تتواصل خطوات الرئيس دونالد ترمب التي وعد بها لإنهاء الحرب الأوكرانية والتوصل إلى سلام بين روسيا وأوكرانيا. وبعد اتصال مطول بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أعلن عن الاتفاق على عقد لقاء تستضيفه السعودية، وأنه لا الاتحاد الأوروبي ولا أوكرانيا نفسها سيشاركان في هذا الاجتماع. ثم أوفد وزير خارجيته ماركو روبيو للقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للتحضير لهذه القمة، وكذا اجتماع ثلاثي شمل وزراء خارجية المملكة وروسيا والولايات المتحدة. وبعد ذلك، حاول وزير الخارجية روبيو تخفيف التصريحات السلبية تجاه أوروبا، وأنه سوف يكون لها دور ما في هذا الصدد، ولكنها تصريحات اتسمت بقدر من الغموض، على أن ترمب أفرغ محاولات التهدئة تجاه أوروبا وأوكرانيا بالهجوم على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

ومن ناحية أخرى، سارع الرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى الخليج والتقى الرئيس الإماراتي وكان من المفترض أن يزور السعودية وتم تأجيل الزيارة،  يبحث عن دور لبلاده في تقرير مستقبلها. ومن ثم كان في تركيا لقمة مع أردوغان تضمنت مساعي من الجانبين للمشاركة في المفاوضات حول مستقبل أوكرانيا. كما استضافت باريس قمة أوروبية مصغرة الأسبوع الماضي للإعراب عن الاستياء الأوروبي من هذا التهميش وللتأكيد على تحقيق ما يرونه سلاماً حقيقياً في النزاع الأوكراني.

لماذا يتجاهل ترمب حلفاءه؟

ربما يجب أن نبدأ من أن الولاية الأولى لترمب شهدت تقلصات عديدة في العلاقات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي ودوله المختلفة، وكان للرجل انتقاداته منذ حملته الانتخابية الأولى ضد فكرة تحمل بلاده أعباء اقتصادية كبيرة لحماية أوروبا، وأن هذه الدول قد قلصت إنفاقها العسكري عبر عقود اعتماداً على المظلة الأميركية، وأنه قد آن الأوان لتحملها مزيداً من هذه الأعباء التي تستثمرها لرفع مستوى معيشة مواطنيها وتدليلهم بحسب عقلية رجل الأعمال ترمب. ونتذكر هنا أنه على النقيض، بذل جو بايدن جهوداً كبيرة لإزالة الحساسيات التي خلفها ترمب، وواصل تحمل العبء الأكبر في تسليح أوكرانيا بل كان يضغط على الدول الأوروبية المترددة لزيادة دعمها العسكري والاقتصادي لكييف، ونجح بايدن في إعادة حشد أوروبا خلف واشنطن مرة أخرى بهذا الصدد.

وترمب من ناحية أخرى لديه وجهات نظر قوية ضد العجز التجاري لبلاده مع أوروبا ويريد تقليص هذا العجز بشتى الطرق، ولم ينفذ بعد تهديداته برفع الضرائب الجمركية، وخصوصاً أن أوروبا تنوي الرد بهذا الصدد.

وفي قلب هذا تبدو القضية الرئيسة وهي أن خلاصة رؤية ترمب لبلاده والعالم تنطلق من مفهوم القوة والسيطرة وأنه يريد تابعين وليس حلفاء، فهو لا يريد علاقة فيها قدر من الندية بين الجانبين، وإنما في الأساس أن القارة العجوز يجب عليها لكي تحافظ على قدر من رفاهيتها أن تدفع أكثر لأمنها وتخفف من مزايا مواطنيها، وأن تلعب بهدوء دور التابع لا الشريك. يضاف إلى كل ذلك أنه شاهد كثيراً من هؤلاء القادة الأوروبيين يتنفسون الصعداء لمغادرته البيت الأبيض ومجيء بايدن، ومعروف عنه ميله الشخصي للانتقام وتشخيص الأمور، بل وتسطيحها في منطق بسيط في ما يتعلق بالعلاقة معه.

 

هل لروسيا وبوتين مكانة خاصة لدى ترمب؟

عندما طرح ترمب في ولايته الأولى أن العدو الاستراتيجي لبلاده هو الصين، وتحدث عن تطوير العلاقات مع موسكو، وصدرت عنه تصريحات إيجابية حول الرئيس الروسي، تلقت مؤسسات الدولة الأميركية هذه التوجهات بقدر كبير من القلق وعدم التجاوب. وتم تسريب من خصومه الديمقراطيين، بل ومن مصادر لمؤسسات أميركية أن روسيا لعبت دوراً في دعم ترمب ووصوله للبيت الأبيض، بل وصل الأمر إلى حد اتهامات صريحة من بعض الأوساط الديمقراطية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثم كان وصول بايدن علامة على انتصار طرفين: من ناحية، مؤسسات الدولة العميقة من دفاع وخارجية واستخبارات التي تجد من المنطقي التحسب ضد روسيا، أكبر قوة نووية في العالم، حتى لو كانت ضعيفة اقتصادياً. ومن ناحية أخرى، المجمع العسكري الاقتصادي الذي تتماشى معه هذه المؤسسات. وبايدن هو التعبير عن التوجهات التقليدية لهذه الدولة، وأسفر هذا عن طرح بايدن وثيقته للسياسة الخارجية التي أشارت صراحة إلى أن واشنطن تعد تهديدات الأمن القومي الأميركي مصدرها كل من روسيا والصين معاً.

وفي ظل هذه الاستراتيجية، جاء الموقف الأميركي من الحشد العسكري الروسي ثم الحرب ضد أوكرانيا. فقد كان يمكن لواشنطن ببساطة احتواء الموقف الروسي وحتى بدء مباحثات تناقش دوافع ومخاوف موسكو، ناهيك عن الاستجابة لبعضها وإنهاء الحرب قبل نشوبها. ولكن بايدن، على العكس، لجأ للتصعيد والاستهانة بروسيا وكأنه يدفعها لشن الحرب، وتأكيد رؤيته الاستراتيجية، محققاً أهدافاً عديدة، منها استنزاف روسيا وعزلها، وحشد أوروبا خلفه، وإنهاء حال التململ والقلق التي أثارها ترمب، ممهداً الطريق كذلك للمجمع العسكري الاقتصادي الأميركي للازدهار، وتبرير الإنفاق العسكري الهائل، وكذا الصادرات التي تغذي أرباح هذا القطاع الحيوي الذي كان يعد تاريخياً قاطرة هذا الاقتصاد.

 

ولكن ترمب عاد أقوى من ولايته الأولى بتفويض شعبي أكبر وبحرية حركة غير مسبوقة، وبتعيين موالين لا يشترط فيهم الكفاءة بقدر الولاء المطلق والتغني بعظمة الرئيس.

ومعنى هذا أن ترمب يريد تغيير السردية الخاصة بروسيا، ولم توضح رؤيته ما إذا كان هذا يعود لإعجاب سبق له التعبير عنه تجاه الرئيس الروسي، أم أن لديه هدفاً آخر من إبعاد موسكو عن بكين وتطبيق الاستراتيجية التي سبق لكيسنجر تجربتها بإبعاد بكين عن موسكو والاستثمار فيها. كما أن ترمب، وربما لا يقل هذا أهمية، يعود بتحالف قوى اقتصادية هائلة صاعدة وهي قطاع التكنولوجيا والمعلومات، ولا يدين بشيء للمجمع الصناعي العسكري، وهو ما ناقشناه في مقال سابق.

دروس أوروبية

من المؤكد أن تحولات السياسة الأميركية وتقلباتها الحادة يجب أن تنتج عنها رسالة واضحة لأوروبا التي خسرت في الحالين، وفي ظل ثلاث إدارات متعاقبة من ترمب فبايدن ثم ترمب، فقد كشفت حجم التبعية والضعف الأوروبي، إذ لا يوجد ديغول ولا حتى ميركل من قادة لديهم قدر من التأثير والوزن الدولي والتأثير على موسكو أو واشنطن. وفي الحقيقة، أن ما حدث عبر الثلاث إدارات كان مهيناً للغاية للجانب الأوروبي. وعودة لحال فرنسا على سبيل المثال كاشفة بهذا الصدد، ففي بدايات الحرب الأوكرانية، أصدر الرئيس إيمانويل ماكرون بعض التصريحات حول دور أو محاولة احتواء مخاوف روسيا، وفي مرحلة أخرى أبدى تشككاً في الاستجابة لطلبات أوكرانيا. وفي هذه المراحل وغيرها كان يتعرض لضغوط حلفائه وأكثر من واشنطن للتراجع، وكان هذا يحدث أحياناً بشكل سريع ومحرج. بل حتى الطريقة التي عامله بها ترمب خلال مشاركته في مراسم تتويجه كاشفة عن الوزن المحدود للرئيس الفرنسي والتعالي الذي يمارسه ترمب تجاهه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى صعيد آخر، تأتي المملكة المتحدة التي كانت قانعة بدورها كحليف خاص لواشنطن لتجد من الإدارة الأميركية الجديدة تجاهلاً وتعالياً ربما غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين بعد الحرب العالمية الثانية، ويزيد من الطين بلة أن الحكومة العمالية الحالية لكير ستارمر ليست على هوى ترمب ورجاله، خصوصاً إيلون ماسك الذي تورط فعلاً في تصريحات وتصرفات مهينة لهذه الحكومة وداعمة لليمين البريطاني المتطرف، وهو ما فعله أيضاً في حال ألمانيا.

المخاوف من النزعة الإمبراطورية الروسية

لا يمكن تجاهل خطورة الرسائل التي أطلقها بوتين في المراحل الأولى للحرب حول حقوق تاريخية وتهييج لمشاعر ومفاهيم توسع إمبراطورية واضحة. من هنا انتشرت سردية في أوروبا حول مشابهات مع النزعة التوسعية لهتلر وأهمية التعلم من التاريخ الأوروبي بهذا الصدد. وفي الحقيقة، أن جانباً من هذه المخاوف له ما يبرره، ولكن من المؤكد أيضاً أن الغرب تعامل بنهج فيه استعلاء وتجاهل لروسيا، وكان يمكن تجنب كل هذا واحتواء روسيا التي تطلعت لقدر من التقارب الحقيقي مع أوروبا. وفي تقديري أن هذا البعد على قدر كبير من الأهمية ويستحق فحصاً ونقاشاً حقيقياً في موضع تالٍ.

كفة الحياد تترجح في الحرب الأوكرانية

في الحقيقة، أن اختيار العاصمة السعودية الرياض مقراً للمباحثات الأميركية- الروسية والقمة القادمة بهذا الصدد هو أكبر دليل على صحة وسلامة موقف من رفضوا الخضوع لواشنطن تجاه مزيد من الاستقطاب والسير خلف إدارة بايدن في الحرب الأوكرانية ومحاولتها عزل روسيا دولياً. وهو موقف كثير من الدول العربية والأفريقية. وفي الحقيقة، أن هذا الأمر لا يعزز فقط مواقف رفض التبعية والانقياد الأعمى خلف واشنطن، بل ينسحب هذا أيضاً حتى تجاه إدارة ترمب، رغم كل تهديداته ضد من لا يتبع أي موقف متطرف تتخذه هذه الإدارة. وبالنهاية، فإن الدرس الأكبر الذي على أوروبا استيعابه هو أن الانقياد خلف واشنطن لا يحقق مصالحها بالضرورة، وعليها أن تجد طريقها لاحتواء روسيا التي لن تغادر أوروبا.

نقلاً عن : اندبندنت عربية