل الحسن الذي بين أن كلفة إنتاج كيلوغرام الخبز الواحد في السوق الحرة تبلغ نحو 40 سنتاً أميركياً، بينما يباع حالياً بسعر مدعوم يبلغ 20 سنتاً.
وفي وقت أعلن أن الدعم الحكومي عن الخبز سيتم إلغاؤه بالكامل في غضون شهر إلى شهرين قال أيضاً “سنواصل تحمل فارق كلفة إنتاج الخبز موقتاً، حتى يتم تحرير السوق بالكامل”، وبشر الحسن السوريين أن بلادهم ستصل إلى الاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح بحلول موسم 2026، وأن إنتاج سوريا من القمح لعام 2024 لم يتجاوز 700 ألف طن.
ورغم أن السوريين لمسوا بعض الفوارق على الأرض فإنهم غير راضين عن أداء المخابز في عدد من الأماكن وفي محافظات مختلفة ولا عن جودة الخبز، إذ يجري الحديث عن نوعية رديئة جداً، إضافة إلى اللعب بوزن الربطة الواحدة، فقد ظن كثر أن ما كانوا يعانون منه قد انتهى ليفاجأوا بعودة بعض أصحاب المحال التجارية من المعتمدين السابقين وغيرهم ليأخذوا أماكنهم وينالوا الحصة الأكبر لبيعها في الخارج بسعر أعلى، في وقت أبدى كثر رضاهم عن الوضع الحالي في بعض الأفران من ناحية الجودة وتوفير الوقت.
من الاكتفاء للاستيراد
وعلى مدى 20 عاماً، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة المكتفية ذاتياً من القمح، ويوجد لديها فائض تصدره، لكن الأهم أنها تملك أفضل البذور عالمياً، فقد اكتشف الباحثون أن البذور السورية هي الوحيدة التي لا تصيبها الآفات والحشرات من بين آلاف الأنواع من النباتات التي دمرتها الأمراض خلال تجارب حصلت في حقل بولاية كنساس الأميركية، ويشير الخبراء الأميركيون إلى أن ميزة البذور السورية قدرتها على التطور جينياً والحفاظ على خصائصها التي تمكنها من مكافحة الآفات والحشرات مع تغير الطبيعة المناخية للمكان.
ومنذ عام 1990 حتى عام 2011 حافظت سوريا على المساحة المزروعة بالقمح، وأبقت الإنتاج أعلى من الحاجة محتفظة بمخزون استراتيجي يكفي لعامين، إذ بلغ متوسط إنتاج البلاد من القمح خلال فترة 1995-2009 نحو 4 ملايين طن، وكان أعلى إنتاج عام 2006 بمقدار 4.9 مليون طن.
ومع انطلاق الحراك والحرب في سوريا، تدهور إنتاج القمح بصورة كبيرة واضطرت سوريا خلال عام 2012 إلى استيراد الطحين للمرة الأولى، فقد خرجت أكثر من نصف المناطق المنتجة للقمح في شمال وجنوب البلاد من الإنتاج، كما تراجعت المساحة المزروعة بالقمح، حيث كانت الأقل منذ الستينيات. وكانت سوريا خلال هذه الأعوام في حاجة إلى استيراد أكثر من 1.5 مليون طن من القمح سنوياً، ومعظمها من روسيا، ومع سقوط نظام بشار الأسد علقت روسيا إمدادات القمح إلى سوريا، وحجتها الحال الضبابية في شأن الحكومة الجديدة، إضافة إلى مشكلات تتعلق بالدفع.
في الأثناء قال وزير الزراعة الأوكراني فيتالي كوفال لـ”رويترز”، “إن كييف ترغب في توريد الحبوب إلى سوريا ومستعدة لذلك”.
وقد أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إرسال بلاده 500 طن من الطحين لسوريا في ظل مبادرة لاستعادة العلاقات مع سوريا وأخذ دورها في تأمين الغذاء العالمي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية