عُرفت الرسامة رباب نمر بأسلوبها المتفرد الذي مزج بين القوة التعبيرية للأبيض والأسود، والجرأة في توظيف الألوان لاحقاً، مما جعل أعمالها علامة فارقة في تاريخ الفن التشكيلي الحديث.
وُلدت رباب نمر عام 1939، وتخرجت في كلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية عام 1963، لتبدأ رحلتها الفنية التي امتدت أكثر من خمسة عقود. أكملت دراستها العليا في جامعة سان فرناندو الإسبانية، وحصلت على درجة الأستاذية في الفنون، مما منحها رؤية عالمية أثرت تجربتها الفنية. شاركت نمر في عشرات المعارض المحلية والدولية، وأقامت معرضاً سنوياً في قاعة الزمالك للفنون – القاهرة، الذي كان منصة لعرض تطورها المستمر خلال العقدين الأخيرين.
تميزت رباب نمر في بداياتها بالتركيز على الرسم بالأبيض والأسود واستخدام الحبر الصيني، بحيث وجدت في هذه الخامة بساطةً تتناسب مع طبيعة حياتها المتنقلة بين التدريس والإبداع. كانت الورقة وأقلام الحبر أدواتها المفضلة لخلق عوالم سردية مليئة بالكائنات المتحجرة والوجوه الإنسانية الغامضة. في لوحاتها، يتحول الخط إلى لغة بصرية تحكي قصصاً عن الوجود الإنساني، بينما تتحكم التموجات الرمادية في إيقاع الظل والنور، مُشكِّلةً تكويناتٍ أشبه بتماثيل حجرية قديمة تنبض بالحياة. قالت نمر في إحدى مقابلاتها: “الأبيض والأسود هما عنصرا البناء الأساسيان. الأسود يؤكد الظل والأبيض يخلق الضوء. الحبر الصيني كان خامة ساحرة لإيصال ما أريد.”
البحر الحاضر الغائب
نشأت رباب نمر في الإسكندرية، المدينة الساحلية التي تركت بصمتها العميقة على مخيلتها الفنية. انعكس البحر في أعمالها كمساحة زرقاء مهيبة، تتداخل مع ذكريات الطفولة وشباك الصيادين، والأسماك التي تحولت إلى كائنات ودِيعة. في لوحاتها، تظهر العناصر البحرية، كالمراكب وشباك الصيد متشابكة مع الأجساد البشرية، وكأنها جزء من نسيج واحد. هذه العلاقة الثنائية بين الإنسان والطبيعة جسدتها نمر عبر تكوينات غرافيكية محكمة، تذوب فيها الحدود بين الكائنات، فتصير السمكة رفيقة الرجل والطائر شاهداً على حكايات البحر الخفية.
من السمات البارزة في أعمال رباب نمر تكويناتها الجماعية التي تشبه “الكورس الحجري”، حيث تظهر الجموع البشرية متلاصقة ككتلة واحدة، مع تناغم دقيق بين الخطوط والمساحات الرمادية. هذه التكوينات التي بدت كتماثيل فرعونية تحمل تعابير حزينة، لكنها تنضح بحيوية خفية، كأنها تردد أناشيد قديمة. عبر هذه الجموع استطاعت نمر التعبير عن فكرة التواصل الإنساني والطاقة الكامنة في الجماعة، مستخدمةً التضاد بين الأبيض والأسود لخلق إيقاع بصري متماسك.
ظلت رباب نمر وفيةً لعالم الأبيض والأسود لعقود، حتى قررت في 2006 خوض مغامرة جديدة بإدخال الألوان إلى لوحاتها. بدأ اللون يتسلل كـ”زائر متلصص”، على حد وصفها، في زوايا مظلمة أو تفاصيل صغيرة، ثم تطور ليصبح عنصراً رئيسياً يغطي مساحات واسعة. ورغم هذا حافظت نمر على التوازن مع الأبيض والأسود، حيث قالت ذات مرة: “اللون جاء ليعزز الضوء… لم يعد الأبيض وحده قادراً على حمل هذه المهمة.” لم تكن هذه المغامرة مجرد تغيير تقني، بل تعبيراً عن رحلة فنية متجددة، حوّلت البقع اللونية الخجولة إلى مساحات تعكس تنوع الضوء وتفاعله مع العناصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ركزت أعمال رباب نمر على فكرة الحوار بين الذات والعمل الفني، كي تخلق عالماً يسكنه الغموض والإنسانية في آن واحد. وعبر مزيج من التعبيرية والتجريد، قدمت لوحاتٍ تُحفَز المشاهد على التأمل في العلاقات الإنسانية والطبيعية، مع تركيزها على الرمزية التي تجعل كل عنصر في لوحتها حاملاً لرسالة.
رحلت رباب نمر، لكن إرثها بقي في تلك التكوينات الحجرية التي لا تكف عن الغناء، وفي الألوان التي حوّلت الظل والنور إلى سمفونية بصرية. أعمالها ستظل شاهدةً على جرأة فنانةٍ لم تخشَ التجديد، ووثّقت بفرشاتها حكايات البحر والإنسان بأسلوب فنيٍّ فريد.
نقلاً عن : اندبندنت عربية